يُّقر المختصون في النّظم الدّستوريّة والعلوم السيّاسيّة، بأنّ الدّول المغاربية عرفت وتعرف مراجعات واسعة للأطر الدّستوريّة الناظمة للحياة السّياسّية، والمحددة للعلاقة القائمة بين السلطة والحرية، فتمّت مراجعة الدّستور المغربي في عام 2011، وتمّ وضع الإعلان الدّستوري الليبي بعد سقوط نظام العقيد معمر القدافي، وقبل هذا وذاك أدت الثورة التونسية التي كانت فتيل هذه المتغيرات على الساحة العربية إلى بروز العديد من المشاريع والمقترحات لتنقيح الدّستور التونسي تبلورت بصدور دستور 2014؛ كما تعرف دول عربية أخرى عديدة جدلية الإصلاح الدّستوري، ومن بينها الجزائر؛ حيث أكّد رئيس الجمهوريّة السيّد عبد العزيز بوتفليقة في خطابه للأمّة بتاريخ 15 أفريل 2011، ضرورة تبني خيار الإصلاح الدّستوريّ العميق والتوافقي. إنّ التعديل الدّستوريّ في الجزائر، وفقًا للقراءة القانونية، يندرج في إطار مواصلة مسار الإصلاحات السياسية؛ حيث جاء في عرض الأسباب بأن الهدف من هذا المشروع ملائمة القانون الأسمى للبلاد مع المتطلبات الدّستوريّة التي أفرزها التطور السريع لمجتمعنا، والتحولات العميقة الجارية عبر العالم، وذلك من خلال تعزيز مبدأ الفصل بين السلطات، وتدعيم استقلالية القضاء ودور البرلمان، وتأكيد مكانة المعارضة وحقوقها، وضمان المزيد من الحقوق والحريات للمواطنين. أما من الناحية السياسية فمن البديهيات المسلم بها في علم السياسة والنّظم السياسية، أن أي نظام سياسي في أي بلد ما، يعمل بالاستمرار لكي يبقى، ويظل في السلطة، وبذلك يُكيف نفسه مع مختلف المستجدات، فلا يوجد نظام سياسي في العالم ، يعمل ضد مصلحته الرامية للبقاء، لذا فإن هذا التعديل جاء ضمن هذا السياق. أولاً: ماذا سيقدم الدستور في ثوبه الجديد للجزائر..؟ يجب التأكيد، بدايةً، بأنّ الدستور مرآة المجتمع، ففي مفهومه المبسط، عبارة عن بطاقة تعريف لدولة ما، من خلاله يمكن التعرف على طبيعة نظام الحكم وشكل الدولة، ومركز الحقوق والحريات العامة، لذا يُّعد عقد أو اتفاق بين الحرية والسلطة. أما بخصوص ماذا سيقدم الدستور في ثوبه الجديد للجزائر؟ يمكن أن يقدم الكثير، إذا ما تمّ احترامه، وتطبيقه فعلاً على أرض الواقع، فقد جاء بضمانات جديدة تكرس لتداول سلس للسلطة، من بين أهمها توسيع مجال إخطار المجلس الدستوري، ومنح الأفراد الحق في الدفع بعدم الدستورية في أي نص تشريعي، وهذه نقلة نوعية، كما منح أدوات جديدة للمعارضة للتعبير عن آرائها، بحرية ونزاهة، كما تمّ دسترة العديد من الحقوق، من بينها حق التقاضي على درجتين، وحق المواطن في بيئة سلمية، وحقوق الشباب ذات الطابع الاجتماعي، واستحدث هيئات استشارية جديدة، ولجنة لمراقبة الانتخابات، بالرغم من وجود بعض التحفظات التي طرحتها المعارضة، وخبراء في القانون الدستوري الجزائري. جرى تداول مصطلح الدولة المدنية والجمهورية الثانية، هل حقيقة هذا التعديل الدستوري يرسخ لهذين المفهومين؟ لكي نحكم على أي دستور بأنه يرسخ لمفهوم الدولة المدنية أو الجمهورية الثانية، لابد، أولاً، أن نحدد المقصود بالدولة المدنية، وكذا المقصود بالجمهورية الثانية. 1- فيما يخص الدولة المدنية والتعديل الدستوري الجديد؛ يجب إشارة إلى أن مصطلح الدولة المدنية، والذي جرى الحديث عنه كثيرا، في البلدان العربية في الآونة الأخيرة، ومنها الجزائر، بمناسبة التعديل الدستوري، هو مصطلح غربي بالأساس، والذي يقصد به الدولة اللائكية، على نقيض الدولة الدينية التي كانت مسيطرة على مقاليد الحياة العامة في أوروبا في عصر الظلام، الذي عرفته أوروبا، والذي تزامن مع عصر النهضة الإسلامية في الشرق، أما توظيف هذا المصطلح في الجزائر، فجاء في سياق الإشارة إلى أن الجزائر، حاليًا في مرحلة جديدة، تهدف إلى تجديد الأطر الناظمة للحكم بما يتماشى مع مشروع مجتمع يتبنى طرح تعزيز دولة القانون والمؤسسات. وبصراحة هو طرح سياسي أكثر منه قانوني، لأنه دستوريا في الجزائر، الإسلام هو دين الدولة، هذا إذا كان المقصود بمشروع «الدولة المدنية»؛ الدولة اللائكية، أما إذا كان المقصود بالدولة المدنية هو الفصل بين السلطة المدنية والعسكرية فهذا طرح آخر. 2 - أما بخصوص إذا كان التعديل الدستوري الجديد، يكرّس لبناء جمهورية ثانية في الجزائر، يجب الإشارة هنا، بأن مصطلح الجمهورية أولى أو الثانية أو الثالثة، أو الرابعة...، هو مصطلح مأخوذ من التجربة الفرنسية، التي كرّست لهذا المفهوم، حيث ربطت بين التجديد الدستوري للدولة، وقيام الجمهوريات المتعاقبة، وضمن هذا الطرح فإننا نقول بأننا لسنا أمام الجمهورية الثانية بل أمام بناء الجمهورية الخامسة، منذ دستور 1963، إذا ما تمّ الربط بين إقرار الدستور والتجديد الجمهوري، فالجمهورية الأولى مع دستور 1963، والثانية مع دستور 1976، والثالثة مع دستور 1989، والرابعة مع دستور 1996، والخامسة، حاليا. إذا ما تمّ الأخذ بهذا الطرح الفقهي. 3 - بخصوص المادة 51 من الدستور الجديد التي تمنع التداول على السلطة لمزدوجي الجنسية، الكل يعلم بأن هناك وزراء ومسؤولين سامين في الدولة لديهم ازدواجية الجنسيات، كيف سيكون مصيرهم؟ استقراءً لما جاء في منطوق الفقرة الجديدة من المادة 51 من الدستور، فإنه يستوجب التمتع بالجنسية الجزائرية وحدها لتقلد المناصب السياسية أو الوظائف السيادية في الدولة، وهذا لا يشكل أي عائقًا أمام استرجاع الكفاءات الجزائرية المتميزة نوعًا وكمًا من الخارج، ذلك أنه يمكن استقدامهم وعملهم في جميع القطاعات، أما المجال السياسي أو العمل السيادي فيمكن أن يمارسوه بشرط التخلي عن جنسياتهم الأخرى المكتسبة. أما بخصوص الإطارات السامية، حاليًا، مزدوجي الجنسية في الدولة، فلن يؤثر هذا النص كثيرًا، على مستقبلهم المهني، فيمكن لهم الاستغناء والتخلي عن الجنسية المكتسبة، والبقاء بالجنسية الجزائرية الأصلية، من جهة، ومن جهة أخرى، فهناك إحالة على القانون في هذه المسألة، ولن يتم تطبيق هذا النص الدستوري، إلا عند صدور القانون المحال عليه، والذي يحدّد الإجراءات بدقة، ويجب الإشارة هنا، بأن الإشكالية ليست في ازدواجية الجنسية، لأن الجنسية جنسية الولاء وليست جنسية الانتساب، بل الإشكالية في مزدوجي الهوية أو من لهم انفصام في الهوية. وبخصوص المادة التي أصبحت من خلالها اللغة الأمازيغية لغة وطنية رسمية، كيف سيكون ذلك قانونيا، علما أن الجزائر لديها اختلاف في اللهجات الأمازيغية؟ إن دسترة اللغة الأمازيغية كلغة وطنية، من قبل، وبعد حوالي 15 سنة كلغة رسمية، هو مكسب للجميع، فالأمازيغية رافد من روافد الهوية الوطنية وثابت من ثوابت الدولة الجزائرية، أما بخصوص، إشكالية تعدّد واختلاف اللهجات الأمازيغية، فقد تمّ التنصيص في الدستور على استحداث هيئة دستورية تضم خبراء جزائريون مختصون يناط لها دور العمل، على تطوير وترقية اللغة الأمازيغية لتصبح فيما بعد لغة رسمية، فالرسمية، دستوريًا، مشروطة ، بقيد موضوعي وقيد زمني، يتمثل القيد الموضوعي في العمل على ترقيتها أولا، وتوحيدها، ومن ثم العمل على نشرها في مختلف ربوع الوطن، أما القيد الزمني، فهو بديهي، ناتج عن تطور وتوحيد اللغة الأمازيغية، لكي لا يحدث إلتباس أو صعوبات في تطبيقها، حيث يجب الإشارة هنا لمسألة مهمة في هذا الخصوص، وهي إن اللغة الرسمية في أي دولة لابد أن تكون سهلة التواصل بين غالبية الشعب، فلا يمكن فرض لهجة على حساب لهجة، بل يجب ترقيتها أولاً، لكي تكون عاملاً مهم في لم اللحمة الجزائرية وليس العكس. وماذا بخصوص الرقابة البرلمانية على الحكومة التي أقرها الدستور الجديد؟ هناك عدة إضافات نوعية في مجال الرقابة البرلمانية على عمل الحكومة، نذكر منها: تحديد آجال الرد على الأسئلة الشفوية والكتابية بدقة، كما يستوجب على الوزير الأول أن يقدم سنويا إلى البرلمان بيان السياسة العامة لحكومته، بالإضافة إلى لجان التحقيق فإن للبرلمان وضع لجان إعلامية، والموافقة المسبقة للبرلمان تصبح إجبارية قبل تصديق رئيس الجمهورية على الاتفاقيات الاقتصادية المتعلقة بالدخول إلى مناطق التبادل الحر، والتجمعات الاقتصادية، كما يتسلم البرلمان سنويا تقريرا من مجلس المحاسبة. بالإضافة إلى تقييد اللجوء إلى الأمريات الرئاسية، وكذا أن الأغلبية البرلمانية يستوجب استشارتها من قبل رئيس الجمهورية من أجل تعيين الوزير الأول. «يتبع»