عرّف بعض دارسي الثقافة والحضارة من الأنثربولوجيين الإنسان ب«الحيوان الذي يَستخدِم الرّمز» أي سلوك ما أو حركة أو ارتداء لباس ما بلون مميّز وبكيفية معينة، وهو نفس التعبير الذي نجده عند عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الذي قال: «الإنسان حيوان معلّق في شبكات دلالات قام هو بنسجِها» هذا الرمز والشبكات من الدلالات يعتبر «خطاباً» يحتاج إلى فهم وتأويل مثل الظاهرة الطبيعية التي تحتاج إلى اكتشاف قوانينها. اللباس أو الثّوب خطاب ثقافي تشكّل بفعل التطورات وظهور الأديان، وإن كان في البدء حماية من البرد وأشعة الشمس وستراً لجزء من الجسم صار عورة مع تمدن الإنسان وبروز أشكال تنظيم العلاقات الأسرية مثل «الزواج»، ولم يبق اللباس بالمعنى الديني والثقافي عند شكل واحد وكيفية معينة في ارتدائه بل تطور وتغيّرت الرؤية الاجتماعية إليه بفعل التطورات الاجتماعية والمذهبية داخل ثقافة واحدة، ففي تاريخ الثقافة الإسلامية كان الأصل في ربط العلاقة بين العبادة واللباس وتفضيل لون على آخر، وتحفل الكتب التراثية الإسلامية بتفصيل وأخبار عن «اللباس» ولا يرتبط ذلك بالحيّ بل كذلك بالميت في طريقة كفنه ولونه، والعلاقة الرمزية بين بياض رداء الحجّ وكفن الميت واضحة في الزهد في الدنيا والإقبال على الله بالنظافة المادية والمعنوية، ويمكن استخلاص الدلالات الدينية والاجتماعية في مسألة اللباس في علاقته بالعبادة والجسد والتمذهب الديني والسياسي. الدلالة الدينية و الاجتماعية إنّ علاقة اللباس بالجسد تُبرز الدلالات الاجتماعية والدينية والتاريخية، كما أنّ تلك العلاقة تكون في البدء مقدّسة ثم تتحول إلى ثقافة رمزية اجتماعية تعرف بعضها تطورات وتغيراً في المعنى والدلالة، أو تكون في البدء ظاهرة اجتماعية جديدة لتأخذ قداستها ورمزيتها حين يرتبط ذلك اللباس بفرقة أو طائفة تدخل في صراع مع فئات اجتماعية ومذهبية أخرى، وقد يكون للباس ما رسائل ثقافية وسياسية في عالم وسائط الاتصال الجديدة، ومنها «العري» مثلاً كتحد وموقف سياسي، أو التحجّب في المجتمعات التي تُقهر فيها الأقليات المسلمة، كما كان اتخاذ «القناع» أو لبس «الدرع» للدلالة على الحرب ورمزية الشجاعة والبطولة، ثم أصبح شكلاً فنياً في المسرح. ومع تطور وسائط الاتصال الجديدة وانتقال الصورة برز «الّلباس» كخطاب، كرمز ديني وثقافي واجتماعي يحتاج للقراءة والفهم واعتباره موقفاً سياسياً أو له علاقة بالصراع في مجال الثقافة والهويّة، تابعنا ذلك من خلال «قضية الحجاب» في فرنسا وأوروبا واستخدام الرموز اللباسية عند الأديان الأخرى، كما كان لحرق «الجسد» الأثر في التعبير المكثّف في معارضة السلطة والاحتجاج الاجتماعي في العالم العربي في السنوات الأخيرة، وعلاقة اللباس بالجسد في الأديان سواء في الممارسة الطقوسية أو العادة الاجتماعية يتفاوت من دين لآخر ويشكّل جوهر الاختلاف، وله قوّة هذا التميّز مثل الاختلاف على مستوى العقيدة والتعاليم، كما أنه داخل ديانة واحدة يكون اللباس مظهراً تراتبياً ومذهبياً، فلون العمامة والعباءة والقلنسوة، وكيفية لبسها وتفصيلها عرف تطوراً، مدّاً وجسراً في تاريخ ثقافة اللباس العربي الإسلامي، وقد كان لتأثير ثقافات السكان الأصليين واستمرار أجزاء منها في الملبس والطعام وتقاليد الدفن والفرح وتلبّسها بالمعنى الإسلامي قوّة استمر بعضها إلى اليوم، وأحياناً يتحول إلى تمايز مذهبي مثل لون السّواد عند الشيعة في مناسبة عاشوراء أو اللون الأخضر عند الطرق الصوفية، هكذا نلاحظ في تاريخ الثقافة العربية العلاقة بين اللباس والجسد «ستر العورة» كشرط في صحّة العبادة «الصلاة» وعري أجزاء من الجسد مع لبس الرداء الأبيض بكيفية مخصوصة وشروط دقيقة في أيام معدودة لصحّة «الطواف» كركن من الحجّ، أما النساء فتفصيلات الحجاب وكيفية لباسه والخلاف في ستر الوجه أو عريه فهي اليوم من مباحث الكتب الفقهية والدينية، وتشكّل حضوراً في الخطاب الإسلامي في مواجهة الخطابات الحداثية والعلمانية، ومن هنا أصبح اللباس ليس علاقة بالجسد فقط «في المجال التعبدي» ولكن أيضاً في علاقة مع «الصراع السياسي» واختلاف «الثقافة والهوية». التراتبية لقد ورد لفظ «اللباس» في القرآن الكريم دلالة على العلاقة الجنسية في قوله تعالى «أحِلّ لكم ليلة الصيام الرّفَثُ إلى نِسائِكم هنَّ لِباسٌ لكُم وأنتُم لباسٌ لَهنّ» ويأخذ دلالة ارتداء بالمعنى السلبي والإيجابي، مثل «فأذاقها الّله لِباس الجُوع والخَوْف»، والثاني «ولباسُهم فيها حرير»، أي أن الآيات التي ورد فيها اللباس كاستعارة رمزية لم يكن للمعنى المتعاهد في ذاته، وإنما الآية التي تؤدّي معناه الحقيقي جاء بلفظ «الزينة» أي كجمال للجسد وستر للعورة، والإسلام أو أية ديانة أخرى يكون تنظيم «الجسد» وتقنين حركاته مرتبطاً باللباس، ولذلك نرى الحركات الدينية الاحتجاجية سواء عند المسلمين أو غيرهم يكون «اللباس» وشكله وتفصيله مسألة رمزية بالغة الأهمية في التميز والتأثير على الأتباع مثل ما يعرف ب«القميص الأفغاني» كمظهر لباسي سياسي في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وانتشر في أوساط الإسلاميين الجزائريين مثلاً في مسيراتهم وتجوالهم في الشوارع الجزائرية، وقد نقل ذلك «المجاهدون العرب» الذين قضَوا فترة في أفغانستان، وفي العصر الوسيط كان لباس «المرابطين» الذين أسّسوا دولة المرابطين في المغرب الإسلامي «الّلثام» على الوجه وهو تقليد عند التوارق الصنهاجيين السكان الأصليين منذ القديم، ولكنه تحوّل إلى رمزية حربية ودينية مذهبية مع نشوء هذه الدولة وقلّدهم من هم ليس من عاداتهم ذلك، وحين قامت الدولة المُوحّدية بقيادة المهدي بن تومرت ذمّ اللثام وأصبح شتماً مذهبياً، إذ أطلق لفظ «الملثمين» في كتابه «أعزّ ما يطلب» على المخالفين له سياسياً ومذهبياً. ولو حاولنا تتبع علاقة اللباس بالتمذهب والتراتب الديني والاجتماعي فيمكن ذكر الحركة الصوفية، فمصطلح «التصوف» الذي له أكثر من تفسير لأصله، بعض الدارسين يرجعونه إلى أصل ثوبي اجتماعي، ف«أهل الصّفّة» أي الذين كانوا يتخذون ركناً من المسجد من فقراء الصحابة ولا مأوى لهم، وتحدث المحدثون عن حالهم المتواضعة ولباسهم القصير من الثياب للحاجة، بمعنى أن الأصل ارتبط بالحالة الاجتماعية ثم تحوّل إلى رمز ديني، وبقي هذا التلازم بين «التصوف والفقر» ومنه استمدّ المتصوفة كذلك اسم «الفقراء» أي الفقراء إلى الله. مع الفتوحات الإسلامية ودخول شعوب جديدة إلى البيئة الثقافية العربية كان الامتزاج في أنواع من اللباس والتأثير المتبادل، ففي بلدان فارس والهند نوع من اللباس مكيّف حسب تقاليد موروثة يلبس في المناسبات الدينية، وكذا كان الحال في بلدان المغرب العربي التي تحتفي إلى اليوم بالبرنس الأمازيغي القديم كرمزية دينية واجتماعية، ويختلف من فئة إلى أخرى، فهناك نوع خاص مثلاً للعلماء وحفظة القرآن الكريم، وأشكال العمامة وطريقة لبسها ووضعها على الرأس في العصر العباسي وإلى اليوم في بعض البلدان العربية والإسلامية كانت مجالاً للتمييز بين العلماء ورتبهم وطلبة العلم، كما ظلت «العمامة الأزهرية» علامة الفقهاء ومشايخ الدين، وبنفس الكيفية مع اختلاف في الشكل واللون وطريقة اللبس عند خريجي الزيتونة والقرويين بشمال إفريقيا، ويروي المؤرخون التعليمات الصارمة في العقوبة التي حدثت في التاريخ العربي إذا ما لبس الإنسان العادي لباس العلماء أو الطلبة، فذلك يعتبر انتحال صفة ويعاقب عليها. فالتراتب الديني والاجتماعي اتخذ من «اللباس» جوهر الاختلاف سواء في الحلقات العلمية بين الشيخ أو الإمام والطلبة الذين ينقسمون إلى مراتب حسب درجة التحصيل العلمي، وهذا يظهر في طول العمامة ومقاسها، وهو ما نجده في حلقات التصوف بين الشيخ والمريدين، فعمامة الشيخ أكبر من حيث المقاس. من خلال ما سبق نلاحظ أن الاهتمام باللباس ولونه وكيفية ارتدائه تقوى عند الفئات المذهبية التي تعاني من عدم الاعتراف بها وتهميشها والتضييق عليها، ومن هنا يكون اللباس رسالة سياسية واجتماعية يأخذ قدسيته ورمزيته المبالغة قصد التميّز والحفاظ على وحدة الجماعة التي تنتمي لنفس المذهب، ولذا حدث الخلل في اعتبار قدسية اللون من البياض المفضل إلى السواد عند بعضهم، وظهور اللون الأخضر كرمز للون المتصوفة، لأنه لون أهل الجنة، ويستثمر اليوم اللباس كمظهر سياحي وهو عامل مادي للمحافظة عليه.