في سياق يتّسم بتصعيد صهيوني غير مسبوق يشمل إمعان الاحتلال في سياسة نهب الأرض، والعمل على تهويدها من خلال توسيع الاستيطان، إلى جانب ارتكاب أبشع المجازر والمذابح وتنفيذ أقذر سياسات الأبرتايد، يحيي الفلسطينيّون اليوم الذكرى 47 ليوم الأرض، وكلّهم إصرار وعزيمة على مواجهة سياسات المصادرة والاقتلاع والتهويد التي ينتهجها الكيان الغاصب، والتمسّك بأرضهم والدفاع عنها بأرواحهم حتى تحريرها وإقامة دولتهم المستقلّة عليها. تعود ذكرى "يوم الأرض" التي شكّلت انتفاضة حقيقية ضد الاحتلال الصهيوني إلى يوم 30 مارس 1976، عندما سقط ستة شهداء فلسطينيين من داخل الخط الأخضر على مذبح الحرية، وأصيب واعتقل المئات خلال إضراب عام ومظاهرات احتجاجية على قرار حكومة الاحتلال مصادرة آلاف الدونمات في منطقة الجليل، لإقامة المزيد من المستوطنات في نطاق خطة تهويد الجليل وتفريغه من سكانه العرب. ففي أعقاب قرار الكيان الصهيوني مصادرة 21 ألف دونم من أراضي سخنين وعرابة ودير حنا، وتدمير 418 قرية عربية من أجل إقامة مستوطنات بالجليل للمحتلين القادمين من مختلف مناطق العالم، تفجّر غضب الفلسطينيين الذين خرجوا بصدورهم العارية يقاومون قرار سرقة أرضهم، وبدم بارد، واجهتهم قوات العدوّ الغاشم بالرصاص ليرتقي الشهداء الستة ويصاب المئات ويعتقل المئات أيضا. ومنذ ذلك اليوم، يتمسّك الفلسطينيّون بإحياء يوم الأرض، أوّلا تكريما لأولئك الذين استشهدوا وهم يدافعون باستماتة عن أراضيهم التي تمت مصادرتها بطريقة غير قانونية، رافضين المنفى والتهجير القسري وتهويد الأراضي الفلسطينية، وثانيا؛ لأن المحتل ما زال مستمرّا في سرقة ومصادرة الأراضي الفلسطينية من خلال بناء المستوطنات، وطرد الفلسطينيين من منازلهم وتهديمها على رؤوسهم، بل لقد بلغ بمستوطنيه المجرمين درجة إحراق مساكن الفلسطينيين وهم بداخلها، و كلّ هذا من أجل ترهيبيهم وإرغامهم على الرحيل، واستكمال مسيرة اللجوء والنزوح التي بدأها أجدادهم وآباؤهم سنة 1948. حقّ العودة لا يسقط بالتّقادم وككل سنة، يسطّر الفلسطينيّون برنامجا حافلا لإحياء يوم الأرض الخالد، وهذه السنة يتميّز الاحتفال بمسيرة مركزية في مدينة سخنين بالجليل اليوم الخميس، ومسيرة أخرى في قرية أم رتام مسلوبة الاعتراف بالنقب، وذلك في الأول من أفريل المقبل. وفي السياق، دعت لجنة المتابعة العليا لفلسطيني الداخل، الجماهير الفلسطينية العربية للمشاركة الواسعة في المسيرة المركزية في سخنين، حيث من المقرر أن تنطلق من شارع الشهداء لتجوب شوارع البلدة في سخنين، وتصل للنصب التذكاري لشهداء يوم الأرض. كرسالة تأكيد على رفض كل مخططات الاحتلال الصهيوني، وعدم التنازل ولو عن شبر واحد من أرض فلسطين، وأنّها ستعود حتما في القريب لتقام عليها الدولة الفلسطينية بكامل سيادتها. كما دعت لجنة المتابعة جميع المؤسسات والحركات الفلسطينية في الداخل إلى تعزيز أنشطتها في دعم الذاكرة والرواية الفلسطينية ليوم الأرض الذي استشهد فيه فلسطينيون، كلّ ذنبهم أنّهم دافعوا عن أرضهم بأرواحهم الطاهرة. من جهة أخرى، قالت لجنة التوجيه والمجلس الإقليمي للقرى مسلوبة الاعتراف، إنّ اللجنة اجتمعت في قرية أم رتام التي شهدت هجمة صهيونية كبيرة، بعد توزيع أوامر إخلاء وهدم، وقرّرت أن تكون فعالية يوم الأرض السبت القادم في القرية. كما ستنطلق أنشطة متنوعة في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى جانب عدة مدن عربية وعالمية لتأكيد تمسك الفلسطينيين بالأرض ومقاومة الاحتلال. وبالمناسبة، قالت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إنّ يوم الأرض علامة فارقة في الصراع مع الاحتلال لانتفاضة الشعب الفلسطيني رفضا لتشويه وطمس هويته. وشدّدت الحركة في بيان صدر بداية الأسبوع، على أنّ عودة اللاجئين الفلسطينيين لأرضهم "باتت قريبة"، وأكّدت أن حق العودة إلى كامل التراب الفلسطيني ثابت لا يسقط بالتقادم. استيطان وتهويد مرّ على احتلال فلسطين 75 عاما، وعلى ذكرى يوم الأرض 47 عاما، وسياسة الكيان الصهيوني ثابتة لم تتغير، وهي توسيع رقعة كيانها الغاصب عبر سرقة أراضي الفلسطينيين، من خلال مخططاتها الاستيطانية التي بلغت مستويات مرعبة مع تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة التي وضعت الاستيطان على رأس أولوياتها، وقرّرت توسيعه في الضفة الغربيةوالقدسالمحتلة بالرغم من التحذيرات الدولية. فمنذ نيلها ثقة الكنيست في ديسمبر 2022، وضعت حكومة اليمين المتطرف الاستيطان في طليعة ملفاتها المهمة، حيث أعلن نتنياهو أن حكومته ستعمل على تعزيز الاستيطان بالضفة الغربية، وشرعنة المزيد من البؤر الاستعمارية. توسيع الاستيطان يأتي تحت العديد من العناوين، أولها إلغاء قانون "فكّ الارتباط" لعام 2015، ففي فيفري الماضي صادق الكيان الصهيوني على مشروع قانون لإلغاء قانون "فك الارتباط"، والذي تم بموجبه الانسحاب من مستوطنات بالضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما يعني منح الضوء الأخضر للمستوطنين للعودة إلى عدد من البؤر المخلاة شمالي الضفة بعد شرعنتها، وحصولها على اعتراف "قانوني" وتحويلها إلى مستوطنات "معترف بها" لدى الكيان الصهيوني، وتوسيع هذه البؤر من خلال مصادرة آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية. ووفق مراقبين فلسطينيين، فإن عام 2022 كان من أسوأ السنوات منذ 1967 جراء تصاعد الاستيطان والاعتداءات، وبحسب معطيات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، بلغ عدد المستوطنين في مستوطنات الضفة بما فيها القدس 726 ألفاً و427 مستوطناً موزعين على 176 مستوطنة، و186 بؤرة استيطانية (غير مرخصة)، منها 86 بؤرة رعوية زراعية حتى بداية عام 2023. وفي 2022 أقام المستوطنون 12 بؤرة استيطانية في محافظاتالضفة الغربية، بينما تمّت شرعنة بؤرتين استيطانيتين، الأولى متسبيه داني على أراضي بلدة دير دبوان، والثانية متسبيه كراميم على أراضي دير جرير شرقي رام الله. وتعتزم الحكومة الصهيونية شرعنة 65 بؤرة استيطانية في الضفة الغربية وتوصيلها بالمياه والكهرباء والبنية التحتية، وتعزيزها ب "تدابير أمنية" وفق اتفاق وقَّعه حزبا "الليكود" و«القوة اليهودية"، لتشكيل الائتلاف الحكومي الصهيوني الأكثر تطرفا وعنصرية في تاريخ دولة الاحتلال. وتشير المعطيات إلى أنّ السلطات الصهيونية صادقت أيضاً على 83 مخططاً هيكلياً وتفصيلياً في الضفة الغربيةوالقدس، تقضي ببناء أكثر من 8288 وحدة سكنية جديدة. سرقات موصوفة العنوان الآخر الذي يقود إلى سرقة مزيد من الأراضي الفلسطينية هو "خطة الحسم" التي ترمي إلى انتزاع مساحات جديدة من الأراضي الفلسطينية، في إطار السعي لتنفيذ مخطط "الضم" والذي سيكون أخطر من سابقة، كونه يستهدف الأراضي الفلسطينية رويدا رويدا، وينفّذ في نهايته ما كانت تخطّط له الحكومة اليمينية، وذلك باعتماد الصمت والتمويه على عكس ما كان يحدث من قبل. وتشمل الخطة تهجيرا جديدا للفلسطينيين من أراضيهم، باستخدام القوة، من خلال الهدم وترهيب السكان مثلما حصل في حوارة، فتكالب عصابات المستوطنين عليها يرمي في الأساس إلى ترهيب سكانها وارغامهم على الرحيل منها. تجدر الإشارة إلى أنّه منذ بداية هذا العام هدّمت دولة الاحتلال الصهيوني أكثر من ثلاثين بيتا في البلدات العربية داخل الخط الأخضر، وشرّدت المئات وأبقت الآلاف غيرهم يعيشون حالة قلق مستمرة خشية هدم منازلهم، لذا لا تغيب عن الفلسطينيين مطلقا ذكرى يوم الأرض. زيادة في وتيرة القمع والعنصرية لا يكتفي الصهاينة بمصادرة أراضي الفلسطينيين ومنحها للمستوطنين، بل يمارسون عليهم عنصرية بغيضة من خلال فرض قوانين وتشريعات جائرة متوحّشة، وأبرز التشريعات العنصرية التي سنّها الكنيست الصهيوني كانت: تمديد منع لم شمل العائلات الفلسطينية، وتمديد العمل بقانون الطوارئ، وقانون النكبة، وتقييد حرية التعبير، وقانون تمويل الجمعيات، وقانون التنظيم والبناء (كامينتس)، وقانون لجان القبول للبلدات اليهودية، وقانون القومية، وقانون يهودية الدولة. ولعل القانون الأهم، هو الذي شُرّع لتكريس مبدأ "يهودية الدولة الصهيونية " في عام 2018. وتظهر التقارير بشأن شكاوى التمييز والعنصرية في عام 2022، أنّ المواطنين العرب من فلسطينيي 48 ممّن فرضت عليهم الجنسية الصهيونية، يتصدرون قائمة الشكاوى والبلاغات المتعلقة بتعرضهم لأحداث عنصرية. وتتعلق هذه الأحداث، بالتمييز في تقديم الخدمات العامة، والتمييز في العمل، والتعبير العنصري في المجال العام، والدعاية العنصرية النمطية في الأماكن العامة. ويؤكّد رئيس حركة "حرية" لمناهضة العنصرية والاحتلال المحامي سامح عراقي، أن حكومة الاحتلال الحالية تتجه نحو تصعيد غير مسبوق تجاه الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر، وتحويل التمييز والعنصرية إلى ثقافة دارجة ضد فلسطينيي 48 على وجه التحديد. وأوضح أنّ التمييز والعنصرية وجه آخر للاحتلال، بحيث إن مظاهر العنصرية باتت سائدة في مختلف مناحي الحياة، وتعكس معركة وجودية للشعب الفلسطيني، وصراع هوية لفلسطينيي 48 داخل الخط الأخضر. وأشار إلى أنّ أبرز مجالات ومحطات التمييز والعنصرية، سواء من المجتمع الصهيوني والحكومة والمؤسسات الصهيونية، تتعلق بقضية الأرض والمسكن، وتصعيد وتيرة الهدم للعرب، وإسكات الأذان، ومصادرة الأراضي، وطمس الهوية والرموز العربية وفرض هوية أخرى مزورة. ويعتقد عراقي أنّ أخطر ما في مسلسل التمييز العنصري ما تقوم به عصابات المستوطنين من تنفيذ اعتداءات إرهابية على الفلسطينيين في كل مكان، مستذكرا ما حدث في حوارة، وإرهاب المستوطنين لفلسطينيي 48 خلال هبة الكرامة. اليوم تحلّ الذكرى 47 ل "يوم الأرض"، الذي ساهم بشكل مباشر في توحيد وتكاثف وحدة الصف الفلسطيني بالداخل على المستوى الجماهيري، بعد أن كان في العديد من الأحيان السابقة، نضالا فرديا لأشخاص أو لمجموعات محدودة. كما كان هذا الرد بمثابة صفعة قوية للاحتلال الصهيوني، الذي اكتشف بأنّ ما حقّقه في 1948 بفضل تواطؤ الكبار وغدرهم، لن يستطيع تحقيقه مستقبلا، فالأجيال المتعاقبة من الفلسطينيين استلهمت الدّرس واستوعبت النّكبة، وترفض أن تتنازل ولو عن شبر من الأرض الفلسطينية مهما كانت الضغوط واختلالات ميزان القوى، وهي كما نراها تقاوم وتكافح بكل بطولة وشجاعة في سبيل صدّ الاحتلال ومخططاته التهويدية والعنصرية، ومهما طال الزّمن ستعود الأرض لأصحابها والاحتلال إلى زوال.