إذا كانت الجيوش والأسلحة هي نصف مشهد حروب القرن ال 21 فإن نصفها الثاني هو سجالات الحرب الدعائية التي تعاظمت أهميتها بشكل لافت وهذا كنتيجة مباشرة للتطور الهائل لوسائل الإعلام والاتصال إلى درجة أصبح معها ما يصلنا من أخبار ومستجدات عن ميادين المعارك والمواجهات عبر شاشات التلفزيون، الحواسيب والهواتف النقالة، سواء كان ذلك عن طريق وسائل الإعلام المختلفة أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي قد لا يعرفه حتى الجنود المتواجدون في قلب المعركة وهذا استثنينا من المشاهد والمقاطع المتداولة التي تتم فبركتها في الاستوديوهات والمخابر. تعتبر مدينة حلب السورية اليوم نموذجا حيّا عن هذه الحرب الدعائية الشرسة التي تدور رحاها بين أطراف النزاع في هذه المدينة التي حررها الجيش السوري وبسط سيطرته عليها بعد معارك دامية مع الجماعات الإرهابية التي استولت على ثاني أكبر مدينة سورية بعد العاصمة دمشق قبل أربع سنوات من اليوم. إن المتتبع للمشهد في مدينة حلب يكتشف أنها وصفت في بداية وفي خضم المعركة بأنها مدينة استراتيجية هامة من شأنها ترجيح كفة الحرب السورية وظلّت وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي على هذا النسق، بل روجت لهذا السيناريو إلى حد اعتبارها أن طريق حسم الحرب في سوريا لصالح أي من الأطراف يبدأ بالسيطرة على حلب، فما الذي تغير اليوم يا ترى؟ إن خصوم الأسد أو ما يسمى بالمعارضة المعتدلة المدعومة من واشنطن، أنقرة، الدوحة والرياض وترساناتها الإعلامية وقنوات إعلام منطقة الحلف الأطلسي تحديدا قلّلت بشكل لافت من شأن استعادة الجيش السروري وحلفائه للمدينة واختصرت ذلك في مجرّد استرداد مدينة أشباح وأطلال لا تكتسي أية أهمية إستراتيجية وهذا عكس الخطاب السائد قبل سيطرة الجيش السوري عليها، كما أن تلك الوسائل الإعلامية أطلقت في الوقت نفسه هجوما مضادا على الشاشات التلفزيونية ومواقع التواصل حملة دعاية ضخمة في محاولة لاستدراك الهزيمة الميدانية التي منيت بها الجماعات الإرهابية ومن يقف ورائها وذلك من خلال الترويج لأخبار حصول إبادة جماعية شرع فيها الجيش السوري وحلفائه بمجرد السيطرة على المدينة انتقاما من المدنيين في حلب والحملة نفسها ألهبت شبكات التواصل الاجتماعي تحت شعار «حلب تحترق» والهدف كان تجييش الرأي العام العالمي ودفعه إلى المطالبة والضغط في اتجاه تدخل عسكري في سوريا تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية لإنقاذ المدنيين في حلب من المحرقة على حدّ زعمهم في سيناريو شبيه بالحملة التي مهّدت لتدخل الناتو عسكريا في ليبيا سنة 2011، وذلك من خلال محاولة إحياء خيار التدخل العسكري في سوريا سنة 2013 لإسقاط النظام السوري بدعوى استعمال الحكومة آنذاك للأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية، إلا أن الإدارة الأمريكية تخلت عن هذا الخيار في آخر لحظة. إن هذه الحملة المغرضة التي شنتها قنوات إعلامية عربية وغربية تحولت بكل أسف إلى أبواق للجماعات الإرهابية وناطقة رسمية باسمها إلى درجة أنها لمت تشعر بأي حرج وهي تجري حوارات تلفزيونية مع قيادات إرهابية معروفة ومصنفة في حملة إعلانات وإشادة بالإرهاب وانجازاته! ولم تكتف بذلك فقط بل أخذت بالبكاء والعويل بمجرد تحرير الجيش السوري لأحد الأقاليم التابعة للدولة السورية وهي مدينة حلب ومن المفارقات العجيبة هي أن الوسائل الإعلامية نفسها هي التي اعتبرت الحملة العسكرية على تنظيم «داعش» الإرهابي في مدينة الموصل العراقية بأنها حملة تحرير! بينما تحاول أن تعطينا الانطباع على النقيض من ذلك أن الجماعات الإرهابية في سوريا هم مقاتلو حرية جاءوا لتخليص الشعب السوري من ذلك أن الجماعات الإرهابية في سوريا هو مقاتلو حرية جاءوا لتخليص الشعب السوري من بشار الأسد ونظامه كما فعلوا مع نظام نجيب الله في أفغانستان أيام الحرب الباردة عندما وظفتهم المخابرات المركزية الأمريكية ودعمتهم بهدف استنزاف الاتحاد السوفياتي وتفكيكه وهو ما حصل فعلا بعد تورطه في المتسنقع الأفغاني، ولكن وبعد نهاية المأمورية أصبح أولئك الذين كانت تسميهم واشنطن بالمجاهدين ومقاتلي الحرية إرهابيين يجب القضاء عليهم وقادت تحالفا دوليا من أجل ذلك. في الأخير ظلت الدعاية لعقود طويلة إحدى أكبر وأخطر الجبهات في الحروب ولكنها اليوم أصبحت هي الحرب بكل تجلياتها وليس مجرد جبهة والمتتبع لتطورات الأزمة السورية يلاحظ كيف لعبت وسائل الإعلام التي تحوّلت إلى وسائل دعاية حربية بامتياز دورا في إشعال الشرارة الأولى للمأساة السورية من خلال التحريض والتهويل منذ أحداث درعا وصولا إلى تسيير فصول هذه الحرب القذرة التي حطمت سوريا وأبادت شعبها تحت شعار «الربيع العربي» الذي لم يكن في حقيقة الأمر إلا هدية مسمومة بعنوان جذّاب.