قالت الحكومة الاشتراكية الفرنسية، على لسان وزير الدفاع في تكريمها للسفاح بيجار، إنه يستحق الاحترام، وجاء ذلك بعد أيام فقط من حركة الذراع المشينة التي وجهها وزير الدفاع السابق، جيرار لونغي للجزائريين في عيد الثورة، وهي رسائل لا تترك أي مساحة للشك في أن اليمين واليسار يقفان على مسافة واحدة من ملف الذاكرة، وليسا سوى وجهين لعملة واحدة، عندما يتعلق الأمر باستفزاز الجزائريين. وهذا التواصل بين فرنسا هولاند وقبلها ساركوزي، في التنكر للقمع الدموي الاستعماري، تشهد عليه المجاهدة زهرة ظريف بيطاط، مثلما دوّنه أستاذ التاريخ محمد القورصو. لكن بين اعتراف هولاند بمجازر 17 أكتوبر ''المبطن'' وبين تمجيد الاستعمار ''الظاهر'' من قبل ساسة باريس، المشكلة أن الجزائر تستعد لاستقبال حاكم الإليزي الجديد، ولا تعرف بوضوح ماذا تريد، وما هو المطلوب والمتاح وسط الكمّ الهائل من أوراقها التفاوضية الرابحة. بعد الحركة الدنيئة لليميني لونغي والخطوة القبيحة للاشتراكي لودريان باريس على مسافة واحدة في مساعيها لردم ''الذاكرة'' في كل مرحلة تؤشر على ''تقارب'' محتمل بين الجزائر وباريس، وهو في الأصل ''تباعد''، تسيطر لغة الاستفزاز على خطابات جانب من الفرنسيين، يستبقون إلى مساع لردم ''الذاكرة''، أو تحويرها لصالحهم. وكلما عادت هذه اللغة إلى الواجهة، عاد معها التساؤل: أهو موقف ينمّ عن صراع فرنسي فرنسي، يميني، يساري، أم تقاسم للأدوار ابتغاء لمصلحة فرنسية قحة؟ ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، بنيّته محو الآثار القبيحة الموروثة عن عهد سابقه نيكولا ساركوزي، في محاكاته ملف الذاكرة مع الجزائر، تلاشى بخطوتين، الأولى بقبضة ذراع وزير الدفاع السابق، اليميني لونغي، الذي عبّر عن موقف متطرّف، أفاد من خلاله أن ما يستحقه الجزائريون يوجد بين ذراعه وقبضة يده، ولا يمكن أن يكون في ''بارافار'' الإليزي، حتى إن حاول هولاند القفز على تطرّف اليمين في مراجعته تعاطي الدولة الفرنسية مع الملف الجزائري. أما الخطوة الثانية، فتتعلق بإشراف وزير الدفاع الحالي، جان إيف لودريان، على مراسيم نقل رفات السفاح بيجار إلى منطقة فريجوس، الثلاثاء الماضي، في تحدّ لمناهضي الفكر الاستعماري الذي وقعوا عريضة تنديد من 4500 إمضاء، اعتبروا أن مبادرة لودريان تتناقض مع توجه تهدئة جديد، يسعى إليه فرانسوا هولاند قبيل زيارته إلى الجزائر الشهر الداخل، واستفزاز ''حقير'' للشعب الجزائري في خمسينية استقلاله. غير أن هذا الموقف المناهض لم يكن ليصمد أمام نزعة استعمارية، صارت متجلية أكثر في صورة رد فعل شديد حيال مساعي تقارب، يخشى اليمينيون أن تكون بتنازلات فرنسية، يفتكها الطرف الجزائري في ملف الذاكرة. لكن الواضح أن سياسة الدولة الفرنسية، في هذا الشق، تبدو غير قابلة للتجزئة أو التفكيك، باعتبار أن من خلّد السفاح بيجار اشتراكي ينتمي إلى تيار هولاند، الحامل لشعار التقارب حتى إن تطلب الأمر ''معاهدة صداقة قوية''، رمى بخياره فيها في مرمى الجزائر ''إن أرادت ذلك''. لكنه بالمقابل، لم يجد هولاند حرجا في دعم احتفالية ''فريجوس'' على شرف جلاّد الجزائريين، باعتباره كلف وزيره للدفاع بالإشراف على الاحتفالية بعدما كان متوقعا أن يقوم بها هو بالذات، في سلوك ينمّ أن ما قام به الاشتراكي لودريان أقبح بكثير مما قام به اليميني لونغي، لانتمائه لتيار واضح في مواقفه المعادية للجزائر، ما يظهر مدى التماسك الفرنسي عندما يتعلق الأمر بمصلحة فرنسية تقاس بمسافة واحدة، دفاعا وهجوما، خارج ما تسوّقه باريس، ظاهريا، في صورة صراع بين العسكر (لونغي ولودريان) والسلطة المدنية (هولاند). والواضح أن لغة الاستفزاز التي درج عليها الفرنسيون، استقوت من فراغ ''جبهة الذاكرة'' الجزائرية، ومن مسؤولين جزائريين جعلوا من مشروع قانون تجريم الاستعمار ملفا موسميا صالحا للاستهلاك الداخلي، لا أكثر، ومن شرذمة في مواقف داخلية صارت متصادمة بين أحمد أويحيى الذي يرفض تبني المشروع بمبرّر ''المزايدة''، وعبد العزيز بلخادم الذي يرافع على المشروع ''على مستوى الخطب''، رغم فشل أغلبيته البرلمانية في تبنيه. اكتفت بوصف تصريحاته في 17 أكتوبر ب''النوايا الحسنة'' الجزائر تترك المبادرة لهولاند لكشف نواياه من ملف الذاكرة اكتفت الجزائر بالترحيب ب''النوايا الحسنة'' التي أظهرتها فرنسا لطيّ الصفحة، بخصوص مجازر أكتوبر 1961 ردّا على ''اعتراف'' فرانسوا هولاند ب''القمع الدموي لمظاهرة الجزائريين''. وعدا ذلك، تتفادى الحكومة الخوض في قضايا ''الذاكرة'' قبل زيارة هولاند للجزائر، الشهر القادم، من باب ''عدم إفساد'' الزيارة، وترك المبادرة للرئيس الفرنسي ليكشف هو بنفسه عن نواياه. وتفضل الحكومة الجزائرية التعاطي بهدوء مع موضوع الذاكرة في التحضيرات الجارية لاستقبال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، إلى درجة عدم إدراج هذه القضية تماما في جدول أعمال الزيارة، وترك فرص تناولها ل''مزاج'' الرئيسين خلال لقائهما. ويعكس التوجه الجزائري استمرارا في سياسات ''تهدئة''، بدأت تبرز في السنوات الأخيرة، وتعتمد فصل ''المصلحة المشتركة'' عن ''الماضي المؤلم''، على حد وصف الحكومة الفرنسية، والمرجح أن الحكومة قرّرت تغيير ''شكل تسيير'' الملف، بعدما تيقنت أن قضية ''الاعتراف والاعتذار'' هي في حقيقة الأمر لعبة أوراق رابحة وليست قضية ''تصريحات نارية''. وبقدر ما يتفادى مسؤولون فرنسيون من محيط فرانسوا هولاند الخوض عميقا في مسألة الذاكرة قبل زيارته الأولى للجزائر الشهر المقبل، يكون المسؤولون الجزائريون على قدر أكبر من ''الالتزام'' بمبدأ ''عدم النبش في أغوار الماضي''، في نيّة صريحة للقبول بالمعادلة الجديدة، وهي البحث عن شراكة استراتيجية تلعب فيها مصلحة البلدين أهمّ الأوراق. لذلك، اكتفت الجزائر بالترحيب ب''النوايا الحسنة'' التي أظهرتها فرنسا لطيّ الصفحة بخصوص مجازر أكتوبر 1961، وتتجه أيضا لترقب شكل الخطاب الذي سيلقيه فرانسوا هولاند أمام نواب البرلمان الجزائري، إن كان حاملا ل''نوايا أخرى''. وقد لاحظ مراقبون تحوّلا بارزا في لهجة الجزائر من ملف الذاكرة، منذ ما يقرب السنتين. وتدريجيا، تقلصت حدّة ''العبارات النارية'' من رسائل الرئيس بوتفليقة للجزائريين في مختلف التواريخ الوطنية، وجرى تغييب مشروع قانون تجريم الاستعمار داخل البرلمان ل''دواع دبلوماسية''، مثلما سمّاها رئيس البرلمان السابق عبد العزيز زياري، وصولا إلى تصريحات الوزير الأول السابق، أحمد أويحيى، لما اعتبر التوجه لباريس بخطابات تطالبها ب''الاعتذار'' مجرد ''مزايدات''، وطرح حينها نظرية ''الأوراق'' التي لا تملكها الجزائر، وأنها ''لو كانت مثلا في قوة الصين الشعبية اقتصاديا، لحصلت على ما أرادت دون عناء''. لذلك، بات رأي الحكومة، اليوم، بخصوص مطلب الاعتراف والاعتذار عن جرائم الحقبة الاستعمارية مرتبطا بقول شهير ''يبقى مطروحا، لكن يجب النظر للمستقبل''، وعلى الأرجح ذلك ما يجعل الحكومة تهب فرانسوا هولاند ''فسحة'' من أمره ليكشف نواياه بنفسه في الزيارة، وربما أدركت الحكومة الجزائرية مدى قوة اللوبي اليميني والأقدام السوداء والحركى في صناعة السياسة الخارجية الفرنسية، لذلك تتفادى ''استفزاز'' هذا اللوبي لجعل زيارة هولاند للجزائر تتم وكفى. حوار المجاهدة وعضو مجلس الأمة، زهرة ظريف بيطاط، ل''الخبر'' لست متفاجئة من مواقف الساسة الفرنسيين بل أستغرب رد فعل الجزائريين أقدمت الحكومة الاشتراكية الفرنسية على تكريم السفاح بيجار، بعد أيام من حركة الذراع التي وجهها وزير الدفاع السابق، جيرار لونغي، للجزائريين، وبعد أسابيع من اعترافها بحدوث مجازر في 17 أكتوبر. كيف تنظرين إلى الإشارات المتناقضة للجانب الفرنسي، اعتراف مبطن من هنا وتمجيد لرموز القمع الاستعماري من جانب آخر؟ ما يثير استغرابي هو رد فعل الجزائريين، لماذا تفاجأوا بهذه المواقف؟ سواء حكمت فرنسا من قبل اليمين أو اليسار، هي تحتفظ بنفس الموقف من تاريخ واستعمار الجزائر. ولما نعود بالذاكرة إلى فترة حرب التحرير، يجب أن نعرف أن اليسار مارس قهرا وقمعا دمويا في حق الجزائريين أيام حكمه في منتصف الخمسينيات، لقد حاولوا خنق الثورة، وكثفوا أعمال القمع. واليساريون ليسوا بعيدين عن اليمين، إذ لهم نفس القناعة بخصوص الجزائر ومرحلة الاحتلال. أذكر أن رئيس الحكومة، غي مولي، ذا التوجه الاشتراكي(1956 1957) أطلق إشارات سلام وتحدث عن تسوية، لكنه بمجرد أن رماه مستوطنون متطرفون بالطماطم وهدّدوه في الجزائر العاصمة، عاد لتبني موقف متشدّد من الثورة، واعتمد سياسة قمع غير مسبوق في حق الثوار. هل تنتظرين من فرانسوا هولاند مبادرة تستجيب لطلب الجزائريين اعتذارا لتطبيع العلاقات الثنائية؟ من السابق لأوانه ومن الصعب توقع ما ستسفر عنه الزيارة، سننتظر ونرى. ومسألة الاعتذار عن الجرائم؟ لا أنتظر شيئا من فرنسا، لكن الثابت أننا قمنا بحرب ثورية وأنجزنا بطولات، وهزمنا فرنسا التي هي قوة عظمى. إن استقلال الجزائر وحرب التحرير من معالم القرن العشرين، والعالم أقرّ واعترف بذلك، ويجب أن نفتخر الآن بذلك. إنها فترة مجيدة من تاريخنا. لقد حاول الاستعمار الاحتفاظ بالجزائر، واستعمل وسائل شبيهة بأساليب النازيين تجاه الثورة، التعذيب والقمع كانا منهجا دولة، وليس تجاوزات جنرالات وعقداء في الجيش الفرنسي، كما يحاولون أن يصوّروا ذلك لنا. كيف ترين مستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية؟ أتحدث عن رؤية بلادي. لقد اعتمدت الجزائر منذ الاستقلال في 1962 على رؤية عادية، لا لبس فيها، أي علاقة دولة تجاه دولة، وعملت على تحقيق المصلحة الوطنية، ولازالت تسلك نفس الطريق. الجزائر: حاورها جمال. ف أستاذ التاريخ، الدكتور محمد القورصو، ل''الخبر'' اليسار الفرنسي يحسن المراوغة في موضوع الذاكرة ما دلالة الاحتفال بنقل رفات الجنرال بيجار قبيل زيارة الرئيس هولاند إلى الجزائر؟ القراءة الأولى أن لا فرق بين الممارسة والتفكير، في موضوع تكريم بيجار، بين اليمين في عهد نيكولا ساركوزي واليسار في عهد فرانسوا هولاند، لاسيما أنه موضوع ورثوه وتم إحياؤه اليوم من طرف وزير الدفاع، بعدما كان منسيا. فقد أثار نقل رفاته عندما توفي في 2010 ضجة كبيرة، وأمام رفض مناهضي الاستعمار بفرنسا، تم إحباط العملية. وهاهو وزير الاشتراكيين للدفاع يحيي المشروع، وهذا يعني أن التواصل مستمر بين اليمين واليسار في استفزاز الجزائريين. وهذا يذكرنا باعترافات سفراء فرنسا في عهد جاك شيراك، وخاصة في عهد ساركوزي، بأن ما حدث 8 ماي 1945 كان عملا مشينا، وبالمقابل، يقومون بتمجيد الرسالة الاستعمارية. وتلاحظون بأنه بعد اعتراف هولاند بدموية أحداث 17 ديسمبر 1961، تولى وزير دفاعه بتمجيد أكبر كبار سفاحي الدولة الاستعمارية، ليس فقط في الجزائر. ما مصداقية الطرح الذي يقول إن اليمين في فرنسا أكثر استفزازا من اليسار، في موضوع الذاكرة المشتركة مع الجزائر؟ لا فرق بين هذا وذاك، كلاهما يدافعان عن مصالح فرنسا بالدرجة الأولى، لكن الاشتراكيين أكثر دهاء، فهم يحسنون المراوغة. لقد وجه هولاند رسائل قوية باتجاه الجزائر أثناء وقبل حملة انتخابات الرئاسة، وها هو الآن يمحي مضمون هذه الرسائل، ويبعث إلينا رسائل مشفرة تثبت أن فرنسا لا تقبل الاعتذار، وحتى إن أقدمت عليه، فهو جزئي، كالاعتراف بجرائم 17 أكتوبر و8 ماي، بينما الجريمة والاستعمار كل لا يقبل التجزئة، والاعتراف لا يمكن أن يكون انتقائيا، فإما أن يقرّ الفرنسيون بأنهم ارتكبوا جرائم حرب وفظائع ضد الإنسانية بالجزائر، وإما أن لا يفعلوا ذلك. هل تعتقد أن الحكم بالجزائر يملك أدوات القوة بما يسمح بافتكاك اعتراف رسمي فرنسي بالجريمة؟ ينبغي أن توجد الرغبة أولا، فهي غير مرتبطة بتوفر القوة. ينبغي أن نمتلك رغبة سياسية في دفع فرنسا إلى الاعتراف بجرائمها والاعتذار عنها. هذه الرغبة هي التي حرّكت مجموعة من الوطنيين الثوريين، فجابهوا الاستعمار بأسلحة غير صالحة في أحيان كثيرة، ولأن العزيمة وروح التضحية كانتا متوفرتين، انتزعت الجزائر استقلالها. فالجزائر تحوز أوراق ضغط كثيرة، نأمل في توظيفها، لاسيما أن الخطاب الرسمي كان شديد اللهجة في المناسبات التاريخية، وينبغي أن نعترف بذلك، يبقى كيف يحوّل هذا الخطاب إلى ممارسة وتطبيق.