يسجّل في الظّرف الرّاهن جدل في أكثر من مستوى حول الخيارات الكبرى التي تتطلّب مواجهتها بنجاعة في ضوء المؤشّرات الاقتصادية والمالية الوطنية والعالمية، في وقت انتقلت فيه البلاد من مخاض انتخابي ارتقى بالمجموعة الوطنية على ما فيها من اختلاف في الرأي وتنوع في التوجهات، إلى درجة من المسؤولية في التعامل مع جملة التحديات التي ترتبط بمستقبل اجيال بكاملها. الوقت اليوم للعمل والتنمية في كافة القطاعات وعلى كافة المستويات، بالموازة مع تطور مسار عملية الاصلاحات السياسية التي ينبغي أن ينخرط في الحوار بشأنها كافة المعنيين بروح بناءة وبدون احكام مسبقة، حتى تنسجم الصورة وتتكامل الجهود. إذا كان الاختلاف معقولا بشأن بعض المسائل المرتبطة بالجوانب السياسية، فإن ذلك لا يبدو موضوعيا بشأن الخيارات الاقتصادية التي تحدّد في نهاية المطاف حجم ومضمون القرار السياسي. لذلك فإنّ الجدل الذي يدور في الأوساط المعنية من الشركاء إلى درجة إفراط بعض قصيري النظر في تسويق خطاب سلبي، لا ينبغي أن يؤثّر على المشهد الاقتصادي الذي يعكس مؤشرات ويثير ملفات أكبر بكثير من رؤية حزب أو تطلعات شخصية. إنّها ملفات ساخنة وشائكة وذات كلفة إذا لم تتظافر الجهود حول هدف واحد يتمثل في النهوض أكثر فأكثر بالمنظومة الاقتصادية الوطنية، ضمن إطار اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يجمع بين المبادرة والابتكار. أول تحدّ، ملف الانضمام الى منظمة التجارة العالمية، الذي من المنتظر أن يتم تناوله بمقاربة فعالة يقودها وزير التجارة الجديد عمارة بن يونس، ضمن الوجهة التي تلائم مصالح البلاد وفي ضوء النتائج التي تمخّضت عن عقد الشراكة مع الاتحاد الاوروبي. لذلك فإنّ معالجة جوانب هذا الملف تتجاوز بكثير مجرد الاكتفاء بنظرة ضيقة أو التسرع في الحسم، وإنما من المفيد توسيع إطار النقاش بإقحام كافة الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين والخبراء المستقلين، على اعتبار أن انعكاسات أي قرار تصيب مباشرة المؤسسة والمواطن. السؤال المركزي، هل توجد جاهزية للانضمام حاليا وما هي الكلفة مقارنة بتجربة الشراكة الاوروبية، أم أن المسألة تتطلب التريث إلى مدى متوسط تمنح فيه فرصة اخيرة للمنظومة الاقتصادية لتدارك النقائص وتصحيح الاختلالات بشكل جريء باعتماد معايير النجاعة؟ هو سؤال يتطلب جوابا بلا تردد من شأنه أن يحدّد المسارات الواضحة بما ينهي الجدل ويضع كل طرف أمام مسؤولياته، طالما أن الذهاب إلى هذه المنظمة أمر حتمي لكنه مصيري. بالطبع الأطراف الأساسية تتمثل أساسا إلى جانب السلطات العمومية، في المؤسسة الاقتصادية بكامل أصنافها عمومية وخاصة والنقابات العمالية، على اعتبار أن الكل في سفينة واحدة تبحر في عالم مضطرب وشديد الصراع على الأسواق ومصادر الطاقة، وكذا الكفاءات أو الأدمغة. وعليه ليس المشكل في الذهاب إلى منظمة التجارة العالمية، وإنما في مدى الثقل الذي تملكه المنظومة الاقتصادية لمواجهة صعاب وتحديات يمكن أن تكون قاتلة لكثير من قطاعات النشاط ومنهكة للموارد، لكن هل يعقل أن يستمر الوضع كما هو مكرسا وضعية أشبه بقطار في مفترق الطرق؟ اتحاد العمال أعلن أنّ الأمر ‘'ليس بعد أولوية''، مبديا تخوّفات من تبعات الدخول إلى هيئة عالمية تتحكم في دواليب التجارة الدولية، وتحذّر من عواقب عدم الالتحاق بها، لكن إلى متى الانتظار؟ يجيب دعاة الانضمام منتقدين استمرار تمويل جهاز اقتصادي يستنزف الموارد، ويعاني من تأخر في الارتقاء إلى مستوى المناعة التنافسية بالرغم من الجهود المالية والتشريعية التي بذلتها الدولة، في إطار المرافقة وإعادة التأهيل وتشجيع المبادرة الاستثمارية. قد يمكن منح مهلة أخرى للمؤسسات الاقتصادية القابلة للديمومة في كل القطاعات لتدارك الموقف، لكن شريطة أن تنهض المؤسسة ويعي المسيّرون العموميون والخواص مدى ثقل الفاتورة الناجمة عن الانضمام حينا واللاّانضمام لأجل آخر. في ظل وضع كهذا، لا يستدعي الأمر هلعا أكثر بقدر ما يتطلب التعامل معه برصانة وتبصر، انطلاقا من إعادة ترتيب الأوراق وتحديد الخيارات بحيث يمكن ضبط ورقة طريق تقود إلى منظمة التجارة العالمية بفرص نجاح مقبولة أو على الأقل بأقل الخسائر الممكنة. إنّها مسؤولية المؤسسة بكل أطرافها، في وقت تعتزم فيه الدولة إطلاق استشارة واسعة لضبط برنامج مخطط الخماسي للسنوات الخمس القادمة يرسم إستراتيجية اقتصادية واقعية ومتوازنة تحفظ ما يمكن الحفاظ عليه وتتجاوز ما يمثل معوقا أو مصدر استنزاف بدون مقابل للثروة الوطنية. المطلوب هنا تحديد القطاعات التي تملك فيها الجزائر قدرات للمنافسة في المدى القصير، وإخضاع كل ما هو مكلف وبدون أفق لمعالجة اقتصادية وفقا لمسار الشراكة الوطنية والأجنبية القائمة على توازن المصالح، وتقاسم الأعباء والمنافع بتفعيل آلية البورصة لمنع أي انحراف أو تلاعب كما حصل في عمليات الخوصصة التي استهدفت في الماضي المؤسسات العمومية المصنفة غير قابلة للحياة، فضاع العقار وتبعثر وسائل الانجاز بلا حسيب ولا رقيب. إذن الطّريق إلى منظّمة التّجارة العالمية محدّد ولا داعي للهلع بقدر ما يجب تحديد الأولويات في ضوء تشخيص يرصده خبراء مجردين من أيّة إيديولوجيا يكسّرون شوكة ‘'لوبيات'' على مستوى مراكز النفوذ الاقتصادي، بما يعزّز موقع المؤسّسة المنتجة والمقاول الاحترافي.