الحلقة الأولى محاور الدراسة: أولا: الأهمية الإستراتيجية (الجغرافية الاقتصادية) والمجال الجيو سياسي للساحل الإفريقي. 1. الخلفيات التاريخية للأزمة في مالي. 2. الموقع والوضع الجيو-سياسي والحضاري للساحل الإفريقي. 3. الأهمية الاقتصادية أو الجغرافية الاقتصادية للساحل الإفريقي. 4. المنظور الغربي (L'approche de l'occident) الدولي المتجدد بعد تفكك المعسكر الاشتراكي: البحث عن محيط دولي جديد للصراع. ثانيا: آليات ومشاهد التأثيرات والأبعاد الدولية في الساحل الإفريقي. 1. آليات ومشاهد استفزاز الوضع والتوتر والانقسام في الساحل الإفريقي. أ. آلية تشجيع التطرف والإرهاب. ب. مشهد أو آلية التهريب والمتاجرة بالمخدرات. ج. مشهد أو آلية المنظمات الأجنبية غير الحكومية. د. مشهد أو آلية تشجيع بروز حركات أو أنظمة إسلامية شكلية 2. مشهد التدخل أو التواجد العسكري المباشر في الساحل الإفريقي 3. فشل التدخل العسكري: آثار وانعكاسات التدخل العسكري في مالي. ثالثا: المقاربات أو المنظور الإقليمي للوضع في الساحل الإفريقي مع التركيز على المقاربة الجزائرية. رابعا: آفاق تسوية أزمة الساحل الإفريقي من خلال الأزمة في مالي (ما العمل؟). يتلخص موضوع الدراسة في النقاط والفرضيات التالية: 1. الوضع في مالي ما هو إلا بداية لسلسلة تُجسّد خلفيات وأبعاداً دولية مصدرها منظومة الرأسمالية الغربية بمحتوى العولمة الأكثر تطرفا هذه المرة، وكأن إفريقيا الآن هي أمام مؤتمر برلين ثاني لتقسيم ثاني لإفريقيا على غرار التقسيم الأول في مؤتمر برلين الأول (1884 1885) الذي قسم ما تبقى من إفريقيا بين الدول الاستعمارية الأوروبية. 2. إن الانسجام في استراتيجية وأبعاد السياسات الغربية هو السائد، وأن التنافس بين الدول الغربية يكمن في التنافس بينهم حول من يستفيد أكثر، اقتصادياتهم متكاملة أكثر منها متباينة في إطار مصالح وأسهم مشتركة من خلال الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية الدولية. 3. محتوى وأبعاد المنظومة الغربية في حد ذاتها، بحكم مضمونها ومرجعيتها الرأسمالية المنطلق وخاصة في عهد العولمة المتطرفة، يطغى عليها أكثر أولوية قصد تحقيق أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية بغض النظر عن الموضوعية أو البعد الاجتماعي أو ما يجب أن يكون إنسانياً. 4. واقع المؤسسات الغربية المشتركة بداية بالمنظومة العسكرية المشتركة: منظمة الحلف الأطلسي، تعكس التحالف العسكري والمقاربات الاستراتيجية المتكاملة في الملفات والقضايا الدولية الكبرى. 5. تزايد التوافق والانسجام الغربي في مواجهة قوى بديلة ومنافسة له (الصين، اليابان، روسيا، الهند...) هو السائد والخلفية وراء سلوكات وممارسات تضاعف حملة التدخل العسكري الغربية المتزايدة في السنوات الأخيرة. 6. ما يبدو من تباين أو اختلاف بين الدول الغربية في الواقع هو للاستهلاك الإعلامي والإدارة السياسية والدبلوماسية للأبعاد الاستراتيجية والأجندات المخطط لها سلفاً في إطار توزيع الأدوار. فرنسا تاريخيا وجغرافيا أقرب للقيام بالمهمة في الساحل الإفريقي والدول الفرنكوفونية بإفريقيا، مثلما الولاياتالمتحدةالأمريكية الأكثر تواجداً للقيام بالمهمة في الشرق الأوسط. 7. مهما كان حجم التباين والاختلاف في الأوضاع الداخلية الاقتصادية والاجتماعية، والأزمات المالية للدول الغربية، فإن المنظومة السياسية الغربية تنسجم حول مبدأ أو اختيار تصدير الأزمة. 8. إن توظيف أو استغلال البعد الديني المتمثل في الإرهاب أو تشجيع بروز أنظمة إسلامية شكلية من طرف الغرب، هدفها ضرب عمق المنطقة من الداخل، بحكم أن النسبة الأكبر (74 ٪) للمسلمين والدول الإسلامية بإفريقيا موجودة بالساحل الإفريقي بامتداداته من غرب إلى شرق القارة إلى دول الصحراء الكبرى (أنظر الخريطة رقم 01). 9. إن أية تسوية للأزمة في الساحل الإفريقي من خلال ما يحدث في مالي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال العودة للحل السلمي والحوار السياسي الذي يعتمد المنظور الإقليمي الذي هو جاهز في وثائق والتزامات بين الحكومة المركزية المالية والمعارضة والأطراف المتمردة، شكلت الجزائر باستمرار محطة جادة لتجسيد هذا المنظور وهذه المقاربة. المحور الأول: الأهمية الإستراتيجية (الجغرافيا الاقتصادية) والمجال الجيو سياسي للساحل الإفريقي. من الصعب تحديد بعد أو متغير ما لتحليل الامتداد الاستراتيجي والمجال الجيوسياسي للساحل الإفريقي، خاصة عند اعتماد مقاربة واقعية بتوظيف العامل الاقتصادي أو الجغرافيا الاقتصادية كمتغير أو محور حاسم في تحليل الخلفيات والأبعاد الحقيقية للأزمة في الساحل الإفريقي. نظريا أو قيميا، من المنطلق السياسي والإعلامي والقانوني (الشرعية الدولية) المعلن في المبررات أو المقاربات للتدخل العسكري هو استرجاع الاستقرار في المنطقة وإبعاد التطرف ومحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة وترقية الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان. التبرير المعلن للتدخل العسكري في مالي بالنسبة لفرنسا يدخل ضمن هذا المنظور والهدف، أي وقف التمرد والانفصال في شمال مالي ووضع حد للإرهاب. ولكن الواقع والميدان يؤسسان لأبعاد اقتصادية واستراتيجية للدول الغربية بغض النظر عن حقوق الإنسان والديمقراطية والقيم الإنسانية والاستقرار الأمني في المنطقة ككل. التوتر والتمرد ومحاولات الانفصال والتقسيم هي آليات للتبرير القوي للتدخل العسكري في مالي. 1. الخلفيات التاريخية للأزمة في مالي: حقيقة أن ما يحدث في مالي له منطلقات محلية وتأثيرات ومبررات داخلية، مصدرها التهميش واللاتوازن الجهوي وضعف الحكومات المركزية المالية المتعاقبة، منذ استقلال مالي (1960) في تجسيد حد أدنى من التنمية بشمال مالي، اقتصاديا وإداريا. ولكن ذلك لا يقتصر على مالي وحدها. معظم الدول الإفريقية عاشت أو تعيش أوضاعاً متشابهة. كثير من الشعوب الإفريقية عانت أو تعاني من الفقر المدقع والتهميش واللاتوازن الجهوي وضعف الجهاز الإداري. أوضاع متشابهة وأخطر كذلك عاشتها وتعيشها شعوب دول أخرى في مناطق خارج إفريقيا مثل الهند أو بنغلادش بحجم سكاني كبير يتجاوز كل سكان قارة إفريقيا مجتمعة وبموارد محدودة جدا وفقر مدهش ومعاناة أخطر ولكن ذلك لم يكن سبباً أساسيا لحدوث الإرهاب أو التمرد أو خلق الحاجة للتدخل العسكري الأجنبي في هذه الدول. يمكن هنا ذكر بعض المشاهد والأحداث وحركات التمرد المسلحة بمالي منذ استقلال هذه الأخيرة. الهدف من ذلك هو إبراز أن التمرد والأزمة بدأت عقب استقلال مالي (1960) وليس كما يريد تقديمها إعلاميا في بعض الدول الغربية وخاصة فرنسا و الأنظمة الموالية لها، مثل النظام المغربي. هذا الأخير الذي يريد أن يعطي للوضع في مالي إفرازات الأزمة التي عاشتها الجزائر في التسعينيات ومطاردة الإرهابيين من الجزائر إلى الساحل. الهدف من هذا التغليط المغربي هو محاولة التهرب من الأزمة التي يعيشها المغرب داخلياً، وبالأراضي المحتلة بالصحراء الغربية من خلال دعم الاستفزاز والتوتر في الساحل الإفريقي. المغرب من الدول الأوائل المنادية بالتدخل العسكري، وعمدت استخباراتها من خلال تشجيع التطرف الديني (حركة الجهاد والتوحيد: (Mouvement pour l'Unité et le Jihad en Afique de l'Ouest: MUJAO)، بل أكثر من ذلك أن قوات خاصة مغربية تحت غطاء مدني، ديني وجمعوي، بدأت نشاطها في الساحل منذ أوت 2012 وهيأت الظروف للتوتر وتحضير الشروط للتدخل الفرنسي بشمال مالي لاحقا (11 جانفي 2013). خلافا لذلك، دور الجزائر كان دائما من خلال العلاقات الثنائية مع الحكومة المركزية المالية، رغم أن الجزائر لها آليات التأثير أكثر من المغرب من منطلق الموقع الجغرافي والإمتداد التاريخي للعلاقات الثنائية بين مالي والجزائر والتي ترجع على الأقل لفترة دعم الحكومة المالية لحرب التحرير الجزائرية وإدانتها للتجارب النووية الفرنسية بالجزائر ووقوفها إلى جانب الجزائر ضد الإعتداء المغربي على الحدود الجزائرية سنة 1963. ويرجع كذلك للإمتداد الديني المذهبي والعلاقات الثقافية والدينية المتجذرة بين الشعبين من خلال الطريقة التيجانية والتي مصدرها ومنطلقها بالجزائر (الأغواط و ورقلة). يرجع التمرد الأول على الحكومة المركزية المالية إلى سنة 1962، واستمر حتى سنة 1964، وفي النهاية فرض الجيش المالي قوته العسكرية بالشمال المالي. وضع أدى إلى نزوح الآلاف إلى الجزائر والدول المجاورة. الحل العسكري لم يحسم المشكل سياسياً. استمرت حركات التمرد دوريا وبقيت تتفاعل محلياً وإقليمياً ودولياً (باريس: مقر رئيسي لمصدر الاستفزاز والتحريض لحركات التمرد) لتتأسس سنة 1988 الحركة الشعبية لتحرير الأزواد (Mouvement Populaire de Libération de l'Azawad: M.P.L.A)، لتصبح لاحقاً (أكتوبر 2012) تحت اسم الحركة الوطنية لتحرير الأزواد، (Mouvement Populaire de Libération de l'Azawad: M.N.L.A) وتعلن في جانفي 2012 العمل المسلح من أجل استقلال منطقة الأزواد. خلال الفترة 1990 1992 تمّ تمرد مسلحين بمهاجمة (1990) ثكنة عسكرية وسجناً بمدينة ''ميناكا''. تمّكن الجيش المالي من وقف التمرد مع تجاوزات وممارسات عنصرية بمدينة ''قاو'' من طرف عناصر من الجيش المالي. أدى ذلك إلى النزوح من جديد إلى الدول المجاورة. وحاولت الحكومة المالية احتواء التمرد سياسياً بمنح منطقة ''كيدال'' حكماً ذاتياً أوسع، وعقب ذلك شهدت المنطقة هدوءا ولكن مؤقتاً، بحيث تفجر الوضع من جديد في أقل من سنة. وبوساطة جزائرية استطاعت الحكومة المركزية المالية الوصول إلى توقيع اتفاق بتمنراست بالجزائر (1991) مع المتمردين بالشمال لإعطاء المنطقة حكم لا مركزي. لم يستمر الاتفاق إلا شهوراً معدودة لينفجر الوضع من جديد. اتهم المتمردون الحكومة المركزية المالية بعدم الجدية في تطبيق الاتفاقات والالتزامات المبرمة. حاولت الحكومة المركزية المالية مرة أخرى الوصول إلى حل سياسي بتوقيع اتفاق ميثاق وطني (1992) يتضمن اللامركزية ودمج المقاتلين المتمردين في المؤسسات العسكرية والمدنية للدولة، إضافة إلى اتفاق لوضع برنامج لتنمية الشمال. ليتطور الاتفاق لاحقاً سنة 1996 ''بتومبوكتو''، حيث تضمن حل الجماعات المسلحة وتسليم 3000 قطعة سلاح للحكومة المركزية. ومرة أخرى بسبب ضعف وعدم التزام الحكومة المركزية في تجسيد الاتفاقيات المتعاقبة، انفجر الوضع بكيدال وميناك سنة 2006. وبوساطة جزائرية تم الاتفاق (04 جويلية 2006) على وقف الهجمات المسلحة على مؤسسات الدولة مقابل تعهد الحكومة المركزية المالية من جديد بتجسيد تنمية الشمال وتجسيد الاتفاقيات التي التزمت بها سابقاً. خلال هذه الفترة زار الحاكم الليبي سابقا ''العقيد القذافي'' (10 أفريل 2006) شمال مالي واحتفل بالمولد النبوي بمدينة تومبكتو متجاهلاً مخاطر التوتر هناك. زيارة اعتبرت دعما للحركات السياسية المناوئة للحكومة المركزية تحت غطاء حماية العمق الحضاري الإسلامي في المنطقة. وبمبرر عدم تجسيد الحكومة المركزية المالية لتعهداتها، تجدد التمرد من جديد في السنوات اللاحقة (2007 2009) ليتطور الوضع عقب التدخل العسكري في ليبيا (2011) وتسرب الأسلحة بكثافة بالمنطقة وعودة مسلحين كانوا يقاتلون بجانب القذافي، إلى الإعلان عن الانفصال وبداية استعمال العمل المسلح في مواجهة الجيش المالي (17 جانفي 2012) قادتها الحركة الوطنية لتحرير الأزواد. آل الوضع إلى انقلاب عسكري (22 مارس 2012) بمالي بقيادة النقيب أمادو سانوغون الذي أطاح بالرئيس أمادوا تومانو توري متهماً الرئيس توري بالضعف والتقصير في المحافظة على وحدة مالي. تمكنت الحركة الانفصالية من السيطرة على مدن رئيسية بشمال مالي، مثل تومبوكتو وغاو. وفي ظل اللااستقرار السياسي والوضعية الهشة للحكومة المالية، وجدت العناصر الإرهابية المسلحة في المنطقة فرصة لمضاعفة وجودها بمدن الشمال، لتصبح المنطقة سجينة الحركات الانفصالية والعناصر الإرهابية. 2. الوضع والموقع الجيو-سياسي والحضاري للساحل الإفريقي: لتحديد الموقع الجغرافي للساحل الإفريقي يجب الأخذ بعين الاعتبار الامتداد والترابط الحضاري والثقافي لشعوبه ودوله من جهة، وموارده الأولية ذات الأهمية القصوى لاقتصاديات الدول الصناعية الكبرى من جهة أخرى. ينطلق المجال الجغرافي للساحل الإفريقي من الجهة الشرقية للقارة (الامتداد الأول) من البحر الأحمر شرقاً إلى امتداد المحيط الأطلسي غرباً (حوالي 6000 كلم) المطل على موريتانيا مرورا بالصومال، جيبوتي، إريتريا، السودان، تشاد، النيجر، مالي وموريتانيا بمحيط جغرافي وجيو-سياسي بامتداد ثاني شمال الامتداد الأول (الجزائر وليبيا) وامتداد على جنوب غرب الامتداد الأول ينطلق من السنغال، غينيا، ساحل العاج، بوركينافاسو ونيجيريا (امتداد ثالث ؟ أنظر الخريطة رقم 01). معظم شعوب هذه الدول مسلمة وتشكل أكثر من 74 ٪ (334 مليون مسلم) من السكان في الساحل الإفريقي (457,6 مليون نسمة)، وتشكل أكثر من 54 ٪ (567,7 مليون مسلم) من سكان القارة الإفريقية ككل (مليار و54 مليون نسمة : أنظر جدول رقم 01 بهذه الدراسة).