«لقد كانت الثورة تنتظر هذا اليوم بشغف من أجل التحرير الوطني، إنه يوم عظيم كان ينبئ بالنصر الأكيد، لقد وقف الشعب في الشرق والغرب كرجل واحد، أنتم خضتم أكبر معارك الأرواس، لقد فقدتم بعضا من الرفقاء الأعزاء الذين بكيناهم جميعا لكن مسيرة الحرية قد بدأت»، هي كلمات قالها الشهيد الرمز مصطفى بن بولعيد للمجاهدين بمنطقة كيمل، بعد ثلاثة أيام من المعركة الشهيرة تبابوشت التي وقعت بتاريخ 7 ديسمبر 1954، حيث كانت الثورة المجيدة في أول أيامها ، أين تلقى بن بولعيد بجنود الثورة لتعزيز ثقتهم بالقيادة والتأكيد على أن الثورة قد انطلقت فعلا ولا تراجع عن النصر أو الاستشهاد، وقد كان الشهيد الرمز رفقة المجاهدين شيحاني، بشير وعباس لغرور حسب شهادة المجاهد الكبير سي جودي كيور. لم يكن أحد يعتقد أن مجموعة من السكان الفقراء، والأميين بمنطقة الأوراس الوعرة التضاريس ستصنع الفارق وتقلب موازين المعادلة بين جيش استعماري غاشم جثم على صدور الجزائريين لمدة فاقت القرن والربع قرن كانت كلها سنوات قتل وتذبيح وانتهاك صارخ للحقوق والحريات الأساسية للإنسان، وبين «رجال» من الاوراس الأشم الذين عقدوا العزم على أن نهاية فرنسا قد اقتربت ومضى وقت العتاب. خلال زيارتنا لدشرة أولاد موسى لم تكن هناك أية مؤشرات توحي، بأن هاته الدشرة الصغيرة ستغير مجرى التاريخ وتصنع صفحات إحدى أروع وأعظم ثورات القرن ال20 ، ثورة حيرت العالم وكشفت عن الوجه الحقيقي والقبيح لفرنسا الاستعمارية، تتواجد دشرة أولاد موسى التي إحتضن احد منازلها المعروف بمنزل «الإخوة بن شايبة» اجتماع ال6 الكبار مفجري الثورة، ببلدية اشمول التابعة لولاية باتنة على سفح جبل اشمول، يقابلها جبل الظهري الكثيف المغطى بأشجار الصنوبر والمحاط بالوادي الأبيض، كما تتميز الدشرة بمنازلها المرتفعة والتي يتواجد تحتها عدد كبير من المزارع والبساتين. وهو ما جعل من منزل الإخوة بن شايبة مكان يكفي الاقتراب منه لتشعر بالرهبة والكبرياء، والقداسة وحتى الخوف والفخر لأن الثورة انطلقت ذات نوفمبر من هنا، حيث تقع بمحاذاة الوادي وتحيط بها غابات كثيفة، وهو ما جعل منها معقلا لثوار رفعوا التحدي وراهنوا على عدالة قضيتهم رغم قلة الإمكانيات واختلال موازين القوى. لقد تم وضع اللمسات الأخيرة للتحضير لاندلاع الثورة التحريرية في اجتماعي 10 و24 أكتوبر 1954 بالجزائر من طرف لجنة الستة، حيث ناقش المجتمعون قضايا هامة هي: إعطاء تسمية للتنظيم الذي كانوا بصدد الإعلان عنه ليحل محل اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وقد اتفقوا على إنشاء جبهة التحرير الوطني وجناحها العسكري المتمثل في جيش التحرير الوطني، حيث تهدف المهمة الأولى للجبهة في الاتصال بجميع التيارات السياسية المكونة للحركة الوطنية قصد حثها على الالتحاق بمسيرة الثورة، وتجنيد الجماهير للمعركة الحاسمة ضد المستعمر الفرنسي. إضافة إلى تحديد تاريخ اندلاع الثورة التحريرية، حيث كان اختيار ليلة الأحد إلى الاثنين أول نوفمبر 1954 كتاريخ انطلاق العمل المسلح الذي خضع لمعطيات تكتيكية عسكرية، منها وجود عدد كبير من جنود وضباط جيش الاحتلال في عطلة نهاية الأسبوع يليها انشغالهم بالاحتفال بعيد المسيح، وضرورة إدخال عامل المباغتة وتحديد خريطة المناطق وتعيين قادتها بشكل نهائي، ووضع اللمسات الأخيرة لخريطة المخطط الهجومي في ليلة أول نوفمبر. وقد اشرف على قيادة المنطقة الأولى في الاوراس الأشم مصطفى بن بولعيد، في حين المنطقة الثانية المسماة بالشمال القسنطيني بقيادة ديدوش مراد، أما المنطقة الثالثة أي القبائل فاختيرت تحت قيادة كريم بلقاسم والمنطقة الرابعة تتمثل في الوسط بقيادة رابح بيطاط، وأخيرا المنطقة الخامسة بالغرب الجزائري بقيادة العربي بن مهيدي . الثورة بدأت من هنا و بدشرة أولاد موسى أو عين الحمام كما كانت تسمى وبالتحديد في ليلة 31 أكتوبر إلى 1 نوفمبر 1954 في جنح الظلام ، كان هناك أكثر من 260 مجاهد يخترقون بأقدامهم سكون الليل وظلامه الحالك الذي عهدته المنطقة آنذاك، حيث اجتمعت قيادة المنطقة الأولى «أوراس النمامشة» ببيت بن شايبة وتحت إشراف البطل مصطفى بن بولعيد، تلقى المجاهدون في هذا اللقاء التاريخي الذين لم يكونوا مجهزين للقتال أسلحتهم الأولى وقسموا إلى أفواج لضرب مراكز العدو الفرنسي، في كامل المنطقة الأولى وقد تشكلت قيادتها في تلك الليلة من مصطفى بن بولعيد قائد المنطقة الأولى، بشير شيحاني نائب قائد المنطقة الأولى، عباس لغرور عضو المنطقة الأولى، مرود عزوي أمين المال، عاجل عجول عضو المنطقة الأولى، بوستة مصطفى عضو المنطقة الأولى. وقد تم استخراج الأسلحة المدفونة منذ 1948 بمنطقة كيمل وتوزيعها على المجاهدين، وبعد توزيع المهام اختيرت كلمة السر «خالد عقبة» التي بدأ المجاهدون يرددونها في الجبال وكلهم يقين بالنصر، حيث أكدت مصادر ثورية عديدة ل»الشعب» أن بداية الثورة بمشاركة 1200مجاهد على المستوى الوطني بحوزتهم 400 قطعة سلاح وبضعة قنابل تقليدية فقط، وكانت الهجومات تستهدف مراكز الدرك والثكنات العسكرية ومخازن الأسلحة. وباعتراف السلطات الاستعمارية، فإن حصيلة العمليات المسلحة ضد المصالح الفرنسية عبر كل مناطق الجزائر ليلة أول نوفمبر 1954، قد بلغت ثلاثين عملية خلفت مقتل 10 أوروبيين وعملاء وجرح 23 منهم وخسائر مادية تقدر بالمئات من الملايين من الفرنكات الفرنسية، أما الثورة فقد فقدت في مرحلتها الأولى خيرة أبنائها الذين سقطوا في ميدان الشرف، من أمثال بن عبد المالك رمضان وقرين بلقاسم وباجي مختار وديدوش مراد وغيرهم. واليوم، ورغم مرور أزيد من 59 سنة، على إحتضان منزل الإخوة بن شايبة للشرارة الأولى للثورة المظفرة، لا تزال نفس البيوت «المقدسة» تحتفظ بأسقفها المصنوعة بالديس والطين في مشهد يوحي بإصرار التاريخ على الصمود وتبرز المعاينة الميدانية التي قامت بها جريدة «الشعب» ، للموقع أن كل شيء لم يتغير فالغرف التي جمعت الرعيل الأول من المجاهدين تحظى بالعناية الكافية، إذ لم تتعرض إلى أي تغير أو تشويه أو حتى تدخل بشري ما يجعلها تحتفظ بقيمتها التاريخية، ويسهل الطريق المعبد الوصول إلى المكان «الرمز»، حيث يتواجد بالقرب من فناء فسيح أقيم به نصب تذكاري كبير يخلد مآثر الثورة التحريرية، كما تتواجد بالمكان لوحة جدارية بها قائمة للشهداء بمحاذاة متحف صغير يضم معدات ووثائق ويحكي عن بطولات المنطقة وأحداثها الثورية، التي ما تزال شاهدا على بطولات شعب أحب الحرية فرض العيش بدونها.