لم تكن المجازر الرهيبة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الصهيونية بحق أهلنا في غزة ، على بشاعتها ، مفصولة عن مسلسل المجازر المستمر ضد الشعب الفلسطيني منذ طرده من وطنه والتنكيل به . ومع ذلك وعلى الرغم من ذلك بقي الشعب الفلسطيني المؤمن بعدالة قضيته قادرا على النهوض وإعادة سيرته الأولى كطائر الفينيق ، مصرا على استعادة حقوقه وانتزاع حريته واستقلاله متجاوزا بذلك خلافات قياداته . فالصمود الأسطوري لأهلنا في غزة الذي حظي بإعجاب وتقدير القاصي والداني كان يستحق من هذه القيادات نبذ الخلافات والفئوية ، والارتفاع إلى مستوى المسؤولية والتضحيات . وعوضا عن ذلك طالعنا الأستاذ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة ڤحماسڤ بإعلان من العاصمة القطرية يبشرنا فيه عن ڤ :تحرك تقوم به ،حماس، وفصائل فلسطينية ، سوف تفاجئ به الأطراف الأخرى لبناء مرجعية ڤوطنية جديدةڤ تمثل فلسطينيي الداخل والخارج وتضم جميع القوى الوطنية الفلسطينية وقوى الشعب وتياراته الوطنية، ڤ مؤكدا أن ڤمنظمة التحرير الفلسطينيةڤ لم تعد تمثل مرجعية للفلسطينيين .! فلماذا نقل الأستاذ ، ولو نظريا على الأقل، المشروع الوطني الفلسطيني من حافة الهاوية إلى قعرها ؟ ، ولماذا عاد بالكفاح الوطني الفلسطيني خمسين سنة إلى الوراء ؟ ، ولماذا أعاد الأستاذ إنتاج الكارثة الوطنية الفلسطينية وبطبعه جديدة أكثر مأساويه ؟ . ربما لآن الاهتمام بالسياسة فكرا أو عملا ، كما يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل ، يقتضي قراءة التاريخ أولا ، فالذين لا يعرفون ما حدث قبل أن يولدوا محكوم عليهم أن يظلوا أطفالا طوال عمرهم . وفي هذا الصدد يجب إعادة التذكير ، بان نكبة عام ,1948 لم تكن المليون فلسطيني الذين طردوا خارج ديارهم دون مأوى هائمين على وجوههم ، ويقيمون اليوم مع أحفادهم في 61 مخيما تعرف بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين أسوأ تجلياتها . ولكن فقدان المناطق التي لم تصلها يد الحركة الصهيونية آنذاك مدلول التسمية الفلسطينية ، بل ضفة غربية ، وقطاع غزة . وفقدان الشعب الفلسطيني هويته الوطنية الخاصة ، كل ذلك كان الأسوأ بكثير . وفي ضوء كل هذه الحقائق المستجدة على الحياة الفلسطينية ، نشأت أوضاع سياسية وقانونية مختلفة تماما تمثلت في إلغاء الهوية الذاتية لفلسطين والشعب الفلسطيني . والأرض الفلسطينية فقدت رايتها الوطنية وهويتها التاريخية، والشعب الفلسطيني تم اقتلاعه وتجزئته، وفرضت عليه قيود ا العمل والإقامة والتنقل ، ومنع من حرية التعبير والتنظيم . وكان على الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله والشعب عليه تغيير هذا الواقع المذل والمهين ، وذلك بضرورة تبوء الشعب الفلسطيني دورة التاريخي في النضال لاستعادة حقوقه ، وبالضرورة بعث الذاتية الفلسطينية وخلق الكيانية المتحررة من القيود . ويكفي الإشارة إلى ما ورد في نشرة فتح عام 1957 ڤفلسطيننا ڤ من نداء بهذا الخصوص حيث قالت ...ڤعيل صبرنا يا أبناء فلسطين فلا صوت يسمع لنا ولا كيان ..لقد آن أن يكون لكم ممثل فلسطيني يحمل آراءكم ويدعو لتنفيذها باسمكم ..فإلى النضال من اجل بعث كرامتكم وكيانكم المندثر . وشتان بين البيانين . ولئن أستطاع هؤلاء الفلسطينيون المؤمنون بشعبهم وبعدالة قضيتهم لاحقا من إحداث تغير جوهري بشأن إعادة ترتيب العلاقة ما بين حركتهم الوطنية من جهة، والدول العربية وجيوشها من الجهة الثانية باعتماد الكفاح المسلح، فبدلا من استمرار هذه العلاقة على أساس المتغير العربي المستقل، والمتغير الفلسطيني التابع، وأن النضال العربي بديل للنضال الفلسطيني أو حاويا له. استرد الفلسطينيون وعيهم الذاتي وقلبوا طرفي المعادلة، وأصبح الكفاح الفلسطيني المشروع طليعة النضال العربي من أجل التحرير وليس العكس. وأصبحت منظمة التحرير الفلسطينية كيانا وطنيا وممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، وقد تطلب ذلك منهم الكثير من التضحيات ما كان للأستاذ مشعل أن يقوضها بضرب الوحدة الوطنية الفلسطينية وتعميق الانقسام الجغرافي والسياسي بين غزة والضفة، وينقلب على م.ت.ف. وكأنها ليست ضرورة وطنية للجميع وبالجميع، بها كانوا ومن غيرها لا يكونوا، فهي الكيان الوطني المعترف به عربيا وإسلاميا ودوليا وفي الأممالمتحدة وكل المؤسسات الدولية، وقد تم بها ومن خلالها إعادة توحيد الشعب الفلسطيني والنهوض بالشخصية الوطنية الفلسطينية بعد سنوات من الضياع وطمس الهوية الوطنية الفلسطينية. وما كان كل ذلك ليكون بغير شلالات الدم والدموع التي قدمها الشعب الفلسطيني وطلائعه . ومن هنا كانت منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية حاجة وطنية فلسطينية وشرط الوصول إلى الحرية والاستقلال ، ومن هنا قد تكون الكارثة الوطنية الفلسطينية بطبعتها الجديدة، فالكارثة الأولى صنعتها بريطانيا والحركة الصهيونية، والثانية صنعناها بأيدينا لأنفسنا .!