تحل الذكرى 48 ليوم الأرض الفلسطيني، محمّلة بجراح لم تندمل، ودماء أكثر من 32 ألف شهيد قضوا جراء العدوان الصهيوني على غزة، ومائة ألف بين شهيد وجريح ومفقود، ورغم انتصار مجلس الأمن لغزة بالتصويت على قرار وقف إطلاق نار فوري خلال ما تبقى من رمضان، إلاّ أن الاحتلال الدموي يريد أن يواصل جريمته لإفراغ أرض فلسطين من سكانها الأصليين وإقامة مشروعه الوهمي، الذي لن يتحقق ما دام الفلسطيني متمسّكا بأرضه. يحيي الفلسطينيون والمتضامنون مع القضية الفلسطينية في العالم يوم الأرض الفلسطيني، وهم يهجّرون قسرا من أراضيهم ويجبرون على النزوح من محافظة لأخرى داخل غزة، بينما يسطو الاحتلال الصهيوني على الأراضي الفلسطينية، ويقيم المستوطنات على حساب منازل وممتلكات السكان الأصليين الفلسطينيين في الضفة والقدس، يحدث كل هذا وسط شجب دولي وتهديد واستنكار بلا أنياب، وبلا أدوات ردعية لتطبيق القانون الذي ينتهكه الكيان الصهيوني منذ نحو ثمانية عقود بتغطية سياسية ودبلوماسية وحتى قانونية من حلفائه الغربيين. يوم تمايز الفلسطيني عن المستوطن عبّر الفلسطينيون في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عن رفضهم للاحتلال الصهيوني، وعن تمسّكهم بأرضهم رغم كل التنكيل الذي تعرّضوا له لتهجيرهم، عندما انتقضوا في العام 1976 ضد استيلاء المحتل على أراضيهم في عدد من القرى العربية في الجليل، ومنها عرابة، سخنين، دير حنا، وعرب السواعد وغيرها، وذلك لتخصيصها لإقامة المزيد من المستوطنات. وكانت الشرارة الأولى لهذه الذكرى، هي إقدام الاحتلال على مصادرة 21 ألف دونم (الدونم يساوي ألف متر مربع) في المنطقة المذكورة، ومنع السكان العرب من دخولها منذ تاريخ 13 فيفري 1976، وكان الهدف من ذلك إقامة مستوطنات جديدة تحاصر القرى العربية تمهيدا لتهجير سكانها. وإثر هذا الاعتداء أعلنت "لجنة الدفاع عن الأراضي العربية"، التي تأسّست قبل ستة أشهر من حادثة الاستيلاء، خلال اجتماعها عن إضراب عام يوم 25 مارس 1976. كان ذلك السبب المباشر للإضراب الشامل الذي دعت إليه اللجنة، ولكن قبل ذلك أصدرت سلطات الاحتلال الصهيوني وثيقة تسمى وثيقة "كيننغ" السرية، بتاريخ الفاتح مارس 1976، تهدف إلى إفراغ الجليل من أهله الفلسطينيين، والاستيلاء على أراضيهم وتهويدها. ونصت على تقليص عدد الفلسطينيين في منطقتي الجليل والنقب، وذلك بالاستيلاء على ما تبقى لديهم من أراض زراعية، ومحاصرتهم اقتصاديا واجتماعيا، عبر ملاحقة العائلات العربية بالضرائب، وإعطاء الأولوية لليهود في فرص العمل، وكذلك تخفيض نسبة العرب في التحصيل العلمي، وتشجيع التوجهات المهنية لدى التلاميذ، وتسهيل هجرة الشباب والطلاب العرب إلى خارج البلاد ومنع عودتهم إليها. كما أوصت الوثيقة بتوجيه المهاجرين اليهود الجدد للاستيطان هناك، وركّزت على تكثيف الاستيطان اليهودي في شمال الجليل، وإقامة حزب عربي يعتبر "أخا" لحزب العمل، ويركز على المساواة والسلام، ورفع التنسيق بين الجهات الحكومية في معالجة الأمور العربية، وإيجاد إجماع قومي يهودي داخل الأحزاب الصهيونية حول موضوع العرب في الكيان الصهيوني. ردّ دموي يوم 30 مارس 1976، هبّت الجماهير الفلسطينية في أراضي 48، في ملحمة شعبية رافضة للوجود الصهيوني، ومعلنة تمسكها بأرضها في وجه السياسة الاستيطانية، وسياسة تهويد المدن العربية. وكعادته دائما جاء الرد الصهيوني عنيفا ودمويا، حيث أطلق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين، ما أدى إلى استشهاد ستة فلسطينيين برصاص الجيش والشرطة، وإصابة 49 بجروح، فيما اعتقل نحو 300 آخرين. موجات الاستيطان بلغ الاستيطان الصهيوني أوجّه في العام 76، وقد سميت بالموجة الأولى، وامتدت من 1967 إلى 1977. وصنّف مكتب الدفاع عن الارض الفلسطيني موجات الاستيطان إلى أربع مراحل، كانت تلك هي المرحلة الأولى، أقيمت خلالها نحو 31 مستوطنة أهمها في منطقة "القدس الكبرى"، و«غوش عتصيون" في محافظة بيت لحم، وغور الأردن، فضلًا عن المستوطنة التي أقامتها على أراضي القرى المدمرة (يالو، بيت نوبا واللطرون)، وبلغ عدد المستوطنين فيها 2876 مستوطنًا. وبدأت الموجة الثانية بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد مع مصر العام 1979، وصعود اليمين المتطرّف بقيادة مناحيم بيغن إلى السلطة، حيث تمّ بناء 35 مستوطنة إلى غاية مطلع الثمانيات، وتلاها 43 مستوطنة جديدة حتى نهاية الثمانينيات، وبعد حرب الخليج الأولى، بنى الاحتلال سبع مستوطنات جديدة، ليرتفع عدد المستوطنين إلى 107 آلاف، وشكّلوا نسبة 5,3 % من المجموع العام لسكان الضفة وقطاع غزة. ومع توقيع اتّفاق أوسلو للسلام العام 1993، شرع الاحتلال في تنفيذ المرحلة الثالثة من التوسع الاستيطاني، وإصدار الأوامر العسكرية القاضية بوضع اليد على الأراضي الفلسطينية، مخالفا ما جاء في الاتفاق الذي نص، من بين ما نصّ عليه، على أنّه لا يجوز لأي من الطرفين البدء أو اتخاذ أي خطوة من شأنها تغيير الوضع بالضفة وغزة لحين انتظار نتائج مفاوضات الوضع النهائي. تهويد الضفة والقدس بلغ عدد المستوطنات خلال المرحلة الممتدة من اتفاقيات أوسلو إلى غاية 2022، 158 مستوطنة في أراضي الضفة الغربية بما فيها القدس يسكنها نحو 700 - 750 ألف مستوطن، إلى جانب 15 - 20 ألف مستوطن يسكنون في أكثر من 200 بؤرة استيطانية أخذت تتحول مع مرور الوقت إلى حاضنة للمنظمات الإرهابية اليهودية، كمنظمات "شبيبة التلال" و«دفع الثمن"، وأخرى تطلق على نفسها اسم "تمرد"، وفق المكتب الوطني للدفاع عن الأرض. وتحوّلت المستوطنات التي كان يمكن تفكيكها في السابق، إلى بنية استعمارية استيطانية على مساحة 600 ألف دونم، تشكّل نحو 12 % من مساحة الضفة، يضاف إليها نحو مليوني دونم. لتصبح المساحة الإجمالية من الضفة الغربية الخاضعة لسيطرة الاحتلال 40 بالمائة. ودخلت خطة الاستيطان موجتها الرابعة مع صعود اليمين الفاشي إلى الحكم في الكيان الصهيوني، بعد الانتخابات الأخيرة للكنيست التي جرت العام 2022، وتستهدف رفع عدد المستوطنين في الضفة والقدس إلى نحو مليون مستوطن خلال العامين 2024 و2025. وأشار تقرير لوزارة الدفاع الصهيونية إلى خطة استيطانية تنطوي على عشرات المشاريع الاستيطانية بين بناء جديد، ومدن استيطانية جديدة وإضفاء الشرعية على نحو 155 بؤرة استيطانية ومزرعة رعوية. سكان غزّة يتمسّكون بالأرض بالتزامن مع سياسة الاستيطان في الضفة الغربية، وتغاضي المجتمع الدولي عن الجرائم الصهيونية هناك في حق الارض، امتدت يد الاحتلال إلى غزة، المحاصرة منذ 2008، في محاولة لفرض السيطرة عليها مجددا، بعد أن طرد منها العام 2005، مستغلاّ عملية طوفان الأقصى، التي جاءت، طبقا لاسمها، ردّا على انتهاكات الصهاينة وتدنيسهم أقدس مقدسات المسلمين. ونفّذ الاحتلال خطّته، من خلال تهجير مرحلي لسكان القطاع، من الشمال، إلى الوسط ثم إلى الجنوب، تحت قصف وحشي مكثف لم يستثن مواطنا مدنيا ولا مسلحا، ولا مقار المنظمات الأممية والمنظمات الانسانية، ولا حتى العاملين الأمميين في محال الإغاثة، في مشهد يعيد مجزرة طنطورة العام 48، عندما أبادت منظمة "هاغانا "الإرهابية 289 فلسطيني في القرية وهجرت الباقين، أو سابقتها مجزرة دير ياسين، حين نفّذت مجموعتا "الإرغون وشتيرن" الصهيونيتان إبادة وطردا جماعيا، في أفريل 1948 في قرية دير ياسين الفلسطينية غربي القدس، وكان ضحايا المجزرة من المدنيين ومنهم أطفال ونساء وعجزة، ويتراوح تقدير عدد الضحايا بين 250 و360. وجرت مجازر غزة على مرأى ومسمع العالم الذي اكتفى في البداية بالتنديد والشجب، دون اتخاذ إجراءات فورية لوقف العدوان، الذي خلّف عددا مهولا من الشهداء، فاق معدله اليومي كل ضحايا الحروب، وتجاوز عدد الشهداء الاطفال فيه عدد الأطفال القتلى في الحروب في العالم كله منذ العام 2019. لكن رغم وحشية وعنف المحتل الصهيوني، إلاّ أنّ الفلسطينيين في القطاع تمسّكوا بأرضهم، ورفضوا التهجير القسري، وكانوا كلما نزحوا مجبرين عادوا ليتفقّدوا منازلهم، وينصّبوا فوق ركامها خيامهم، في مواجهة مباشرة مع مسيّرات الاحتلال التي قصفت العديد منهم، وليس مقطع الفيديو الذي تم تداوله مؤخرا، عن قصف أربعة شبان في القطاع وهم يسيرون بحثا عن أنقاض منزلهم، إلا مشهد واحد من عشرات المشاهد التي لم تصل إلى الإعلام ولم تنشر. مسيرة حاشدة في يوم الأرض في تأكيد متجدّد على التمسك بالأرض، والاصرار على البقاء والوجود، أطلقت مجموعات شبابية فلسطينية دعوات لمسيرات حاشدة في عموم ميادين البلاد، في "يوم الأرض" الذي يوافق 30 من هذا الشهر، نصرة لغزة وللمطالبة بوقف العدوان الصهيوني المتواصل عليها منذ السابع من أكتوبر 2023. وأكّدت الدعوات على أهمية الوقوف بجانب قطاع غزة، داعية إلى النهوض بروح الوحدة والتضامن لدعم الشعب الفلسطيني هناك. القفز على القانون في وقت كان الفلسطينيون يستعدّون لإحياء ذكرى يوم الارض لمساندة سكان قطاع غزة ضد العدوان، جاء قرار مجلس الأمن بعد أشهر طويلة، يقضي بوقف فوري لإطلاق النار، خلال شهر رمضان، يليه وقف نهائي للعدوان، وصوّتت للقرار 14 دولة، في حين امتنعت الولاياتالمتحدةالامريكية، التي تقدمت قبل أيام بمقترح على مقاس الكيان الصهيوني، رفضته الصين وروسيا، باستخدام حق النقض. وجاء القرار رغم تأخره متسقا مع الإرادة الأممية والإنسانية، غير أنّ رد الفعل الصهيوني المستنكر للقرار من خلال تصريحات مسؤوليه، وأفعاله في الميدان تؤكد أنه لا يفكر في الانصياع للقانون، ويريد القفز عليه لتحقيق أهداف الحرب غير المعلنة، وهي إعادة السيطرة على قطاع غزة، مهما كان عدد الشهداء الذين يسقطون مجددا. فبعد يوم واحد من تصويت مجلس الأمن على القرار، واصل جيش الاحتلال عدوانه على قطاع غزة، وارتكب 8 مجازر جديدة ضد العائلات، وصل منها للمستشفيات 81 شهيد و93 إصابة خلال 24 ساعة التالية للقرار. كما قصف الاحتلال شرق مخيم المغازي، مخلفا شهيدين، إلى جانب قصف خيام النازحين في منطقة المواصي غرب خان يونس جنوب القطاع، ما أدّى إلى استشهاد عدد من المواطنين وإصابة آخرين، بينما واصل حربه المدمرة على المستشفيات في قطاع غزة بهدف إبادتها وإخراجها تماماً عن الخدمة كجزء لا يتجزأ من تدميره الشامل لقطاع غزة ولجميع مقومات الحياة البشرية فيه، خاصة أنها هي ما تبقى من بؤر الحياة ولو بحدها الأدنى والأضعف، حسب ما أوردته وزارة الخارجية والمغتربين. وفي السياق ذاته، قصفت طائرات الاحتلال منازل وبنايات وشقق سكنية في محيط مستشفى الشفاء ترافق مع قصف مدفعي وإطلاق نار من مسيرات صهيونية على المنازل، وكل من يتحرك بالطرقات المحيطة بالمستشفى، ما أدى لاستشهاد واصابة العشرات والذين تعذر على المواطنين أو مركبات الاسعاف نقلهم الى مستشفى المعمداني جراء استمرار العملية العسكرية من قبل جيش الاحتلال في حي الرمال غرب المدينة. كما أطلقت طائرة مسيرة النار على عشرات المواطنين، الذين حاولوا الاقتراب من المستشفى ومحيطة لانتشال شهداء وجرحى، ما أدى لوقوع إصابات في صفوفهم، وتحديدا قرب ملعب اليرموك وسط مدينة غزة، وجرى نقلهم لمستشفى المعمداني. كانت تلك بعض جرائم المحتل الصهيوني مباشرة بعد قرار مجلس الأمن وقف إطلاق النار، وهي تؤكد أن الغاصب لا يريد أن يوقف حربه ضد الشعب الفلسطيني المتمسك باستعادة أرضه من قبضة الشتات اليهودي المستقدم من أصقاع الأرض، ليستوطن أرضا لها شعبها، لكن شيمة الغدر فيهم أبت إلا أن تخرج للعلن، وتحاول سلب كل الأرض لإقامة الوعد الواهم الذي أتى بهم إلى حتفهم، لأنّ التاريخ أثبت دائما أن مصير الاحتلال إلى زوال لتعود الأرض لأصحاب الأرض، طال الزّمن أم قصر.