يُسجّل عصير "الشاربات" حضوره الدائم على موائد إفطار العائلات طيلة شهر رمضان بولاية البليدة، ويزداد استهلاكه لما ترتفع حرارة الجو فيشعر الصائمون بالعطش، وبعبارة أحرى فهذا العصير مادة أساسية وجودها ضروري تماما مثل حساء "الشربة" بكل أنواعه. يندرج هذا المشروب اللذيذ المنعش ضمن موروث البليدة التي اشتهرت به والذي كانوا يسمونه الأجداد في وقت مضى ب "شاربات القارص" من منطلق أنّه يُحضر من ثمار أشجار الليمون المتواجدة بكثرة، فالبليدة تعتبر أول منتج للحمضيات على المستوى الوطني لجودة أراضي سهل "المتيجة" وطبيعة مناخها الرطب. بدوره يقول الطبيب معمر أمين بن سونة المختص في الأنف والحنجرة باعتباره مدونا يتناول بشكل منتظم جوانبا من تاريخ المنطقة، بأنّ كلمة "شاربات" تركية الأصل في إشارة منه إلى أن هذا العصير يعود إلى فترة التواجد العثماني في الجزائر خلال القرنين 14 و15، وهي كلمة تدل على كل مشروب حلو المذاق، وهي مشتقة من الفعل العربي شرب. وبحسب هذا المدون والباحث في التاريخ فقد اشتهر الأندلسيون النازحون من إسبانيا عندما استوطنوا سهل "المتيجة" في صناعة العصائر من الفواكه بل كتبوا كتبا في هذا المجال، كما شهدت الحضارة الإسلامية تطوير زراعة الحمضيات بمختلف أنواعها، من أجل الفاكهة، وكذلك من أجل أزهارها التي كانوا يقطرونها لتحضير ماء الزهر الشهير! الوصفة السّحرية لهذا المشروب المنعش المتجوّل في أسواق البليدة يقف على التواجد المكثف لتجارة بيع "الشاربات" التي أخذت شهرة كبيرة لدرجة أن كثير من التجار من يغير نشاطه ويمتهن بيعها كما تقوم عائلات بتحضيرها وعرضها للبيع على موائد تنصب على الأرصفة وقارعة الطريق، حيث يستغلون الإقبال عليها من قبل الصائمين بسبب الانتعاش الذي تعطيه لهم على الرغم من تحذيرات المختصين في التغذية من هذه المشروبات بالنظر إلى ما تحويه من مواد حمضية. تُباع "الشاربات" طوال السنة من بعض المحلات مثل محل "عمي محمود" في بوعينان، الذي بقي محله يستقطب الزبائن رغم وفاتهم، كما يحترف كثير من البليدين نشاط تحضير هذا المشروب المنعش الذي له أسراره، ولذا يحاول بعض الشباب التقرب من أهل الاختصاص لتعلم الطريقة المثلى لتحضيره. من بين هؤلاء الشباب محمد سرير الذي استطاع أن يظفر بالوصفة السحرية التي بفضلها اصبحت سلعته تنفذ ويقصده عدد كبير من الزبائن، فبحسبه يجب اختيار حبات الليمون بعناية ثم عصرها، وترك عصيرها لمدة زمنية لكي يعطي نتائج جيدة وبعدها يُضاف اليها الحليب للتقليل من حموضة المشروب لإنتاج مشروب صحي ومنعش. ونصح هذا المتخصص جمهور المستهلكين في الابتعاد عن شراء "الشاربات" التي تظهر ملونة بالقول: "لكي نقدم مشروب صحيا للمستهلكين يجب أن نستعمل ملونات طبيعية لأن الملون الاصطناعي هو مادة كيميائية قد تضر بصحة الإنسان"، ولفت إلى أن كثير من عصائر "الشاربات" التي تعرض تحوي مواد كيماوية والتي وجب استعمالها وفق المعايير لتفادي تأثيرها على المستهلك، مع الاعتماد على المواد الطبيعية الخالصة على حد قوله. " الشاربات" الأصلية تُحضّر بمياه الينابيع يقول أحد الباعة المتخصّصين في "الشاربات" بالحي العتيق "باب الجزائر"، بأنّ النوعية الأصلية لهذا المشروب يتم تحضيرها باستعمال مياه الينابيع المتوفرة بكثرة في جبال الأطلس البليدي لافتا إلى أن تحسن المناخ في الفترة الأخيرة سمح بانتعاشها مثلها مثل الشلالات. وتُحضّر الشاربات الأصلية حسبه بمياه الينابيع ومواد أخرى مثل الحليب، ماء الزهر الطبيعي، السكر، القرفة، الفانيلة والياسمين (منكهات) والملونات الطبيعية أو الاصطناعية الصحية، وفي وقت مضى كان البعض يستعمل الزعفران لمنح المنتوج اللون الأصفر. وحول هذا النشاط صرّح قائلا: "قبل النمو العمراني وارتفاع عدد السكان كانت منازل مدينة البليدة لا تخلو من أشجار الليمون وكانت النسوة تقوم بتقطير ماء الزهر الطبيعي في المنازل، وتضع الشاربات في الأواني الفخارية أو إناء "القسديرة" لتحافظ على ذوقها وبرودتها". وأضاف هذا البائع بأن تحضير الشاربات يعود إلى فترة التواجد العثماني في الجزائر، وأن فكرة تحويل الليمون إلى الشاربات هي بمثابة صناعة تحويلية تقليدية لإنتاج العصائر بطريقة طبيعية خالصة، وهذا لاستغلال الفائض الكبيرة في الحمضيات بكل أنواعها سواء البرتقال أو الليمون. ل "الشاربات" أنواع للشاربات كذلك عدة أنواع، مثل شاربات الخطبة، التي كانت تُقدم عند الخطبة أو الشاربات التي تقدّم للطفل عند صيامه لأول مرة، والتي تصنع دون ليمون، بالماء والسكر وماء الزهر والقرفة، وتضع فيها العائلات البليدية خاتما أو قطعة نقدية من فضة، ليكون إسلام الطفل صافيا صفاء اسلام اجداده. وما زالت الكثير من عائلات المنطقة تحافظ على هذا التراث الجميل، ومنهم من يذهب حتى الى الينابيع الجبلية للتزود بالمياه الصافية والباردة، وصنع الشاربات بعين المكان وفق طقوس الأجداد. واشتهرت بالمنطقة شاربات بوفاريك أو شاربات "ميخي" بالبليدة، التي كان يأتي الناس من مختلف أنحاء الوطن لاقتنائها!! فالمغني الشهير الحاج محمد العنقى كان يقصد البليدة باستمرار لأجل شرائها كما يفعل بعض عشاق هذا المشروب الذين يأتون من الجزائر العاصمة لشراء "الشاربات" البليدية.