رواية رمل الماية.. رواية جدّ طويلة، وهي تحتاج أن تقرأ أكثر من مرة، فالقراءة الثانية تجعل النص بسيطا وتزيل عنه التعقيدات. الأكيد أنّ النص أقرب إلى الرواية الجديدة أو رواية الفوضى المنظمة. وقد جعلها الروائي تنفجر بالرمز والإسقاط، إذ نستشعر طوال الوقت أنّها تتحدّث عن الجزائر دون أن يشار صراحة إلى اسمه ولو لمرة واحدة. لقد لامس الكاتب في الفترة التي كتب فيها هذه الرواية خطورة المرحلة التي تعيشها الجزائر. فصدور العمل كان في السنوات الأولى للعشرية السوداء (سنة 1993). هي رواية الاعتراض الكلّي والرفض الشامل، رفض للتاريخ المزيّف ورفض للفساد الذي يتقوى بالصمت، واعتراض على قمع الأفكار وانعدام العدالة والحرية. يطرح نص العمل فكرة حتمية مواجهة الشر والفساد، لأنّ الحلّ الوحيد للخروج من متاهة الضياع الحياتي، يكمن في المواجهة لا غير. ففي متن الرواية، يلوم السارد الطبري الذي يمثل الخطاب التاريخي، كنموذج للوراقين المشاركين في مهزلة التاريخ العربي. يقول : "نحرت قلمك القصبي تماما كما يفعل معظم وراقي الدواوين. كتبت وأنت تضع كيس النقود في جيبك". هذا العمل كذلك محاولة بحث عن وطن حقيقي يحتوينا جميعا دون استثناء، يعلن السارد على لسان أحد الشيوخ الفارين من الأندلس والذي فضل أن ينتحر في البحر؛ لأنّه فقد أرضا تحتويه : "المدينة التي لا تحميك، و لا تملك حق حمايتها، ليست لك". ونجد الروائي استهل عمله الإبداعي بأبيات شعرية تنبض ألما وحزنا واغترابا للشاعر سان جون بيرس (منارات) : ضيقة هي المراكب../ضيق سريرنا./ليدخل البحر من النوافذ. للبحر وحده سنقول/ كم كنا غرباء في أعياد المدينة. وبالعودة إلى البداية الفعلية لهذا النص، سنجد واسيني الأعرج يفتتحها على نحو التبست فيه الصورة بالكامل، وأصبح الفرق بين الواقعي واللاواقعي منعدما لندخل في نطاق المحال العجائبي والغرائبي عن سبق إصرار، فكانت بشخصية دنيا زاد التي حكت ما خبأته شهرزاد عن الملك شهريار بن المقتدر، إذن.. استأنفت دنيازد حكاية فاطمة العرة حيث توقفت شقيقتها، في ألف ليلة وليلة، ثم انتقلت مباشرة لتحكي عن شخص غريب وبعيد عن المألوف يسافر عبر الزمن (دفنت دنيازاد آخر الابتسامات في قلبها ثم انسحبت باتجاه الفراغ الذي كان يملأ القلب والذاكرة). ضمن أحكامه الأولى، خلص السارد إلى أنّ حكايات شهرزاد كذب واختراع خيالي، ففي واقع تاريخنا، حكايات حقيقية كثيرة كان ينبغي أن تجد مكانها ضمن ما حكت شهرزاد وما جاء في ألف ليلة وليلة، ولهذا مدّد في الاحتمال الخيالي بإقحام قصة سقوط الأندلس، وقصتنا نحن في الجزائر تلميحا طبعا. إنّ العنوان يقارب الكلمة بما تحمله من دلالة محدّدة، فهو في تعريف عديد الدارسين أشبه بالعلامة النصية التي تنشد فضح المعالم المجهولة التي تنتظرنا في النص، بل هو يؤسّس لجوّ من الألفة، يستأنس بها القارئ في انتظار رحلة الغوص إلى عوالم النص السردي، بل إنّ شهرة كثير من المؤلفات تفسر بتميز العنوان وقوة مفعوله، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، نجد أنّ عنوان رواية البؤساء لفكتور هوغو، تجاوز الآفاق شهرة وصيتا و أضحى يُربط مباشرة بالروائي الفرنسي، وبالمرحلة التي عاشها هذا الكاتب في بلده، ولهذا يكفي أحيانا أن يسمع القارئ العنوان ليستحضر اسم المؤلف، وكأنّهما شيء واحد؛ لهذا نذكر من الأعمال الجزائرية "رواية الحريق لمحمد ديب" إذ شكّل هذا النص علامة فارقة في الأدب الجزائري بعنوانه و مضمونه في آن واحد. وضمن التعريفات العديدة التي استوقفتنا حول هذه العتبة، يعرف ليو هوك العنوان بكونه "مجموعة العلاقات اللسانية التي يمكن أن ترسم على النص ما، من أجل تعيينه وكذا الإشارة إلى محتواه العام، وأيضا إلى جذب القارئ. أما شارل غريفل، فقد اعتبر العنوان نصا مصغرا، يسعى إلى فضح سر الملفوظ الروائي وإعادة إنتاجه لفائدة الرواية Intérêt Romanesque. ذلك أنّ العنوان يمهد والرواية تفصل، كما حدّد غريفل للعنوان مجموعة من الوظائف هي التسمية، التعيين والإشهار. أما جيرار جينت، فقد اختصر وظائف العنوان في العناصر التالية (التعيينية، الوصفية، والاتحادية)، وبذلك أضحى العنوان في الرواية الجديدة، أشبه بنصّ مصغّر يجانب النص الروائي الذي يعلن عنه؛ ولهذا فهو يؤوّل بصورة أوسع، بل تتعدّد قراءاته ومدلولاته. وقد وقف عديد الدارسين على هذه الخاصية أو الصورة الجديدة للعنوان الحداثي الذي انتقل من كونه عنوانا مفتاحا إلى شكله الرمزي والمفتوح على احتمالات عديدة". وإذا كان العنوان، كما ذكر مورشانج، يمثل حلقة التعارف الأولى بيننا وبين النص، إلا أنّه في نصنا هذا بدا غامضا وصعب الإدراك ولم يمهد لنا كقراء بموضوع النص الإبداعي المقترح، ففي اللحظة التي اصطدمنا فيها بالعنوان، كنا نجهل عن هذه العوالم الخيالية، ومن هنا فهو لم يُضف شيئا كبيرا.جاء عنوان رواية واسيني الأعرج في صيغتين، الأولى رئيسية ومركبة.. "رمل الماية"، رسمت بخط سميك، والثانية تحتية ومركبة، لكنّها أطول من الأولى، كتبت بخط رقيق "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف"، تحيل مباشرة إلى قصص ألف ليلة وليلة. وهو عنوان مشوّق يدفع القارئ إلى أن يتساءل أولا عن قصدية رمل الماية، ثم ثانيا لماذا الليلة السابعة بالذات، وماذا وقع في الليالي الباقية أيّ بين الليلة الأولى والسابعة. وقد ورد العنوان جملة اسمية كما ذكرنا سابقا، فغاب الفعل عنهما ليزيد الصياغة قوة دلالية وتعبيرا عن الثبات في قصديّه الاختيار، التي جعلت الجملة تتلاءم مع الهدف الذي من أجله ألّف الروائي روايته. بعد تصفّح الرواية، يجد القارئ أنه تم الإشارة إلى العنوان الثاني في الصفحة السابعة ثم العاشرة، "فالليلة السابعة استمرت زمنا لم يستطع تحديده حتى علماء الخط والرمل ولا حتى الذين عرفوا أسرار النجوم والبحار" و«لم يصدقوا حين قيل لهم أنّ الليلة السابعة بعد الألف استمرت أكثر من الزمن الأرضي؛ لأنّ القارئ سيكتشف أنّنا نحياها"، ولا يتكرّر العدد سبعة في الليلة فقط، ولكنه يطرح بكثافة في النص الروائي، وقد حاولنا تتبّع آثاره لفهم مقصوديّة النص المكتوب، فوجدناه يتنوّع في الأبواب السبعة المقفلة بسبعة مفاتيح يقف لحراستها سبعة حراس أشدّاء بسيوف ثقيلة، جاء في المتن (كثير من الآتين بعده دقوا الأبواب بعنف شديد، لكنّها ظلت موصدة بسبعة أبواب، وفي كلّ باب سبعة مفاتيح، وفي كلّ مفتاح سبعة أقفال، وعلى رأس كلّ قفل سبعة عبيد، وفي يد كلّ عبد سبعة سيوف، وفي كلّ سيف سبعة شقوق، وكلّ شقّ يزن سبع أرطال. نشر السارد العدد سبعة في كلّ مكان ضمن المتن الروائي، وكأنّ الحياة داخل المخيال النصي تتأسّس على هذا العدد، فالأنجم في السماء سبعة وحكماء المدينة الذين يمثلون ضميرها وعقلها سبعة والبطل البشير اقتيد إلى الكهف من قبل سبعة حراس والقائمة تبقى مفتوحة.. أما العنوان الأول، فتم الإشارة إليه في مواضيع عديدة كذلك وبمفاهيم متباعدة، ومن يقرأ هذه التسمية لن يفهم الجملة من الوهلة الأولى، إلا أنّنا وبعد أن نفرغ من قراءة النص، سنكتشف ذلك الحضور الواضح طوال أطوار بعض المسوغات التي جعلت لهذا الإسم الغريب – تركيبيا. فالعنوان الأساسي اشتمل على تفرّعات دلالية ثلاثة: أولا: رملة بنت رفيعة الغفارية، أورد السارد هذا الإسم وهو يتحدّث عن محنة أبي الذر الغفاري. ثانيا : رمل الماية الأنشودة الأندلسية التي ختمت بها الرواية بعد انتصار البطل والتي تكرّرت عديد المرات، ثالثا: الرمل الذي غطى الكهف كلية، ذلك الكهف الذي نام فيه البطل ثلاثة قرون.إنّ صيغة العنوان في هذه الرواية ككلّ، تنهض على مؤشّرين دالين: عوالم الكتابة والمكتوب، ثم الفنون والموسيقى الأندلسية. فمنهما يتشكّل الحكي الروائي وتتأسّس أنساق الخطاب، فثمّة أزمنة تتداخل وتتشابه، ورؤى تتعدّد وتتوالد وتتقاطع، ففاجعة الليلة السابعة بعد الألف تبدأ بمعاناة الفلاسفة الذين يفضحون الحقائق التي لا يرغب في سماعها الحكام. اشتغل هذا العنوان إذن، كدليل مزدوج ومفتوح، ولهذا نجد له أكثر من مدلول وخاصة بعدما ملأه الروائي بأبعاد ترميزية متعدّدة، وأضفى عليه احتمالات مجازية قربته من الجوانب الجمالية. ولقد ألمح مخائيل ريفاتير إلى الازدواجية الدلالية للعناوين الشعرية، فهذه الصيغ المنتقاة تقدم النص وتحيل في الوقت نفسه إلى نص آخر، وتساعد هذه العملية أن يشير العنوان إلى الموضوع الذي تفسر فيه دلالة القصيدة التي يقدّمها، ويزيد النص المتأخر وضوحا من خلال المقارنة، فيكتشف المتلقي التشابه والاختلاف بين النصين على المستويين السردي والوصفي. منذ الوهلة الأولى، يتبادر إلى الذهن أنّ هذا العنوان سوف ينقلنا إلى فضاء تاريخي قصصي، فهو يحمل تداعيات الذاكرة العربية الإسلامية، ويتواصل مع التراث انطلاقا من تفاصيل دقيقة، فالنص الروائي هنا يستدعي الموروث العربي الإسلامي حينما تتوفر قوة المخيلة، وهذه ميزة الرواية الجديدة. والملفت للنظر أنّ واسيني الأعرج يلجأ في عديد نصوصه الروائية إلى استحضار العناوين الفرعية، فهذه الخاصية لم تقتصر على هذا النص الذي استوقفنا فقط، بل هو يجد في هذه التقنية سندا ومتكأ للعنوان الأصلي، فما خفي في العنوان الرئيسي وعجز عن التعبير عنه يعطيه العنوان الفرعي مجالا أوسع في الفهم والإيضاح، وفي هذا يقول كاتبنا: "أجد عندي هذه الثنائية في العناوين، رغم أنّني في عمقي لا أحبّذها، وحاولت في النصوص الأخيرة تقليص هذه الظاهرة والحدّ منها، لأنّني اكتشفت أنّها بقدر ما هي مفيدة فهي مركّبة وثقيلة للنص، لأنّ العنوان جعل أولا ليحفظ، فبقدر ما يكون كلمة أو كلمتين يكون ناجحا، ويبقى في الذاكرة". ويعتبر واسيني الأعرج العنوان فرعا أساسيا من أساسيات فواتح النص، وفي الوقت ذاته فهو يمتلك يقينا بأنّه يبقى قاصرا، لأنّ الكاتب يختزل فيه 300 أو 400 صفحة في كلمة أو كلمتين، فهل هذه الكلمات قادرة على اختزال مدلولات النص وعوالمه فعلا؟ لقد استمر عنوان " رمل الماية" في التباسه من بداية النص حتى نهايته، فالنص لم يتردّد طيلة الرحلة الورقية في استهداف التشويش على تلقي القارئ بإمداده بمعطيات عديدة وبربطه بخيوط متشعّبة مع مضمون المكتوب الداخلي، وقد شرح أمبرتو إيكو هذا الأمر بقوله: "ينبغي للعنوان أن يشوّش الأفكار لا أن يوحّدها". من ناحية ثانية، لا يتقاطع العنوان "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف" صراحة أو ضمنيا مع صورة الغلاف. فالصورة المنتقاة لغلاف الرواية أشبه ما تكون برسم مبهم وغامض، صورة مرسومة بواسطة تشكيل خطي، تقربنا خطوطه باستمرار التساؤل. فالشكل المصوّر على لوحة الغلاف، والمكرّر لمرتين بلونين مختلفين وبأحجام متفاوتة بين كبير وصغير، لمجموعة من المحاربين مقسمين إلى فرق ثلاثة. وهذا التحديد يبقى بعيدا عن الدقّة، لأنّ الصورة ككلّ تقدّم لنا في سياق رمزي تلميحي.يبرز الشكل الداخلي للوحة الغلاف باللون البرتقالي، وقد جمع هذا اللون بين طاقة اللون الأحمر وسعادة اللون الأصفر، فيرتبط هذا اللون بالبهجة والحماسة والسعادة، بالإضافة إلى أنه يمثل الإبداع والجذب والنجاح والتشجيع والتحفيز للقيام بأمر ما. كما أنّه يضفي المرح والطاقة إذا كان مشعّا، وعندما يصبح محمرا يكون أكثر إثارة ويستعمل كذلك لجذب الانتباه وهو لون غروب الشمس المشرقة التي تطغى بلونها المبهج بهجة في روح الإنسان، فيعتبر من الألوان الروحانية التي تساعد على التأمل، ولكونه لون نشيط فهو يستخدم للفت الانتباه ونشر البهجة، ويعطي جرعة من الحماس والدفء الطفولي؛ فهذا ما يفسر اختيار اللون البرتقالي بالتحديد لرواية "رمل الماية" التي انتهت نهاية مليئة بالأمل والتفاؤل، فالغاية من توظيفه قد تكون للفت انتباه القارئ وتحميسه لاقتناء الرواية، والإجابة على الأسئلة التي قد تراود ذهن القارئ بمجرد رؤية واجهة الغلاف ولونه القويّ والساطع الذي يجذب نظر أيّ متلقّ. الحلقة الأولى