يتجدّد الموعد مع موسم السياحة الصحراوية بالخصوص مع بداية العام الجديد، ويتجدّد معه السؤال حول مدى جاهزية القطاع لإنجاز الأهداف المسطرة من حيث استقطاب السياح وتوفير الشروط اللازمة. ينبغي تجاوز مرحلة التشخيص والانتقال إلى مرحلة التقييم لإطلاق جسور العبور إلى صناعة السياحة بالمعنى الاقتصادي من حيث تنمية قدرات تحصيل مداخيل قوية بالعملة الصعبة، وتأمين وتيرة نشاط على مدار العام. جهود كبيرة تمّ بذلها في مجال الاستثمار في السياحة منذ أولى سنوات البناء والتشييد مع بداية العشرية الأولى للاستقلال لتستمر البرامج إلى اليوم لكن لا تزال المؤشرات دون ما كان ينتظر. غير أنّ العشرية السوداء في التسعينات ألحقت أضرارا مرهقة بالسياحة قبل أن تستعيد النفس مرة أخرى بفضل عودة الأمن والسلم إلى ربوع البلاد من خلال سياسة المصالحة، وإبطال مفعول الفتنة في ظل انتعاش التنمية المستدامة. وتمثّل السياحة محورا أساسيا في مسار التنمية بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية لما تتوفّر عليه من عناصر تقود حتما إلى نجاح برامج استثمارية خاصة في إطار فتح المجال أمام القطاع الخاص الوطني والأجنبي للمبادرة بإنجاز مشاريع تستجيب للاحتياجات الموجودة في السوق وتراعي التنوع الطبيعي والثراء الثقافي الذي يمثل القيمة اللامادية للفعل السياحي وأحد محرّكاته الجذابة، وبالتالي العامل الفعال في حسم التنافسية. وتتأكّد اليوم أكثر من أي وقت مضى أهمية السياحة (علما أنّ وقتا كثيرا ضاع في هذا المجال بالنظر لجملة عوامل بيروقراطية وسطوة المتلاعبين بالعقار والسماسرة)، خاصة في ظل الظرف المالي الصعب الناجم عن أزمة تراجع مداخيل المحروقات، ولذلك يفرض التحول - وبشكل لا مجال فيه للتردد - إعطاء دفع فعّال للوتيرة على كافة المستويات بدءا من ترقية التنظيم لإدراج المؤسسات السياحية العمومية وحتى التابعة للقطاع الخاص في ديناميكية النموذج الاقتصادي الجديد للنمو من جانب الرفع من الأداء وتحسن معدلات الاستغلال والرفع من المداخيل. ويرتبط هذا التوجه بإنجاز عملية أخرى ذات أهمية في تحقيق الإقلاع، وتتمثل في تطهير القطاع من الدخلاء واسترجاع العقار السياحي المحول عن غايته الأصلية أو الذي لم تنجز عليه المشاريع المصرح بها، لجذب متعاملين آخرين جادين ينتظرون منحهم الفرصة لدخول سوق الاستثمار السياحي. وقد عانى العقار خاصة في بعض مناطق التوسع السياحي لسنوات من تجاوزات تسيء للقطاع وتحد من مدى تطلعات النهوض به إلى مستوى المساهمة في الرفع من معدل النمو الاقتصادي. وبالرغم من المكاسب التي تحقّقت من خلال سلسلة البرامج الاستثمارية لإنجاز مؤسسات من مختلف الأنواع بمبادرات متعاملين خواص وإطلاق عمليات تجديد وتأهيل مركبات وفنادق تابعة لقطاع العام، إلا أنّ الكثير لا يزال ينتظر القيام به لتدارك التأخر على مختلف المستويات، خاصة فيما يتعلق بالمنشآت وتجهيزها والتكوين البشري حول المهن المختلفة للسياحة وتحكّم أفضل في أسعار الخدمات التي لا تتطابق مع قدرة معدل الدخل البسيط، وتجسيد حقيقي للسياحة الداخلية خاصة في فترات الفراغ من اجل توظيف عقلاني للإمكانيات وضمان ديمومة النشاط. وتصب كل العوامل الراهنة في مصلحة بعث هذا القطاع الحيوي، خاصة ما يتعلق بالشروط الجوهرية للمناخ العام مثل تكريس الأمن والاستقرار الاجتماعي والحركية الاقتصادية، إلى جانب العناصر التي تدخل في المسار الإنتاجي من مدارس للتكوين ووفرة اليد العاملة المؤهّلة، كما يسجّل تحوّل شامل في الذهنية الاجتماعية بإدراك المجتمع على مستوى المواطن والتاجر والحرفي لمدى الأهمية التي يكتسيها النشاط السياحي من الجانب المالي كأحد المصادر خارج المحروقات التي يعتمد عليها في تحقيق التوازنات المالية الكبرى ومواجهة أزمة الموارد النفطية. ويندرج هذا الأمل في إطار الإستراتيجية الوطنية للتهيئة السياحية في آفاق 2030 من خلال اعتماد معيار الجودة في الخدمات خاصة الفندقية باعتبارها إلى جانب تسويق الابتسامة من المطار مفتاح الانطلاقة بالحجم المطلوب، كون الخدمة الفندقية هي العنصر الحاسم لكسب ثقة الزبون الأجنبي والمحلي. ويمكن لهذا الأخير أن يساهم في الرفع من وتيرة النشاط السياحي خاصة في مراحل ما بين الفصول (basse saison)، حيث يتراجع الطلب الخارجي إذا ما توفّرت شروط الجذب من خلال «اللعب» على معادلة الأسعار بتخفيضه أحيانا إلى مستوى الكلفة على أساس دراسة دقيقة. وللعلم يجري التعامل في أسواق خارجية بنظام التخفيضات في المواسم دون المساس بجودة الخدمات بل يتم الحرص على تقديمها بنفس معايير المنافسة، ووفقا لنظام شفّاف يضع الزبون في أريحية تعود بالفائدة على المؤسسة السياحية نفسها من جانب تعزيز الثقة في السوق ومواجهة المنافسة التي تشتد أكثر فأكثر إقليميا وجهويا بالنظر لاتساع رقعة الأزمة الاقتصادية العالمية التي تشمل وجهات سياحية بامتياز تعرضت أسواقها لهزات عنيفة، غير أنّها تعمل على ترميمها والعودة بقوة كما هو الحال في بعض الوجهات المجاورة. ويقتضي إنجاز الإقلاع - الذي تتوفر عناصره الأساسية خاصة المشاريع الفندقية الجارية، وتوسيع المجال أمام المستثمرين الاحترافيين بإسقاط الكثير من العوائق البيروقراطية بإدخال وسائل الاتصال الجديدة - انخراط كافة المتعاملين والشركاء في ديناميكية عمل مندمجة تقود إلى الأهداف الوطنية المحددة، ضمن مسار النموذج الاقتصادي للنمو الذي يراهن على بناء اقتصاد إنتاجي ومتنوع بدا يتجسد في الميدان بمشاريع ملموسة تمثل القاطرة التي تجر مشاريع أخرى قادمة باستثمارات محلية أو بالشراكة مع متعاملين أجانب يضعون ثقتهم في السوق الجزائرية.