الحلقة 02 من المنطلق الإنساني والتاريخي والحضاري (حضارة عمرها أكثر من 5000 سنة) لا يمكن تصنيف الصين إلا كقوة أمامية. مسيرة ومضمون حضاري بمنطلق فكري متميز يعتمد تمجيد العمل، الاحتكام للعقل، تثمين الإنسان ورفض القهر والهيمنة والاعتداء (الكونفيوشيسية)، وبمكاسب علمية سبّاقة في الابتكار والتطور الصناعي. الصينيون سباقون في صناعة الورق وفي فن صهر البرونز وقبل أكثر من 3000 سنة استخدموا الأدوات الحديدية وأدخلوا صناعة الفخار بما فيها الفخار الأبيض والملون وأبدعوا في نسيج الحرير ودخلوا في صناعة الفولاذ وكانوا سباقين في تطوير الرعاية الصحية والإنسانية خاصة في مجال الطب (الطب الصيني). وبالصين قامت نهضة ثقافية وحضارية إنسانية كبرى قادها فلاسفة ومفكرن وفي مقدمتهم كونفوشيوس والإستراتيجي سون وو المعروف بسون تسو الذين كانوا وراء المرجعية البنّاءة والثقافة الإنسانية المتميزة والحضارة العملية المنتجة لقيم وممارسات المجتمع الصيني المعاصر. تشكل العلاقات الجزائرية - الصينية نموذجا لذلك. للجزائر ثوابت متجذرة في سياستها الخارجية متمثلة في احترام الوحدة والسيادة الوطنية، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول (والعكس صحيح)، السلم والأمن الدوليين، التعاون الإقتصادي والتجاري المتوازن وخاصة الإستثمار المبني على كسب التجربة والتكنولوجيا ودعم المشاريع الإقتصادية الإستراتيجية للبنية التحتية من أجل التنمية المستدامة. أثبتت الصين للجزائر بأنها في مستوى هذا التوجه والهدف والمسعى الإستراتيجي في معظم المجالات والمشاريع الإقتصادية المبرمجة (البناء والتعمير، السدود والمياه، الفلاحة والري، الطرقات والسكك الحديدية، اكتساب التكنولوجيا في مجال تكرير البترول مثل ما هو منجز بأدرار، وصفقات أخرى مع الصين تمت (أكتوبر 2016 ) لبناء مصانع تكرير البترول في مناطق متعددة بالجزائر. تعاون بناء ودعم صيني هادف أوصل بالعلاقات الجزائرية – الصينية إلى المستوى الإستراتيجي (2014). أثبتت الصينيون للجزائر أنهم كانوا في مستوى المقاييس والكفاءة العالية لإنجاز المشاريع. العلاقات الاقتصادية الجزائرية - الصينية وصلت إلى أكثر من 9 ملايير دولار سنة 2015 وإذا سارت على نفس الوتيرة يمكن أن تصل إلى أكثر من 15 مليار دولار في السنوات القليلة القادمة خاصة في مجال الاستثمار الصينيبالجزائر. في إطار البرنامج المكثف للجزائر للبحث عن اقتصاد بديل للنفط، يعتمد الاستثمار وكسب التكنولوجيا أظهرت الصين في أعلى هرم السلطة استعدادها للتجاوب مع هذا التوجه. يمكن للصين تجسيد هذا الهدف إذا كثفت من استثماراتها بالجزائر في الفلاحة، الصناعة والسياحة. توجه الجزائر خاصة في السنوات الأخيرة يعطي أولوية قصوى للبحث عن اقتصاد بديل للنفط، خاصة منذ (2013) انخفاض أسعار البترول في السوق العالمية. ميناء شرشال بولاية تيبازة (شما غرب الجزائر العاصمة) باستثمار أكثر من 3 مليار دولار بشراكة صينية جزائرية يمكن أن يشكل نموذج أمثل لضمان تضاعف العلاقات الإقتصادية الجزائريةالصينية. الميناء جد هام للبلدين بحكم أنه سيصبح من أكبر المواني العربية والإفريقية للتصدير والاستيراد. وصول العلاقات الجزائريةالصينية إلى المستوى الإستراتيجي لها خلفياتها التاريخية ومرجعياتها السياسية. لقد كانت الصين دعما للجزائر أثناء حرب التحرير الجزائرية (1954-1962) ضد الإستعمار الفرنسي المدعوم من طرف الحلف الأطلسي والمعسكر الغربي. في نفس الفترة كانت الصين مستهدفة كذلك من طرف المعسكر الرأسمالي من خلال حصار السواحل الشرقية الصينية انطلاقا من تايوان، أي أن الجزائروالصين كانتا في جبهة مشتركة. كما كانت الجزائر دعما للصين في استرجاع مكانتها داخل منظمة الأممالمتحدة وطرد تايوان (1971). أشرف على ذلك الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة من موقعه آنذاك كوزير للشؤون الخارجية الجزائرية من خلال ترأسه للجمعية العامة للمنظمة الأممية. وبالمقابل في الوقت الذي كان للغرب مواقف لا ترقى لمستوى محاربة الجزائر للإرهاب في التسعينيات من القرن الماضي بما فيها سحب كثير من الدول الغربية لممثليهم الدبلوماسيين من الجزائر كانت الصين دعما للجزائر في هذه الفترة في مختلف المجالات الإقتصادية والتعاون البناء بين الدولتين. بل الغرب ذهب لاتهام النظام السياسي الجزائري أنه كان وراء الإرهاب، ولم يتغير هذا الموقف الغربي إلا بعدما ضرب الإرهاب عمق الغرب (منذ 2001). كما أن للصين مواقف متكاملة مع الجزائر تجاه تسوية المشاكل الإقليمية ومواجهة التحديات الدولية الراهنة تحت شعارات ما يسمى بالربيع العربي، الديمقراطية وحقوق الإنسان ومواقف مشتركة تجاه القضايا الإنسانية والدولية في إطار التوازن والعدالة الدولية بما فيها إصلاح منظمة الأممالمتحدة ودعم حق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها وفق الشرعية الدولية. للصين والجزائر مواقف مشتركة ضد التدخلات الدولية في شؤون الدول والمس بوحدة واستقرار الدولة الوطنية. للصين والجزائر مواقف متكاملة في محاربة الإرهاب مهما كان مصدره ومكانه بعيدا عن الازدواجية في التعامل مع هذا الملف الخطير على الإنسانية جمعاء معتبرين أن أي دعم لتسليح أو تموين عناصر فرديا أو جماعيا مرفوض مهما كان الهدف حتى ولو تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان على غرار ما تقدمه الدول الغربية من دعم بالسلاح والمال لعناصر ضد النظام السوري أو أنظمة أخرى. العنف واستعمال السلاح يؤدي إلى ضرب استقرار الدول والشعوب ويمس بمصالح الجميع. التعاون المتزايد بين الصين ودول عالم الجنوب، خاصة في العقد الأخير صاحبته حملة إعلامية بالغرب ضد الإنتاج والسلع والاستثمارات الصينية. يتداول أحيانا إعلاميا أو في محطات أو مجالات أخرى بنظرة سلبية، مصطلح أو عبارة''هذا إنتاج صيني''، أو ''سلعة صينية''. والحقيقة غير ذلك، فهذه النظرة عبارة عن دعاية ممنهجة وبعيدة عن الواقع الفكري والحضاري للسياسة والإنتاج الإقتصادية الصيني، فالصين حضارة عميقة متميزة بالمكاسب النوعية في أعلى صورها معنويا وماديا. ما أنجزته الصين من تشييد عمراني حضاري وهياكل ومؤسسات اقتصادية هي تعيش في الصين وخارجها لآلاف السنين، ويكفي التذكير بسور الصين العظيم بحوالي 21.000 كلم، والابتكارات العلمية العريقة والمتميزة من صناعة الورق إلى الطب الصيني المتميز إلى صناعة الحرير وصناعة القوارب ووسائل النقل البحرية والبرية وغيرها من الإنجازات العريقة، وإلى المكاسب والإنجازات الحديثة وفي مقدمتها السكة الحديدية، الصناعات الكيماوية، الإنتاج الكهربائي، صناعات النقل والتنقل، تكنولوجيات الاتصال والإعلام الآلي، العمران الحديث، .... تباع السلع الصينية بمختلف أشكالها ومجالاتها في أهم المراكز والأسواق العالمية الكبرى وبعواصم الدول الغربية وتنافس إنتاج البلدان الغربية هناك. المشكل هو ليس في السلع أو المنتجات الصينية، بل هو في الزبون في حد ذاته دولا أو مؤسسات أو أفراد. فبمفهوم اقتصاد السوق، الصيني يعرض اختيارات منتجاته (Les choix) وللزبون الاختيار بين المنتوج أو السلعة من الطراز الأعلى أو من الطراز الأدنى حسب الطلب والثمن المقدم. عندما يتعامل بعض الزبائن، خاصة من دول عالم الجنوب فإنهم يختارون السلع أو المنتجات الأقل ثمنا، وبالتالي يحصلون على منتوج أقل نوعية. فبعض الزبائن يشترون السلعة الصينية بمواصفات دنيا حسب اختياراتهم وعندما يعودون بها يعرضونها على أساس أنها من الطراز الأول. مثلا: تجد البذلة الصينية التقليدية في الأسواق الصينية بقيمة مالية تعادل 400 دينار جزائري، وتجد نفس البذلة ولكن بنوعية أرقى بمبلغ يعادل 40.000 د.ج. أي بزيادة تصل إلى 100 مرة مقارنة بين العرضين. غير ذلك تكاد الصين أن تكون الدولة الوحيدة في العالم التي تقدم إنتاجا أو سلعا أو استثمارات بأعلى المقاييس العالمية وبأقل تكلفة من الجميع لسبب أساسي أن تكلفة الإنتاج أقل بالصين سواء من اليد العاملة أو من آلات الإنتاج. العامل في الغرب بحكم غلاء المعيشة والاختلاف حول شروط الحياة التي يتجاوزها الصيني بالاعتماد على النفس في تحسين مستوى معيشته من منطلق العمل الدءوب والجدية والانضباط والقدرة الذاتية اللا متناهية. المنظومة السياسية والاقتصادية الصينية تسيّر مليار و 350 ألف صيني وتحتل صدارة الإنتاج والاقتصاد عالميا. القراءة الموضوعية والعلمية لمنطق الحياة الإقتصادية السائد والسوق العالمية، يعكس الطلب المتزايد على الإنتاج الصناعي والتكنولوجي الصيني من طرف أعرق الدول الغربية ومن أهم المراكز التجارية الكبرى ببون (ألمانيا)، باريس (فرنسا)، لندن (بريطانيا)، نيويورك وواشنطن وكاليفورنيا (الولاياتالمتحدةالأمريكية)، ..... الاستثمارات الصينية مطلوبة ليس فقط من طرف دول عالم الجنوب بل من أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا (دولا وشركات اقتصادية وتجارية عالمية كبرى). الصين هي سوق أساسية للعالم وإن لم نبالغ فهي سوق العالم وذلك ناتج عن العمل والانضباط المسؤول والجدية وتقديم الكفاءة والنوعية العالية، ويتوقف على الزبون الاختيار.