نشاطات المحكمة الدستورية.. ترسيخ لمعرفة مواطناتية ولايات جنوب الوطن.. الأولى في الاستفادة من التجربة يأتي إحياء الشعب الجزائري لذكرى اليوم الوطني للعلم هذه السنة، على وقع استعداده لخوض الانتخابية للرئاسيات المنتظر إجراؤها بتاريخ 7 سبتمبر 2024، وبعد تحقيق قفزة نوعية نحو كسب روح المواطنة كإحدى روافد الرقي الحضاري للأمة، وفي ظل إصلاحات دستورية ومؤسساتية عميقة وشاملة قادها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، نتج عنها تعديل الدستور وعرضه للاستفتاء الشعبي في الفاتح من نوفمبر عام 2020، يحق للشعب الجزائري أن يتباهى اليوم بهذه التزكية المباركة؛ لأنها تؤشر إلى وعيه وتعاظم مواطنته ونمو ثقافته الدستورية، في وقت أصبحت هذه الثقافة تتلاشى وتضمحل لدى الشباب في مجتمعات تتغنى بديمقراطية زائفة، خاصة بعد أن أصبحت فيها العقيدة الدستورية تحت الانجراف الذي تسببت فيه مختلف أمواج العولمة المدمرة لقيمها وثوابتها. وكان آخر ما أفرزته هذه الظاهرة المتفشية في إحدى البلدان الغربية المتغنية بقداسة أنظمتها الدستورية، الجهل الدستوري الذي عم بعض الأوساط اثر إعلان حكومتها عن حق، عن سمو الدستور في شأن اعتماد أحد بنوده لإقرار قانون إصلاح أنظمة التقاعد دون المرور بتصويت البرلمان كما هو معمول به لتبني القوانين بهذا البلد. وباعتراف من الخبراء، فإن استفحال هذه الظاهرة يعود إلى جهل كبير بالدستور، ليس فقط من جانب المواطنين العاديين، بل أيضاً من جانب ممثلي وسائل الإعلام والفاعلين السياسيين وصعوبة التمييز ما بين ماهو أمر دستوري بحت، وأمر إعلامي قد تختلقه عمدا نخب من أجل تمييع المفاهيم الدستورية. ومن جهته، فإن الشعب الجزائري قد خطى خطوات من خلال هذا الاستفتاء نحو تعميقه لثقافته الدستورية، فبموجب هذا الدستور، استحدثت، لأوّل مرّة في تاريخ البلاد، المحكمة الدستورية، وتم تنصيبها في نوفمبر من سنة 2021، لتحل محل المجلس الدستوري الذي تم إنشاؤه بموجب دستور 1989. فهي لأول مرة في تاريخ البلاد، تنشر الثقافة الدستورية على مستوى مختلف فئات المواطنين وعبر مختلف الولايات والمؤسسات من خلال قيامها بنشاطات وطنية ودولية تصب في ترقية وترسيخ هذه الثقافة وسط مختلف فئات المواطنين وعبر مختلف الولايات. وحرصا منها على تجنب بعض الأخطاء والنقائص التي وضعت في سجيل تجارب بعض البلدان، اهتدت إلى وضع آليات جديدة لتقريب للمواطن إليها وإرساء جسور معه عبر المؤسسات الدستورية والجامعات والمجتمع المدني، كما أنها تسعى اليوم إلى الاستفادة من تجارب بلدان أجنبية لاسيما في مجال علاقة هيآتها الدستورية العليا مع المواطن والمؤسسات الدستورية والأطراف الفاعلة في حياتها الدستورية. الثقافة القانونية.. أساس المواطنة هيئة المحكمة الدستورية تولي اهتماما خاصا لترقية الثقافة الدستورية في بالبيئة التعليمية، وعملا بخريطة طريق إعلامية واتصالية، تعمل على تقريب العدالة الدستورية من المواطن، ومن أجل الإسهام في تجسيد أهداف المدرسة الجزائرية، باعتبارها القاعدة الأساسية للتربية على أساس قيم المواطنة، كان من أولى المبادرات التي قامت بها المحكمة الدستورية على هذا النحو، تنظيمها في نهاية السنة الماضية، بمقرها حفلا تكريميا للتلاميذ المتفوقين في المسابقة الوطنية لأحسن الأعمال المدرسية حول "موضوع الدستور والمواطنة". وتثمينا منه لهذه المبادرة الأولى من نوعها في بلادنا، أكد رئيس المحكمة الدستورية، السيد عمر بلحاج، بهذه المناسبة على"أهمية هذه المسابقة التي كان شعارها "الثقافة القانونية أساس المواطنة"، معتبرا إياها ثمرة تعاون بين المحكمة الدستورية ووزارة التربية الوطنية وبرنامج الأممالمتحدة للتنمية". طابع بريدي خاص بموضوع المواطنة والدستور ومن جهة أخرى، صدر طابع بريدي جديد منذ شهر مارس الماضي بعنوان "المواطنة والدستور" تم طبعه بمبادرة من المحكمة الدستورية، وبإشراف وزارة البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، على أن أول طابع بريدي تم إصداره في الجزائر كان في 12 أكتوبر 1963 تزامنا مع صدور أول دستور جزائري. وكانت المحكمة الدستورية قد نظمت في السنة الماضية مسابقة حول أحسن عمل فني مدرسي، وشارك فيها أكثر من 76 تلميذا من مختلف أنحاء الوطن للطورين الثاني والثالث من التعليم. وقد فاز فيها 12 تلميذا، وتحصل التلميذ منصف بن زرقين على المرتبة الأولى.. خارطة طريق لتقريب المحكمة الدستورية من المواطن كما تقود المحكمة الدستورية منذ استحداثها والى اليوم، سياسة اتصال جوارية تقوم على تقريب المواطنين إليها، والانتقال رئيسا وأعضاء إلى الولايات سعيا منها إلى الارتقاء بمستوى النقاش إلى مستويات عالية في جوّ من التحاور والتكامل المؤسساتي المثمر مع الطلبة والخبراء وممثلي المجتمع المدني. وفي هذا الإطار، تم تنظيم دورات تحسيسية في كل من ولايات بشار وتمنراست وغرداية والوادي، وأدرار سنة 2023 وولاية ورقلة في بداية سنة 2024، كان يشارك فيها أعضاء المحكمة الدستورية وأعضاء المرصد الوطني للمجتمع المدني ومحامون وخبراء وأساتذة جامعيون وطلبة جامعات. وكان رئيس المحكمة الدستورية، السيد عمر بلحاج، قد أعلن في عدة مناسبات أن "المراد من سلوك هذه السياسة الاتصالية، كسب معركة الوعي المجتمعي، بالدور الريادي الذي تلعبه الجامعة باعتبارها الحاضنة الأولى للطاقة البشرية القادرة على رفع التحديات وتحقيق النهوض الاقتصادي والاجتماعي لبلادنا". لابد من الإشارة إلى إن المحكمة الدستورية قد سخرت لتطبيقها للسياسة الاتصالية ما يكفي من إمكانيات من أجل نشر نشاطاتها الوطنية والإقليمية والدولية والقضائية والعلمية والإعلامية والفقهية، بما في ذلك نشرية تتضمن مجموع أحكام الاجتهاد الدستوري الجزائري، ومجلة المحكمة الدستورية، وهي مجلة نصف سنوية تعنى بنشر الدراسات والبحوث في القانون والاجتهاد الدستوريين، ومكتبة المحكمة الدستورية وهي فضاء علمي ومعرفي رقمي يساهم في تسهيل البحث العلمي، ومتحف القضاء الدستوري وهو فضاء داخلي يستعرض نشأة القضاء الدستوري في العالم، ويضم هدايا وتحف متبادلة لمحاكم ومجالس دستورية أجنبية وهيئات إقليمية ودولية، والموقع الإلكتروني للمحكمة الدستورية، وهو وسيلة للاتصال والتواصل، والصّفحات الرّسمية للمحكمة الدستورية على وسائط التواصل الاجتماعي. إضافات لتوسيع الثقافة الدستورية للمواطن لأول مرة في الجزائر، يمكن للمواطنين اللجوء بشكل غير مباشر إلى المحكمة الدستورية، بناء على إحالة من المحكمة العليا أو مجلس الدولة، عندما يتعلق الأمر بالخلافات بينهم أمام هيئة قضائية، والنص التشريعي أو التنظيمي الخاص بذلك التي يتوقف عليها نتيجة النزاع انتهاك الحقوق والحريات التي كفلها الدستور، ويلغى هذا النص غير الدستوري. المادة 198/4 من الدستور فيما يتعلق بوسائل الاستثناء من عدم الدستورية بالنسبة للمواطنين - سواء أمام المحاكم العامة أو الإدارية - تمنح المحكمة الدستورية إمكانية إلغاء النص غير الدستوري ليس من يوم صدور قرار المحكمة. المجلس الدستوري (بأثر مباشر) وليس من يوم صدور النص (بأثر رجعي للقرار)، بل من اليوم الذي تنص فيه المحكمة الدستورية، على الطعن في الأحكام التشريعية أو التنظيمية أمام المحاكم العادية أو الإدارية. لأوّل مرة في الجزائر، يحق لأحد أطراف المحاكمة، شخصا طبيعيا أو معنويا، الطعن في دستورية نص تشريعي يمس الحقوق والحريات الدستورية. ولا يمكن إثارة هذا الاستثناء إلا أثناء المحاكمة أمام جميع المحاكم مهما كانت طبيعتها؛ عادية أو إدارية. قرارات المحكمة الدستورية نهائية. وهي ملزمة لجميع السلطات العامة والسلطات الإدارية والقضائية. لأول مرة في الجزائر، بالإضافة إلى الصلاحيات الأخرى التي تمنحها لها صراحة أحكام الدستور الأخرى، تنطق المحكمة الدستورية بقرار بشأن دستورية المعاهدات والقوانين واللوائح جاء دستور 2020، ليتوج الديناميكية التاريخية للتطورات الدّستورية في الجزائر، بأن استخلف المجلس الدّستوري بمحكمة دستورية منحها صبغة قضائية، وجعلها من خلال الصّلاحيات الواسعة، التاريخية، والحصرية التي أنيطت بها أسمى المؤسسات الرقابية في البلاد. حيث أنّها المؤسسة المستقلة المكلفة بضمان احترام الدّستور، وبضبط سير المؤسسات ونشاط السّلطات العمومية، ويقع على عاتقها الفصل في الخلافات التي قد تحدث بين السلطات، كما تبدي رأيها في تفسير حكم أو عدة أحكام من الدّستور. ارتقت المؤسسة المكلفة بها من هيئة رقابة دستورية إلى أعلى مؤسسة تعنى بالقضاء الدستوري وتتولى مهمة ضمان احترام الدّستور، وذلك بالنّظر إلى الاختصاصات الواسعة التي أنيطت بها في مجال الرّقابة القبلية والبعدية على القوانين، بالإضافة إلى اختصاصها في تفسير الدّستور، وفي ضبط سير المؤسسات ونشاط السلطات العمومية، وهي الصّلاحيات التي ترمي إلى تكريس الديمقراطية ودولة الحق والقانون وحماية حقوق الإنسان والحرّيات الأساسية. أتى التّعديل الدّستوري لسنة 2020، أيضا، ليوسع آلية الرّقابة البعدية، لتشمل بالإضافة إلى الدّفع بعدم دستورية الأحكام التّشريعية، إتاحة الإمكانية للمتقاضين للدّفع بعدم دستورية الأحكام التنظيمية التي يتوقف عليها مآل نزاعهم بالادعاء أمام أيّ جهة قضائية، بأنّها تنتهك حقوقهم وحرياتهم التي يكفلها الدّستور؛ ذلك أنّ أبرز الانتهاكات قد تُدرج ضمن التنظيمات، نظرًا لكون التّشريع يخضع للرّقابة القبلية للمحكمة الدّستورية. حرصت أعلى السّلطات في البلاد على صون الحقوق والحرّيات وجعلها في منأى عن السّجالات السّياسية، إذ أصبحت المحكمة الدّستورية تتشكل في ثلثها فقط من أعضاء مُعينين من قبل رئيس الجمهورية، فيما تتشكل نصف تشكيلتها من أساتذة مقتدرين في القانون والقانون الدّستوري، مع ضمان تمثيل كلّ من المحكمة العليا ومجلس الدّولة بعضوين منتخبين، وهو ما يعكس التركيبة الثرية والفريدة للمحكمة، والتي جمعت بين الانتخاب والتعيين. ولمّا كانت السّلطة التشّريعية هي السّيدة في إعداد القانون والتصويت عليه، ولمّا كانت القوانين ترتبط بوضع قواعد قد تكون تقييدية في بعض الأحيان، وترتبط أحيانًا بحقوق وحريات المواطن، كان لابدّ من ضمان نزاهة أعضائها، فكان أنّ سمح التّعديل الدستوري الأخير بأن يكون عضو البرلمان محلّ متابعة قضائية عن الأعمال غير المرتبطة بمهامه البرلمانية بعد تنازل صريح منه عن حصانته، إلا أنّه وفي حال عدم التّنازل عن الحصانة، فقد منح الدّستور المحكمة الدّستورية صلاحية استصدار قرار بشأن رفع الحصانة من عدمها بناء على إخطارها من طرف جهات الإخطار المخوّلة دستوريًا، وذلك طبقًا لأحكام المادة 130 من الدّستور. أتى التّعديل الدّستوري لسنة 2020، أيضا، ليوسع آلية الرّقابة البعدية، لتشمل بالإضافة إلى الدّفع بعدم دستورية الأحكام التّشريعية، إتاحة الإمكانية للمتقاضين للدّفع بعدم دستورية الأحكام التنظيمية التي يتوقف عليها مآل نزاعهم بالادعاء أمام أيّ جهة قضائية، بأنّها تنتهك حقوقهم وحرياتهم التي يكفلها الدّستور؛ ذلك أنّ أبرز الانتهاكات قد تُدرج ضمن التنظيمات، نظرًا لكون التّشريع يخضع للرّقابة القبلية للمحكمة الدّستورية. رغم قصر عمر تجربة المحكمة الدّستورية، إلّا أنّها قد تميّزت بإنتاج غزيز، واجتهاد قضائي متميز في مجال القضاء الدّستوري، متصدّية بذلك لأية محاولة للمساس بالحقوق والحريات المكفولة دستوريًا، فكان أوّل ما عالجته دفع بعدم دستورية المادة 24 من القانون المتعلّق بتنظيم المحاماة، إذ أكدّت في حيثيات قرارها بأنّ "حق الدفاع يعد من أهم الحقوق الواردة في الدستور وهذا لارتباطه وتكامله مع منظومة الحقوق الأخرى المقررة لصالح الإنسان والمواطن، كما يعد من جهة أخرى ضمانة أساسية لحسن سير العدالة وأصول ومقتضيات المحاكمة العادلة".