تابعت الصحافة الاستعمارية الفرنسية الصادرة بالجزائر، باهتمام بالغ، أحداث ووقائع ثورة التحرير الجزائرية، وأجمعت كصوت واحد على المناداة بضرورة خنق الثورة في مهدها، وأظهرت دفاعا مستميتا عن فكرة الجزائر فرنسية، ولم تتردّد في إلصاق التهمة بالخارج لاسيما تونس ومصر، محاولة بذلك إقناع الرأي العام الفرنسي والعالمي بالمؤامرة الخارجية .. وأمام الدعاية الاستعمارية الشرسة المضادة للثورة الجزائرية في بداية انطلاقها، كان لزاما على الثورة المباركة أن تؤسّس إعلاما ثوريّا خاصا بها لدحض دعايات العدو والردّ عليها وتعبئة الجماهير والتفافها حول أهداف الثورة وتوجّهاتها وإعطاء العالم صورة حقيقية عن الثورة الجزائر وكفاحها المرير ضدّ أشرس قوّة استعمارية. كان مؤتمر الصومام قد أكّد على أهمية وفعالية سلاح الإعلام في الثورة، ونتيجة لذلك أسّست صحيفة المقاومة الجزائرية في نوفمبر 1955 ودعّمت هذه الصحيفة في شهر جوان 1956 بصحيفة المجاهد. وفي عام 1957 توقّفت جريدة المقاومة، وبقيت المجاهد جريدة الثورة الجزائرية ولسانها الوحيد والمعبّر الحقيقي عن أهدافها ومبادئها وتوجّهاتها. قامت الصحيفة بدور كبير في تنوير الرأي العام الجزائري والدولي بحقيقة نوايا فرنسا الاستعمارية في الجزائر من خلال فضح أساليبها ومخطّطاتها التي تستهدف هوية الأمة وأصالتها من جهة، ووحدة الشعب الجزائري الوطنية من جهة أخرى. وكان الاعتداء الاستعماري الفرنسي الوحشي على قرية ساقية سيدي يوسف التونسية الحدودية في الثامن فيفري 1958 من أبرز الأحداث التي تركت صداها في صحيفة المجاهد الثورية الجزائرية، كما لقي هذا الحدث اهتماما خاصا من قبل الصحافة الكولونيالية الصادرة بالجزائر. فكيف كانت مواقف الصحافتين الجزائرية والكولونيالية من هذا الاعتداء؟ وما مدى المصداقية التي التزمت بها كلّ صحافة في معالجة هذا الحدث؟ مأساة ساقية سيدي يوسف.. ساقية سيدي يوسف، قرية تونسية على الحدود مع الجزائر، تعرّضت لقصف جوي من الطيران الفرنسي بتاريخ الثامن من شهر فيفري عام 1958 بدعوى متابعة الثوار خارج الحدود، حيث تعرّضت القرية لوابل من القنابل الفتّاكة من قوات الاستعمار واختلطت فيها دماء أبناء البلدين رمزا للكفاح المشترك بين أبناء المنطقة الواحدة. ففي الثامن من فيفري، قامت أكثر من عشر طائرات حربية فرنسية بقنبلة القرية لمدّة تفوق ساعة من الزمن، ألقت خلالها بأطنان من القنابل، ثم أصدرت قيادة الجيش الفرنسي بلاغا تقول فيه إنّ الطائرات دمّرت مراكز الثوار الجزائريين، وأنّها دمّرتها بنسبة خمسين في المئة، فأسرع رجال الإعلام من التونسيين والفرنسيين والأجانب إلى عين المكان، وأذهلهم ما وجدوا.. قرية مدمّرة وجثث الضحايا من كلّ الفئات.. وقد كانت حصيلة هذا العمل الإجرامي ثقيلة، حيث سقط ما لا يقل عن 68 شهيدا أغلبهم من اللاجئين الجزائريين، وعدد من التونسيين، ومنهم أطفالا لقوا حتفهم داخل أقسام الدراسة، هذا إضافة إلى الخسائر المادية الجسيمة. وبعد إدراك الحكومة الفرنسية لفداحة الخطأ من قبل أجهزتها العسكرية، نفت مسؤوليتها عن الأحداث وتنصّلت منها أمام الجمعية الوطنية، عندما اعتبرت القصف عملا معزولا قام به الجيش الفرنسي في الجزائر في معزل عن أيّ أوامر أو تخطيط مسبق من قبل الحكومة. بهتان صحافة الكولون.. برّرت الصحافة الاستعمارية هذا العدوان وعملت على تسويغه، حيث اعتبرته دفاعا عن القوات الفرنسية التي طالتها اعتداءات جيش التحرير الوطني، مبرزة الخسائر التي منيت بها القوات الفرنسية، والمتمثلة في خمسة عشرة قتيلا وتعرّض طائراتها للقصف من قبل الدفاع المضاد للطيران، وأسر خمسة عسكريين من قبل جبهة التحرير الوطني، حسب ما روّجت صحيفة ECHO D'ALGER التي كتبت تقول: "فرنسا الضعيفة تدافع عن نفسها". ولم تتوان الصحيفة في التأكيد على دعم النظام التونسي البورقيبي للثورة الجزائرية، مشيرة لذلك في إحدى افتتاحياتها بقولها: "رغم إعلانه عن تعلّقه بالغرب (الحبيب برقيبة) إلاّ أنّه لم يكف عن تقديم كلّ التسهيلات للفلاقة لنصب قياداتهم بتونس وتشكيل قوّاتهم، وتنظيم مراكز تدريباتهم العسكرية، وغالبا ما تم ذلك في وفاق وتفاهم مع الحرس الوطني التونسي، وهذا كقاعدة للانطلاق في اعتداءاتهم على فرنسا في الجزائر، مع العلم أنّ هؤلاء الفلاقة تساندهم موسكو والقاهرة". ونشرت الصحيفة في الثامن فيفري مقالا لأندري موريس، قال فيه إنّه يجب وضع حدّ لدخول الأسلحة للجزائر عبر تونس، وضرورة إتمام الخط المكهرب في الشرق الجزائري، كما قامت الصحيفة بالتعتيم على الخسائر التي ألحقت بالسكان في صفحتها الافتتاحية من العدد الصادر بتاريخ 10 فيفري 1958، وقالت: "..عشر القرية هو الذي تعرّض للقصف فقط، كذلك لم يمسّ القصف أيّ سيارة صحية أو مدرسة أو بريد أو مسجد، ولا حتى المستشفى"، بينما نجد الصحيفة تخفي حقائق هذا العدوان في صفحاتها الداخلية أين أشارت إلى تعرّض قسم كبير من القرية للقصف والدمار وتعترف بوجود ضحايا وجرحى في صفوف المدنيين الأبرياء، وهذا تحت تأثير حضور بعثة الصليب الأحمر الدولي بتونس، ما جعل الصحيفة تبدي هذا الموقف المتحايل من العدوان. نفس الموقف أبدته جريدة الجزائر الاستعمارية من العدوان، حيث برّرته ب«الدفاع عن النفس وقمع للخارجين عن القانون" ودافعت عنه بطريقة أو بأخرى، من خلال ما جاء في عددها الصادر بتاريخ 10 فيفري 1958، قائلة: "تصدّيا لهجوم الدفاع المضاد للطيران، يقوم الطيران الفرنسي بقصف ساقية سيدي يوسف، والنتيحة 75 قتيلا". والواقع أنّ الصحافة الاستعمارية خاطبت الفرنسيين بقولها: "إنّنا ندافع عن أنفسنا في الجزائر ضدّ قطاع الطرق والفلاقة والخارجين عن القانون، إذن قصف الساقية لا يعتبر سوى قمع للمجرمين وممارسة حقّ الملاحقة ضدّهم". وفي سياق الحديث عن ردّ الفعل التونسي والعالمي إزاء العدوان، حاولت الصحافة الاستعمارية "التقليل من أهمية المواقف الدولية تجاه هذا الحدث، حيث أدرجت أخبار ومواقف المنظمات الدولية والإقليمية ومظاهرات الشعب التونسي في الصفحات الداخلية وفي فقرات صغيرة، إلى درجة أنّ القارئ يمكن أن يمر دون التوقّف عندها ودون أن تلفت نظره. كما حاولت هذه الصحافة، وعلى رأسها صحيفة صدى الجزائر، إبراز علاقة الخارج وتحديدا الإتحاد السوفياتي بما يجري في الجزائر عامة، وبأحداث ساقية سيدي يوسف خاصة من خلال إشارتها ضمن عددها الصادر بتاريخ 09 فيفري 1958 إلى تضامن الاتحاد السوفياتي مع الشعب الجزائري، حيث بعث هذا الأخير بباخرة من مدينة أوديسا محملة بالمواد الغذائية لمساعدة اللاجئين بتونس، كما شدّدت هذه الصحيفة على إبراز ردّ الفعل الانتقامي للرئيس بورقيبة الذي أقدم على غلق خمس قنصليات فرنسية في الجمهورية التونسية. وأمام هذه الدعاية الاستعمارية المضللة، تصدّت صحيفة المجاهد الثورية الجزائرية لمجابهتها فكيف تم ذلك؟ جولات الثوار.. واكبت "المجاهد" كلّ أحداث العدوان الاستعماري الذي استهدف قرية ساقية سيدي يوسف التونسية، وفتحت بعنوان "قرية ساقية سيدي يوسف الشهيدة فضحت مسؤولية الاستعمار العالمي" لتكتب في عددها 18 الصادر بتاريخ 15 فيفري 1958 عن العمل الإجرامي الممنهج، وأشارت إلى ذلك بقولها: "إنّ الإعتداء المدبّر الذي ذهبت ضحيته قرية ساقية سيدي يوسف التونسية، صباح يوم 8 فيفري 1958، قد بين مرة أخرى بصورة لا تقبل الجدال مبلغ الإجرام من العمل الذي تقوم به الحكومات الفرنسية في شمال إفريقيا. منذ ثلاث سنوات ونحن نفضح هذه الوحشية ولم نكن نتبع الخيال ولا الغضب، ولا نرمي إلى دعاية وضيعة، لقد كنا نقف عند حدود الوقائع". ولم تتردّد المجاهد في فضح العدوان الهمجي الوحشي الذي استهدف المدنيين الأبرياء أمام مرأى العالم حيث أشارت لذلك بقولها: "وفي هذه المرة كانت الصحافة الأجنبية وكان شهود لا تردّ شهادتهم، وكان ممثل الصليب الأحمر الدولي.. كانوا كلّهم حاضرين، لقد استطاعوا أن يتأكّدوا بأنفسهم كيف تقوم فرنسا بحربها الإبادية ضدّ الشعوب التي تناضل للتخلّص من الاستعمار". وقامت "المجاهد" بتفنيد ادّعاءات الحكومة الفرنسية التي برّرت القصف والعدوان بكونه استهدف ثوار جزائريين من خلال البلاغ الذي أصدرته، وممّا جاء فيه : "إنّ القصف كان مجرّد ردّ فعل، وإنّ الطائرات الفرنسية توجّهت بقصفها إلى مراكز معينة وهي تجمّعات الثوار الجزائريين التي تقع على بعد كيلومتر ونصف جنوب قرية الساقية". غير أنّ المجاهد تمكّنت من فضح التضليل الفرنسي من خلال شهادات الصحفيين ومصوري السينما من التونسيين والفرنسيين والأجانب الذين سارعوا إلى المكان بعد ساعات قليلة من صدور البلاغ الفرنسي، واستطاعوا أن يتحقّقوا من الواقع.. "إنّ ما سماه البلاغ الفرنسي ب«معسكر الثوار ومراكز المدافع المضادّة للطائرات وحشد الثوار"، لم يكن في الواقع إلا دكاكين متواضعة وسوق مزدحمة بسكان القرية وضواحيها الذين جاؤوا للتزوّد منها بحاجياتهم".. لقد شهد الجميع أنّ ثلاثة أرباع القرية دمّرت، ورأوا الأسلاك التيليفونية في الطرقات ورأوا السلع وأكياس الدقيق والخضر والبقول قد اختلطت بتراب سقوف الدكاكين المنهارة عليها، ورأوا سواقي الزيت تتلاقى مع سواقي الدّماء.. إنّ الآلات الوحيدة التي دمّرها الطيران الفرنسي بساقية سيدي يوسف هي سيارات الصليب الأحمر الدولي. إنّ الطيارين الفرنسيين لم يحترموا حتى هذه الهيئة الإنسانية فرموا عليها الموت بنفس الاحتقار الذي تعوّدوا أن يرموا به الموت على الجزائر.. وفي تصويرها المشهد الرهيب لضحايا العدوان كتبت المجاهد: .. وأخيرا نقلت هذه الجموع من الجثث إلى مرقدها الأخير، وإن لم تكن - في الواقع - جثثا كاملة، بل كانت أقرب إلى الأشلاء والأعضاء المبتورة والأجسام المجزّأة حتى لم يكن من الممكن دفن كلّ واحد على حدة. وكان لابد من جمعها في سبع خنادق طويلة لتدفن فيها تلك البقايا من البشر". وحملت الصحيفة الأممالمتحدة مسؤولية الحادثة، بقولها: "إنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما (تخلّصت) من القضية الجزائرية، في شهر نوفمبر الماضي، بمجرد إصدار لائحة على الورق لم تتبعها بأيّ عمل، كانت تعرف أنّها بذلك لم تحلّ المشكلة. ولم تقدّر أنّ تخلّصها من الجزائر واستهانتها للمرة الثالثة لن يدفع فرنسا إلى مواصلة الحرب فحسب، بل على أن تمدّ يدها في هذه المرة إلى جميع الأبرياء، كما مدّدتها في سنة 1956 إلى الشرق الأوسط.. إنّ الجمعية العامة عندما أرجعت كرة القضية الجزائرية إلى فرنسا بهذه السهولة كانت في الواقع صاحبة ضلع في المسؤولية عما أصبحت عليه هذه الكرة اليوم من الضخامة والخطر. وعلى مجلس الأمن أن يتدارك خطأ الجمعية العامة بالأمس، إذا أرادت أن تتلافى خطرا أكبر منه في الغد. لم تكن ساقية سيدي يوسف سوى امتداد لسياسة القمع الاستعماري المسلّط على الشعب الجزائري وكان مآلها الفشل في تحقيق أهدافها في عزل الجماهير عن ثورتها كغيرها من الأساليب الاستعمارية. في الختام.. واضح أنّ الصحافة الكولونيالية اشتغلت على تبرير للعدوان الفرنسي على ساقية سيدي يوسف، حيث اعتبرته دفاعا عن النفس، وضمانا لأمن فرنسا ومصالحها في الجزائر، وهذا جليّ في تأكيدها أنّ قصف الساقية ليس سوى قمع للمجرمين وممارسة حقّ القوات الفرنسية في ملاحقة جيش التحرير الوطني. وقد حرصت صحافة الكولون على إخفاء الحقائق المتعلّقة باستهداف العدوان للمدنيين الأبرياء بما فيهم شريحة الأطفال، ومخلّفاته المادية والبشرية، بل إنّها تعمّدت إخفاء أخبار مواقف المنظمات الدولية والإقليمية ومظاهرات الشعب التونسي المندّدة بالعدوان الفرنسي، بينما حرصت على التنديد بالحكومة التونسية المتعاطفة مع الشعب الجزائري وجبهة التحرير الوطني. واضح أيضا أنّ موقف الصحافة الاستعمارية من العدوان يندرج ضمن الخطاب الصحفي الاستعماري السائد خلال هذه الفترة والقائم بالدرجة الأولى على وجوب الدفاع عن فكرة الجزائر فرنسية والقضاء على الثورة الجزائرية بأيّ ثمن، غير أنّ صحيفة "المجاهد" تصدّت للبهتان الكولونيالي وقدّمت أحداث الساقية في صورتها الحقيقية، عملا إجراميا استعماريا فرنسيا ممنهجا الهدف منه إرهاب الشعب التونسي وعزل الجزائر عن شقيقتها تونس، ولقد حطّمت المجاهد كلّ الادّعاءات والأكاذيب والحملات الدعائية التي كان يروّجها الاستعمار الفرنسي في أوساط الرأي العام العالمي والفرنسي حول هذه الأحداث، وذلك بتنويره بالحقائق.