قدم الدكتور محمد لحسن زغيدي، مقاربة عن الثورة الجزائرية وخصوصيتها ودورها في تحريك النضال التحرري في مختلف أنحاء المعمورة، مذكرا بأقوال زعماء انتفضوا ضد الاستعمار من أجل أوطان محتلة وحريات مسلوبة داخل البلد الواحد. منهم ما ذكره الزعيم الإفريقي الراحل نيلسون مانديلا القائل "بأن الثورة الجزائرية جعلت منه رجلا"، وما أكده صانع التحرر الفيتنامي الجنرال جياب "عرفنا ثورة الأوراس فانتصرنا" وما قاله ودونه في مؤلفاته عن التحرر اميلكار كابرال "أن الجزائر قلعة الثوار". ذكر بهذه الخصوصية والدلالة لثورة الجزائر، الأستاذ الجامعي زغيدي من فضاء "ضيف الشعب" يوم السبت، وهو يعطي قراءة عن "إضراب ال8 أيام" وما أحدثه من أثار في التعجيل باستقلال الوطن المحتل من مستعمر فرنسي ظل يردد على الملأ مغالطات وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان بالضرب على الوتر "الجزائر فرنسية" قبل استبدالها بعبارة أخرى كاسدة لتزوير حقيقة قائمة "الجزائر جزائرية". جاء إضراب ال8 أيام لتصحيح معادلة مختلة للتأكيد على أن الجزائر لن تكون أبدا ضمن المشروع الاستيطاني الفرنسي. وهي اختارت النضال من أجل استعادة السيادة الوطنية وهوية شعب مسلم للعروبة ينتسب من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب". وعن غياب نخبة منظرة للثورة تمتلك فلسفة تحدد معالم الدولة وشكلها خلافا للثورات العالمية الأخرى التي فجرتها قيادات وزعامات قال الدكتور زغيدي أن هذه المسألة تعطي للمسار التحرري الوطني التمايز والاستثناء. وقال الأستاذ الجامعي في مقاربته" أن الثورة لها تنظيمها ونخبها. عرفت ثورات العالم بانها ثورات تخطط وتقاد من نخب وطنية تشكلت مع ظروف البلدان . استطاعت ان توجد لها فلسفتها مبنية على قوالب تحررية تؤمن بها النخب لتكون محور يجمع القوى الوطنية لبلوغ الهدف الأسمي". للنخبة مفهوم آخر.. لكن كيف هي الحال بالنسبة للثورة الجزائرية مقارنة بالصينية والبلشفية والأمريكية وما إلى ذلك من نضالات تحرر عبر المعمورة؟ حسب الدكتور زغيدي فإن معظم الثورات اعتمدت على قاعدة النخب المتخرجة من المعاهد والمدارس وصاحبة مؤلفات ونظريات وفلسفة. لكن هناك مفهوم أخرى طرح مع الحالة الجزائرية ممثلة في وجود نخب ولدتها الظروف. وصنعتها الأحداث. استثناء الشعب الجزائري من المفهوم النخبوي المتعارف عليه في القاموس اللغوي الثقافي السياسي يعود إلى تاريخ الاستعمار الفرنسي الذي فرض احتلال استيطاني بالحديد والنار وجاء بفلسفة التغيير الكامل والاستبدال الشامل للبنية البشرية وفق نظرية الأغلبية الديمغرافية. لذلك هجر أفراد من أوروبا وغيرها وتوطينهم مع تمكينهم في الجزائر. وذهب المستعمر الى حد تغيير الجنسية الثقافية والهوية للاصل ليحل محله الدخيل كاملا مستعملا أساليب التهجير والإبادة لفرض الخيار الحتمي من وجهة نظره:« اما الفرنسية أسو النهاية.". على هذا الأساس كانت النخب الوطنية متشبعة بالثقافة الثورية بامتياز. وهي ثقافة ورثتها عبر الثورات الشعبية والاحتكاك مع الأخر والاطلاع على الحراك الثوري في باقي جهات المعمورة.حدث هذا مع بعد العشرينيات بظهور طليعة مثقفة بالجزائر وجدت لنداءاتها وبرامجها الثورية اذانا صاغية. وهو ما وقع مع "النجم" ومن بعده حزب الشعب ومع ما كونته جمعية العلماء المسلمين والحركات الوطنية الأخرى. لما جاءت ثورة اول نوفمبر وجدت ان النخبة التي حضرت لها مستواها في الوعي الثوري اكبر من المستوى التعليمي. جعل منها نخبة فريدة في التكوين والنشأة والتصميم. أما لعدم وجود زعيم يقود التحرر ويحدد بفلسفته طبيعة النضال والرؤية والأهداف التي عاشتها ثورات اخرى بالمعمورة فيرى الدكتور زغيدي أن هذه المسألة وجدت الحل والاجابة من خلال بيان أول نوفمبر ذاته. أن النخبة القيادية التي حضرت بدقة للتحرر آخذة في الاعتبار ادبيات الحركة الوطنية وإخفاقاتها بعد خروجها من اجتماع 22 رأت في مسار الحركة الوطنية ان من أسباب تأخر تفجير شرارة الثورة الصراعات الشخصية والفردية حول الزعامة لقيادة الحزب. لهذا الأمر قررت الخروج من النهج الذي سطرته منذ إعلانها عن وعودها بالانتفاضة المصيرية وترك جانبا التجربة السابقة وما تبعها منة صراع بين المصاليين والمركزين وسقوط معه الهدف والغاية. عندها قرر بوضياف وجماعته على أن تكون للثورة زعيم آخر غير متآلف عليه. هذا الزعيم لا يمكن إطلاقا مع مرور الوقت ان ينقسم. انتقلوا مع هذا المفهوم الجديد إلى الزعامة الجماعية بدل الفردية. واختاروا الأرضية الجامعة المحتوية على مبادئ ومفاهيم وأبعاد وتطلعات تكون بحق الميثاق والدستور والفلسفة التي توحد القيادة والمجتمع وتصهرهما في بوتقة واحدة : جبهة التحرير الوطني وهي بيان اول نوفمبر. بذلك تكون الثورة الجزائرية الوحيدة في العالم التي لم تخضع لقيادة زعيم بل لوثيقة جامعة مبنية على القيادة الجماعية وقرارات جماعية. فمبدأ جماعية القيادة وجماعية القرار، مكّن من إنجاح الثورة وجعل منها مرجعية عبر العصور وتركها تدرس ليس فقط لكونها حررت الوطن المحتل بأبشع استعمار استيطاني، لكن جزء كبير من أمم الجنوب مغيرة بذلك مجرى العلاقات الدولية في أبعد مداها على الإطلاق.