تميزت مدينة الصخر العتيق "قسنطينة" خلال السنة الجارية (2013)، بالعديد من التظاهرات الثقافية، سجلت من خلالها تفرّدا وخصوصية ميّزتها عن باقي المدن الأخرى، إضافة إلى كونها، منذ أكثر من قرن، مركزا للإشعاع العلمي والثقافي، مكنها لأن تصبح بجدارة واستحقاق سنة 2015 عاصمة أبدية للثقافة العربية. وإذا كانت التظاهرات والنشاطات الثقافية التي احتضنتها قسنطينة سنة 2013 عرفت نجاحا لا يمكن إنكاره، إلا أن أكثر التظاهرات تألقا يبقى "المهرجان الثقافي الدولي للمالوف"، وهو المهرجان الذي خطا خطوات عملاقة، باعتبار قسنطينة مهدا لهذه الصنعة الموسيقية المتفردة بطابعها وشيوخها الذين سجلوا أعمالا ونجاحات دخلت في قاموس الموسيقى الوطنية والدولية. لقد تميزت الطبعة 07 للمهرجان الثقافي الدولي لهذه السنة والذي احتضنه مسرح قسنطينة الجهوي من 28 سبتمبر وإلى غاية 04 أكتوبر الماضيين، تحت شعار "نبض المالوف في قلب العالم"، بالمشاركة الخاصة لفرق وطنية وأخرى عربية وأوروبية نذكر منها، تركيا، سوريا، المغرب، العراق، لبنان، مصر وتونس، زيادة على فرقة "الجاكو ميزيكانتي" الإسبانية، حيث يعبر هذا التنوع في الحضور على ما يسمى اليوم ب«الحوار الموسيقى" الذي أضحى عالميا، كون الموسيقى بمختلف طبوعها وألوانها لا تعرف الحدود، فهي إرث حضاري إنساني يجب المحافظة عليه وتمكين الآخر من الاستمتاع به. أرواح "الشيوخ" خيّمت على المهرجان وما ميّز هذه الطبعة أيضا، هو تكريم في سهرة الافتتاح أحد أعمدة فن المالوف الشيخ "حسونة علي خوجة"، باعتباره أحد الشخصيات الفنية التي تركت بصمة لن تمحى من ذاكرة "المالوف والزجل" القسنطيني، فقد رأت هذه الشخصية التي خيمت روحها على المهرجان النور سنة 1896 ب«سيدي جليس" أحد الأحياء العتيقة لمدينة قسنطينة، حيث نشأ في عائلة مولعة بالموسيقى الأندلسية، انضم صغيرا إلى حلقة "الحنصالية "فكانت له علاقة وطيدة بزعيمها الروحي سي أحمد بسطانجي، ورغم أنه لم يتلق تعليما أكاديميا بل كان عصاميا، نظرا لولعه الشديد بفني المالوف والزجل، فقد أولى اهتماما كبيرا في البداية بالبحث في النصوص الأندلسية بعد سقوط غرناطة، بعدها تناولها غنائيا وأبدع فيها، حيث كان يحفظ عن ظهر قلب أكثر من 500 نص في الأشكال الغنائية المعروفة في المالوف والزجل مثل "الزموم سيكا، الزموم حسين.." الخ. من أهم أعماله والتي لاتزال متداولة حتى اليوم "نوبة رصد الديل، والزجل البوري العود قد ترنم". الشيخ حسونة، الذي رحل عن عالمنا في شهر ديسمبر 1974، اكتشف أصواتا فرضت نفسها على الساحة الفنية كان أشهرها وآخرها، الحاج محمد الطاهر فرقاني الذي نقل عنه فنيا الكثير. إضافة إلى هذه الشخصية الفنية المرموقة، فقد أطلق منظمو المهرجان على كل سهرة من السهرات 06 للمهرجان إسما لشخصية فنية من الشخصيات القسنطينية التي طبعت فن المالوف، وهم الشيوخ: "قارة بغلي المدعو بابا عبيد، ابراهيم بلعموشي، عمار بوحوالة المدعو فرد الطابية، عبد الحميد بلبجاوي، حمو فرقاني، الطاهر بن كرطوسة". ومن دون أن ننسى المشاركة المميزة خلال هذه التظاهرة للفنانين الجزائريين الذين فاق عددهم 30 فنانا والفرق الموسيقية التي حافظت على هذه الصنعة من الاندثار، حيث نذكر من الفنانين والفنانات: "ديب العياشي، سليم الفرقاني، كمال بودة، جمال عراس، فوزي بودربالة، صورية سبيري، فلة فرقاني، محمد بن ثابت، عبد الرشيد سقني، توفيق تواتي.. وغيرهم"، والفرق: "المجموعة الوطنية الجزائرية للموسيقى الأندلسية، الجمعية المغديرية للموسيقى الأندلسية لمعسكر، فرقة عادل مغواش للموسيقى الأندلسية لقسنطينة، المجموعة الوطنية مدرسة الانشراح، فإن التظاهرة زادتها المشاركة العربية تألقا من خلال بعض الفرق والفنانين الذين اكتسبوا شهرة عالمية. أسماء عربية وأجنبية تألقت في السهرات الفنية ونذكر من بين هذه المشاركات، الحضور المميز للفنانة والمغنية التونسية "دورصاف الحمداني" التي أمتعت الجمهور القسنطيني، حيث يعرف عنها امتلاكها للصوت النقي والقوي، ومشاركتها في الكثير من الحفلات والمهرجانات العربية والعالمية، من بينها فرقة المعهد الرشيدي ومهرجان الموسيقى الأندلسية بغرناطة واشبيليا، كما حصلت على العديد من الجوائز منها "الأسطوانة الذهبية" لمهرجان الأغنية التونسية (1996) والجائزة الثالثة لمهرجان الموسيقى العربية بالأردن (1995). وإضافة إلى "دورصاف الحمداني"، نذكر مشاركة الفنانة المصرية المتألقة "ريهام عبد الحكيم" وهي الشهيرة ب«صوليست" الفرقة القومية للموسيقى العربية بدار الأوبرا المصرية، والممثلة البارعة التي قامت بأداء دور "أم كلثوم" في فترة الصبا تمثيلا وغناء في مسلسل "أم كلثوم" للمخرجة "إنعام محمد علي"، كما أدت دور "رابعة العدوية" على خشبة المسرح للمسرحي المخرج "حسام الدين صلاح". ومن المشاركين العرب الذين طبعوا هذه التظاهرة، نذكر الفنان العراقي "سعد الأعظمي"، فهو من جيل مغنيي المقامات الذين ميّزوا ساحة الغناء "المقامي" في بغداد جيلا بعد جيل، حيث نهل هذا الفنان من مدرسة الراحل "محمد القبنجي" الذي أخذ منه كل من جاء بعده أمثال "يوسف عمر" والراحل "ناظم الغزالي". كما ترك الفنان السوري "أحمد الأزرق" بصمته في السهرة الرابعة للمهرجان، ف«أحمد الأزرق" من الفنانين السوريين القلائل الذين درسوا أصول الغناء والموشحات والأوزان على يد أساتذة عمالقة أمثال "نديم الرويش"، "حسن البصال" و«جميل الأصفري"، وقد أسس أحمد الأزرق فرقة "سلاطين الطرب" سنة 1993 وهي الفرقة التي شاركت في عدة مهرجانات عالمية، كما نقل هذا الفنان الأصيل إلى قسنطينة عبق الفن العريق وأصالة الغناء العربي من الموشحات والأدوار والقصائد الغزلية والدينية والقدود الحلبية والأغاني التراثية. هذا وللإشارة، فإن أسماء أجنبية وعربية سجلت حضورها المميز في هذه الطبعة، نذكر منها التركي "ديميتري أوغلو"، والفرقة الإسبانية "الجاكو إيل موزيكانتي"، والفنانة المغربية "سميرة القادري" والفنانة اللبنانية "نادين الباروكي" وفرقة "نايا الأردنية"، إضافة إلى المشاركة المميزة لفرقة الفنان. والجدير بالذكر، فإن المهرجان الثقافي الدولي للمالوف في طبعته 07 وإن كان قد ميز الساحة الثقافية القسنطينية لهذه السنة، فإن الطبعة الثامنة ستكون، بحسب المنظمين، أكثر ثراء مما يضفي بحق طابع "العالمية" أو "الدولية" على هذه التظاهرة التي تنبع أصولها من مدينة قسنطينة صاحبة الفضل في نشوء هذا الطابع الموسيقي اللصيق بشخصيتها الثقافية والحضارية.