مسلسل المجازر التي ترتكبها إسرائيل ضد الأهالي في قطاع غزة ما كان له أن يستمر بهذه الوحشية لولا الصمت والتخاذل العربي والدولي . وبعيدا عما مثله النظام المصري من تواطؤ قبل زيارة ليفني أو بعدها تبقى حقيقة أن العرب جميعا قد انكشفوا كعاجزين وقاصرين أمام التحديات التي تطال انتمائهم وكرامتهم . فعندما تولغ إسرائيل في الدم الفلسطيني بهذا المستوى من الفظاعة المتكررة التي يشاهدها العالم على الشاشات من دون أن تحرك في الدول العربية ساكنا سوى عبارات الشجب والاستنكار تكون الأمة بأسرها قد حفرت قبرها بنفسها . ولا يختلف في ذلك الملتزمون باتفاقيات سلام مع إسرائيل أو الذين يحتفظون بالاعتدال نحوها . فتلك المجازر تهين الجميع وتستخف بهم من دون استثناء. وهذا يكرس النظرة الدونية للعرب وللقدرة العربية على المستوى الأعم ليس من قبل إسرائيل فحسب، بل من الأطراف الإقليمية الأخرى كإيران وتركيا، فضلا عن الأطراف الدولية على الوجه الأعم. فعندما تصبح السياسة العربية الجماعية موسومة بالعجز والفضيحة بحيث يقرر أي طرف في إسرائيل، حتى ولو كان ساقطا كرئيس الوزراء الحالي المنتهية صلاحيته أو حزبا من المجرمين ، فإن الرسالة التي يلتقطها الجميع هي عدم إعطاء أدنى اعتبار للعرب مجتمعين عند إقرار أي توجه سياسي يخص المنطقة. خلال عامي الحصار الإجرامي فعلاً على مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة تحولت دول الاعتدال العربية إلى ما يُشبه رسل السلام والحكمة ورواد جمعيات خيرية ترسل ''حمولة من المعونات'' إلى المنكوبين في غزة. وهذا التحجيم المُدهش في الدور لهذه الدول وضعها في دائرة انكشاف العجز بشكل متواصل. الأمر الذي يصب مباشرة في رصيد التيارات الراديكالية التي يتساءل البعض عن أسباب شعبيتها وقوتها. كيف يمكن فهم هذا الموقف السياسي العربي إزاء الحصار على الفلسطينيين وعلى الوجدان الشعبي العربي بشكل عام، وتحول هذه الدول العربية إما إلى إدانة المقاومة أو وسطاء لتمرير شاحنات المعونات، أو إلى متفهمين ''للاعتبارات'' الإسرائيلية التي تقف وراء السياسة الوحشية التي نراها الآن. ؟ . ومن جانب آخر لا يمكن تفسير هذه الشراهة للدم من قادة إسرائيل بعيدا عن التنافسات الانتخابية الإسرائيلية القادمة بعد أسابيع ، وما ينتج عنها من مزايدات يتم تطبيقها على الساحة الفلسطينية والعربية. وتلك من العوامل الأهم وراء الحملة النازية ضد قطاع غزة . فتسيبي ليفني زعيمة كاديما وايهود باراك زعيم العمل يريدان الظهور بأنهما ليسا أقل إجراما وحرصا على امن إسرائيل من بنيامين نتنياهو قائد الليكود المتطرف الذي يتوعد الفلسطينيين بالقضاء على حلمهم الوطني وفسح المجال للمستوطنين حال فوزه بالانتخابات القادمة. الشيء المدهش والمدمر في هذه النزعة الإسرائيلية الانتخابية هو اعتبار الفلسطينيين والعرب ميدانا للتدريب على الرماية ليس إلا ، ومنطقة فراغ سياسي لا يتأتى من طرفها أي رد مُعتبر يستحق أن يدرج في حسابات القرار السياسي. سيقول كثيرون إن الهجمة الإسرائيلية الراهنة على قطاع غزة هي بسبب ''حماس'' وأن لها ظروفها الخاصة. لكن هذا هو التعذر الإسرائيلي الذي يغطي الممارسة الأهم والأخطر وهي توظيف الفضاء الفلسطيني والعربي كميدان لإظهار البطولات والمزايدات التي يستهدف السياسيون الإسرائيليون من ورائها حصد أصوات انتخابية من الشرائح الأكثر تطرفاً في مجتمعهم. معنى ذلك أنه في أي مرحلة من المراحل القادمة، ولنفترض أنها كانت مرحلة معاهدات سلام بين إسرائيل والدول العربية، يمكن لأي حزب إسرائيلي أو مجموعة من السياسيين الإسرائيليين أن ينهجوا التكتيك الانتخابي نفسه إن كان في تقديرهم أنه سيفيدهم، من دون أن يأخذوا في اعتبارهم أي رد عربي. . وهنا يأتي الحديث عن دور إيران وتركيا المُتعاظم في المنطقة على حساب البلدان العربية الأهم مثل مصر والسعودية . فمن الطبيعي أن يتعاظم ذلك الدور ويحتل المساحات التي ينحسر منها الدور العربي وأهمها المساحة المتعلقة بالصراع مع إسرائيل. وهذا الانحسار المتواصل الذي تم ويتم على خلفية النقمة الشعبية الجارفة هو الذي أغرى ويغري إيران بالتقدم على جبهة ''حماس'' وغيرها. لقد كان لتهافت الدور العربي في أهم ملف راهن وهو الملف الفلسطيني الدور في تكريس النظرة الاستهتارية بالعرب . ما الذي يضغط على الولاياتالمتحدة أو أوروبا لأخذ المصالح العربية أو الدور العربي في الاعتبار عند الوصول إلى أي صفقة إقليمية ؟ إن الهشاشة العربية الرسمية والشعبية إزاء الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين يركز على ما يحدثه ذلك من تدعيم لتيارات التطرف في المجتمعات العربية. إذ إن العجز الرسمي والخضوع للمنطق الإسرائيلي وعدم القدرة على مناصرة الفلسطينيين ولو بالحد الأدنى يصب كله في طاحونة الحركات الراديكالية . فالصورة الراهنة حالياً هي الأكثر مثالية لاستقطاب وتجنيد الشرائح الشبابية الغاضبة والتي تشعر بالاهانة الجماعية مما يحدث. فعناصر هذه الصورة، التي سيرسمها بحدة الخطاب الاسلاموي الشعبوي، تقول إن إسرائيل ومن ورائها الغرب الداعم تشن حرب إبادة على الشعب الفلسطيني، فيما تقف الأنظمة العربية العاجزة موقف المتفرج، وليس هناك من حل سوى محاربتها ! . ------------------------------------------------------------------------