حتى الصحافة الفرنسية استهجنت «زلّة لسانه»، بل أبعد من ذلك، الكثير منها طالبته بالإعتذار. أعني هنا الرئيس فرانسوا هولاند، بل وأزعم أنّ جملته تعبّر عمّا في القلب، وإن كان هناك تأسّف من الإليزي، وليس الإعتذار فإنّ ذلك مجرد محاولة ديبلوماسية للحفاظ على ما تحتويه «القدرة» التي امتدت لها عشرات الأيادي الفرنسية خلال الانزال الأخير لرئيس وزرائه. وعوض الاعتراف بالخطأ، حاول الإليزي إلقاء اللّوم على الاعلام الجزائري كونه «ضخّم المزحة»، هكذا وصف تلك الخطيئة. وقد يكون السيد رمطان لعمامرة ملزما بواجب التحفّظ حين علّق على «زلّة لسان» الرئيس الفرنسي كونها أمرا مؤسفا، ذلك أنّ ممارسة الديبلوماسية تفرض أحيانا استعمال أسلوب التورية كما يقول البلاغيون..لكن قاعدة السلوك هذه من حق المواطن خرقها وعدم الالتزام بها، والجزائري العادي، حتى لا أتحدّث عن الطبقة السياسية، ومخربش هذه السطور أحد ملايينه من حقّه إدانة: «زلّة اللسان هذه» والتنديد بها، وهو رد فعل تلقائي وطبيعي، لأنّ الأمر في هذه الحالة يتعلق بشرف بلد وكرامته أهين مجّانا من قبل رئيس دولة استحلبتنا كثيرا ولا تزال. وأتذكّر هنا حادثة الصحفي الجزائري أبو زكريا صاحب حصة «أ ل م» في قناة الميادين البيروتية إثر مقابلة أم درمان حين تطاول صحفي مصري في مناقشة على المباشر على الجزائر بكلام سوقي بذيء، أن أوقفه مهددا: «أنا لستُ مع النظام بل معارض، لكن إن أعدت إهانة الجزائر، سأحطّم خنشوشك..»، هكذا قال حرفيا بالدارجة الجزائرية. فرانسوا هولاند رئيس اشتراكي، وتاريخنا مع الاشتراكيين في فرنسا بالنسبة للجيل الذي أنتمي اليه، يبدأ بحادثة وموقف في ذلك اليوم البارد الثالث نوفمبر 1954 ببلدة أريس، ثلاثة أيام بعد اندلاع الثورة، حين أعلن وزير الداخلية الفرنسي فرانسوا ميتران الذي أصبح رئيسا لفرنسا ثمانينات القرن الماضي أنّ الجواب «على التمرد والمتمرّدين» يقصد بداية الثورة والمجاهدين، «هي الحرب»! الوجدان الجماعي للجزائريين والجزائريات، يخزّن في الذاكرة ويحتفظ بمثل هذه المواقف، قد يتجاوزها ترفّعا وسموّا، لكن لا ينساها، ومع الاشتراكيين في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي عرف تقنين القمع والتعذيب وميتران وزيرا للداخلية والمصادقة على الاعدامات التي كان يوقّعها ميتران أيضا وهو وزير للعدل. وفي كل الأحوال كانوا يبيعوننا الكلام المعسول، لكن دوما يسقوننا السم في الرسم كما يقول المثل. العلاقة بين الاشتراكيين الفرنسيين واليهود عموما هي أكثر من علاقة وجدانية، وقد يكون تفاعل الرئيس هولاند مع أعضاء المجلس اليهودي الفرنسي خلال إلقاء كلمته أمام مؤتمرهم السنوي، هذا أدى به إلى «زلة لسان»، التي جعلته ينسى أنّ وزير داخليته عاد سالما من مالي ومن إفريقيا الوسطى، حيث المستنقع الفرنسي وليس من الجزائر التي كان فيها رفقة رئيس حكومته يستجدي الصفقات والأسواق لسلعه البائرة أوروبيا وعالميا. وقد استرسل في العلاقة بين الاشتراكيين الفرنسيين وبين الصهيونية، وليس اليهود فقط، لأذكر حسب الكثير من الباحثين والمؤرخين أنّ دخول إسرائيل النادي النووي الدولي كان بمساعدة فرنسا أساسا بعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، ومركب «ديمونة» في صحراء النقب شيّد بمساعدة فرنسية التي زودته بالماء الثقيل وبالخبرات. موقف الجزائريين والجزائريات إثر هذا الخطأ الديبلوماسي والسياسي لرئيس الدولة الفرنسية تجاه الجزائر هو ميزة جزائرية بحتة، وقد ينتقد المواطن حكومته ودولته، بل هو يفعل ذلك صباح مساء، وقد لا يرضى عن سياسة بلاده بل يعارضها مجاهرا بذلك، غير أنّ هناك «ثالوثا مقدّسا» يجمع عليه كل الجزائريين والجزائريات وهو القاسم المشترك بينهم، ومن المهد إلى اللّحد، وأعني هنا النشيد والراية والشهداء وكرامة البلاد. وبعد، ختاما لهذه العجالة، أذكّر بذلك التصريح الذي أدلى به الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان وهو يميني لبيرالي بالقاعدة الشرفية بمطار الجزائر في أول زيارة رسمية لرئيس فرنسي لبلادنا، 23 أفريل 1974. «إنّ فرنسا التاريخية تحيّي الجزائر المستقلة»، وكأنّه أراد بذلك إظهار عظمة فرنسا، جملة استفزازية دون ريب، لكن المرحوم الموسوعة مولود قاسم نايت بلقاسم رحمة الله عليه أجابه بعد يوم بهذه الحقيقة التي تقزم من يدّعي العظمة في مقال: «يوغرطة الملك ابن الملك كان يتربّع على العرش في الجزائر خمسة قرون قبل ميلاد فارسان جيتوريكس الذي يبدأ به تاريخ فرنسا لأنّه مؤسّس عائلة «القولوا» التي هي جدّ كل الفرنسيين، وكانوا يلقّنوننا أيضا أنّهم أجدادنا». كل المواقف الفرنسية، يمينها ويسارها تجاه الجزائر تحكمها عقدة الفردوس المفقود، نفس حرقة الأندلس المفقود لدى العرب، مع أنّ هؤلاء خلّفوا هناك حضارة ثقافية وفكرية وفلسفية وعمرانية هي جزء من تراث الانسانية.. ماذا ترك الفرنسيون لنا؟ حتى ألغامهم لاتزال بعد أكثر من من خمسين سنة تقتل الأبرياء في المناطق الحدودية. هلاّ أدركنا الآن أنّ الإناء بما فيه ينضح؟!