بقلم: محمد بوتبان بسمة * تمر علينا 58 سنة من وقوع أحداث ساقية سيدي يوسف المؤلمة التي امتزجت فيها دماء الشهداء التونسيين والجزائريين. لم تحتفل تونس بعد بعيد استقلالها الثاني ولم تنعم طويلا بعيد الحرية عندما راحت فاتحة ذراعيها لإخواننا الجزائريين التائقين بدورهم إلى الانعتاق من نير الاستعمار البغيض خاصة وأن الثورة التحريرية دخلت مرحلتها الحاسمة. ولم تكن تونس ملاذ المدنيين فقط بل اتخذ منها المقاومون قواعد آمنة فكانت منطلقا للعديد من العمليات الموجهة ضد المستعمر. وقد لعبت جهة الكاف دورا كبيرا في هذا الاتجاه. ولم يكن ذلك ليرضي السلطة الاستعمارية بالجزائر ولا الأوساط اليمينية المتطرفة في فرنسا. ويوم السبت 8 فيفري 1958 هو يوم سوق أسبوعية بقرية ساقية سيدي يوسف وهي قريبة جدا من مدينة لحدادة الجزائرية حيث شكلت منطقة استراتيجية لوحدات جيش التحرير الوطني الجزائري المتواجد على الحدود الشرقية والذي استخدمها كقاعدة خلفية للعلاج واستقبال المعطوبين ولم يكن المستعمر الفرنسي يجهل ذلك عندما اختار هذا اليوم بالذات للقيام بعدوانه الغاشم على هذه القرية الآمنة. وقد صادف ذلك اليوم حضور عدد هام من اللاجئين الجزائريين الذين جاؤوا لتسلم بعض المساعدات من الهلال الأحمر التونسي والصليب الأحمر الدولي وقد استهدف القصف عدة أمكنة استراتيجية منها المدرسة الابتدائية وغيرها من المباني الحكومية ومئات المنازل فيما كانت المطاردات تلاحق المدنيين العزل الفارين بأرواحهم بعيدا عن القرية. دواعي وظروف المجزرة بالرغم من ضغط الرئيس التونسي (لحبيب بورفيبة) مرارا على قادة الثورة لكي لا يقوم جيش التحرير بأي عمليات عسكرية ضد الفرنسيين على الحدود أو انطلاقا من الأراضي التونسية خاصة وأن الفرنسيين هددوا (بورفيبة) بمتابعة المجاهدين إلى داخل التراب التونسي كما أنّ قادة الثورة ممثلين في لجنة التنسيق والتنفيذ أعطوا أوامرهم بتجنب القيام بعمليات عسكرية على الحدود. ومع ذلك وعند تزايد شكاوي اللاّجئين من اعتداءات الجيش الفرنسي عليهم وعلى ممتلكاتهم قرّر المجاهدون نصب كمين للكتيبة الفرنسية بالمركز المسمّى 28 وقال الرائد الطّاهر زبيري لقادة الفيلق الثالث: (لا بدّ من نصب كمين محكم وتوجيه ضربة قوية للفرنسيين) وأضاف: (وهذا لا يعني ضرب الحيطان والهرب عند بورفيبة) وكان (الزبيري) يقصد أنه يجب توجيه ضربة نوعية إلى القوات الفرنسية وليس مجرد محاصرتهم في مراكزهم المحصنة وإطلاق النار على العدو المختبئ وراء الحيطان التي لا يخترقها الرصاص ومن ثم الانسحاب إلى الحدود التونسية للاحتماء بها من الهجومات المضادة التي تشنها القوات الفرنسية باستعمال الطيران والمدفعية دعمت بثلاثة قادة الفصيل الأول بقيادة العياشي حواسنية ونائبه عبد السلام بخوش الفصيل الثاني بقيادة حمه لولو ونائبه بن علاله أمّا الفصيل الثالث فبقيادة صالح مسادي المدعو (نهرو) ومعه نائبه مصطفى الوهراني تم الكمين بنجاح ووقع خمسة منهم أسرى بين أيدي المجاهدين الذين غنموا أسلحتهم واستُشهد في هذه المعركة مجاهدين اثنين أمّا الصّحف الفرنسية فأعلنت عن فقدان 22 عسكريا فرنسيا. حاول الرائد الطاهر زبيري في البداية إخفاء حقيقة الأسرى حتى لا تتعرض قيادة الثورة لضغوطات الرئيس التونسي لحبيب بورفيبة خاصة بعد الاحتجاجات شديدة اللهجة التي تقدمت بها فرنسا إلى تونس وقد استدعت لجنة التنسيق والتنفيذ سي الطّاهر وكان من بين من التقاهم عبان رمضان المكلف بالإعلام ورضا مالك وعلي بومنجل ومحمد يزيد وسألوه عن تفاصيل معركة (القوارد) ونسوا معركة (جبل واسطة) ولم يطلبوا منه تسليم الأسرى ولكن بعد ازدياد الضغوط الفرنسية والتونسية لتحرير الأسرى قرّر الرائد زبيري الدخول مع فصيلين من الجنود وعبور (خط موريس) حتى لا يصبح مطلوبا لدى السلطات التونسية أو لدى مسؤولي الثورة. تفاصيل المجزرة وفي ظل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر بين فرنساوتونس وجيش التحرير وبعد 28 يوما من أسر الجنود الفرنسيين وعجز المسؤولين الفرنسيين والتونسيين عن تحريرهم وفشل جميع الوسائل لإقناع جيش التحرير بإطلاق سراح الأسرى الفرنسيين وشعور الجيش الفرنسي بالمهانة والإذلال على يد جيش التحرير اتّهم النقيب (آلار) التونسيين بدعم جيش التحرير في (معركة جبل واسطة) بقوله: (بورفيبة متواطئ) وادّعى أنّ شاحنات للحرس التونسي نقلت الجنود الجزائريين إلى قواعدهم جنوب القرية غير أنّ (الطّاهر الزبيري) قائد هذه العملية ينفي مشاركة الحرس الوطني التونسي بأيّ شكل من الأشكال في هذه المعركة. شرع جنرالات الاحتلال في التّفكير بطريقة لإعادة الاعتبار لكرامتهم والانتقام من الجزائريين والتونسيين على حد سواء فاقترحوا إرسال قوات مظلية ودبابات وطائرات لقصف أهداف مراكز جيش التحرير في مدن وقرى تونسباجه سوق الأربعاء غار الدماء تالة الكاف تاجروين القصرين تلابت ساقية سيدي يوسف غير أن باريس كانت تميل إلى عمل عسكري تستعمل فيه الطائرات دون تدخل القوات البرية أو المحمولة جوا قام الطّيران الفرنسي في 8 فيفري 1958 بقصف وحشي لقرية (ساقية سيدي يوسف) التونسية التي كان يسكنها الكثير من اللاّجئين الجزائريين ويتردد عليها أفراد من المجاهدين لاقتناء بعض الحاجيات خاصة أن القرية كان بها سوق شعبي والقصف كان في ساعة الذروة لذلك كان عدد الضحايا كبيرا سواء في أوساط الجزائريين أو في أوساط التونسيين قُدّر بمئات القتلى فكانت مجزرة مروعة بحق حيث قامت 27 طائرة حربية فرنسية من نوع (بي27) تحمل قنابل تزن الواحدة منها ربع طن وصواريخ جو أرض بقَنْبَلة القرية بوحشية بداية من الساعة الحادية عشر وعشر دقائق ولمدة تفوق ساعة من الزمن والتي ألقت فيها بأطنان من القنابل ثمّ أصدرت قيادة الجيش الفرنسي بلاغا تقول فيه إن الطائرات الفرنسية دمّرت مراكز الثوار الجزائريين على بعد كيلومتر ونصف عن قرية (ساقية سيدي يوسف) بنسبة 50 بالمائة فأسرع الصحافيون ومصورو السينما من التونسيين والفرنسيين والأجانب إلى عين المكان ووجدوا ما أذهلهم قرية دمّرت بأكملها ودُفن أهلها بسبق الإصرار والترصد وصار سوقها الأسبوعي في خبر كان كما هُدّمت مدرسة القرية وتناثرت فوق أنقاضها أشلاء الأطفال وأدواتهم المدرسية ولم يوجد أي أثر لأي مركز لجيش التحرير أو لجنوده أو سلاحه وتأكّد حينها العالم من كذب البلاغات العسكرية الفرنسية واطّلع بدهشة على انفعالات الثورة الجزائرية على الأمن في المنطقة وتبين للرأي العام العالمي ضرورة الإسراع بإيجاد حل للقضية الجزائرية. كان رد بورقيبة على هذه المجزرة برفع دعوى إلى مجلس الأمن الدولي في 12 فيفري 1958 تُطالبه بإدانة هذه الجريمة ونظّم حزب (الدستور الجديد) مظاهرات في ربوع البلاد رافعا شعارا واحدا (الجلاء) وحاصر المتظاهرون التونسيون الثكنات الفرنسية المتبقية على الأرض التونسية مطالبين بجلائها بشكل كامل عن أرضهم وكانت للرئيس التونسي سُمعة دولية خاصة لدى المعسكر الغربي لأنّه رفض تبني النمط الاشتراكي والدخول تحت نفوذ جمال عبد الناصر. وقد كان مندوب الصليب الأحمر (هوفمان) متواجدا بساقية سيدي يوسف أثناء القصف. فقد وصل ومعاونوه حوالي الساعة العاشرة قصد توزيع الإعانات الغذائية وغيرها على اللاجئين الجزائريين. وقد كان بصدد زيارة مأوى اللاجئين صحبة المعتمد عندما وقع القصف. وصرح في شهادته أن القاذفات الفرنسية التي هاجمت الساقية ودمرتها حطمت أيضا عربات الشحن التابعة للصليب الأحمر . . . وهي أربعة عربات: ثلاثة عربات منها تابعة للصليب الأحمر السويسري وواحدة تابعة للهلال الأحمر التونسي وكلها مشحونة بالملابس المعدة لتوزيعها. شهادات المجاهدين من بين مجاهدي الثورة الذين عاشوا أحداث ساقية سيدي يوسف المجاهد (عيسى عرعار) والذي يروي شهادته الحصرية أن أحداث ساقية سيدي يوسف هي معركة الواسطة كان الشعب الجزائري يتسوق من ساقية سيدي يوسف بتونس وهي عبارة عن سوق أسبوعي حيث كانوا يشترون ويبيعون في هذا السوق المتنوع والذي يحتوي على كل شيء وقد كان المستعمر الفرنسي يستعمل كمينا للمواطنين حيث يتم سلبهم أرزاقهم بعد عودتهم من السوق إلى ديارهم وبعد سماع جيش التحرير أن المستعمر يستولي على أرزاق الناس وما يقتنونه من السوق وضعوا خطة محكمة بطريق منطقة الواسطة فوقعت مواجهة بين جيش التحرير وبين المستعمر قتل 16 جنديا من العدو وتم أسر4 أشخاص من بينهم ضابط وتم الاستيلاء على 37 قطعة سلاح واستشهد فيها اثنان من المجاهدين (المسمى العتيق والعلوش) وقد خططت فرنسا كيف ترد الثأر والصاع صاعين والانتقام من الشعبين في يوم السوق الأسبوعي8 فيفري على الساعة 10 صباحا بعد أن بدأ السوق وكثر عدد المتسوقين عندها تم إطلاق القنابل على الأبرياء وهدمت العمران والبنايات وذكر ذات المجاهد بأن أحداث ساقية سيدي يوسف عززت ومتنت روابط التضامن بين الشعبين الجزائري والتونسي داعيا الشباب إلى التمسك والتشبث بتاريخ كفاح وتضحيات الثورة.. وقد نددت الصحف في مختلف أرجاء العالم بهذا العدوان الغاشم كما أدان المجتمع الدولي هذه الجريمة النكراء منتقدا تجنيد الاحتلال الفرنسي لقوة عسكرية هائلة والاستعانة بالحلف الأطلسي وبمرتزقة من دول أخرى لقصف المدنيين العزل فضلا عن استعمال بعض الأسلحة المحرمة دوليا ك(النابالم) وإنشاء مناطق محرّمة في الريف الجزائري فضلا عن اتباع سياسة القمع والإيقاف الجماعي. وستبقى الساقية شاهدة عبر التاريخ على أن الحواجز والحدود لم تفصل يوما بين الشعبين المتجاورين العربيين المسلمين تونس والجزائر..