يتناول الحوار التّالي مع السيد العيد مغمول، متخصص في الاتصال السياحي، حائز على شهادة دراسات عليا متخصصة في الاتصال العمومي وخرّيج المدرسة الوطنية للإدارة الدفعة ال 21 سنة 1988 ومدير سابق للديوان الوطني للسياحة، واقع هذا القطاع الحيوي وإمكانيات الدفع به إلى الإقلاع، خاصة في وقت تعرف فيه المؤشرات الاقتصادية تغيّرات تنذر بتراجع مداخيل المحروقات. ويشخّص ضيفنا الذي لبّى الدعوة، مختلف جوانب السياحة مع التركيز على أولوية إعادة رسم خارطة طريق ترتكز على بناء الهوية السياحية وضبط منتوجات سياحية تتطابق مع معايير المنافسة وتستجيب للطلب جودة وذوقا. كما يتوقّف بالتّحليل عند جوانب التّكوين والتّسويق السياحي الذي يتطلب تحكّما في أداوت الاتصال التي تضع السوق السياحية في الواجهة الإقليمية والعالمية التي تشهد تنافسا شديدا. وفيما يلي الحوار كاملا. ❊ الشعب: أين يمكن وضع السياحة اليوم في المشهد الاقتصادي الوطني الذي يتجه إلى إعادة ترتيب أوراقه عقب انهيار أسعار المحروقات في الأسواق العالمية وانعكاس ذلك على وتيرة النمو؟ ❊❊ العيد مغمول: في الواقع من الصّعب الحديث عن مساهمة السياحة في الاقتصاد الوطني كقطاع لصناعة السياحة (مساهمة السياحة في النمو والدخل والواردات يجب أن تتحول إلى صناعة)، فلهذا المصطلح (صناعة السياحة) مكونات، وهي مجموعة الخدمات المتكاملة ليس فقط الهياكل، إنما المنتوج السياحي القابل للتموقع في الأسواق العالمية، من خلال عرضه في سوق السياحة الدولية. وفي الوضع الحالي، لا الهياكل ولا الكفاءات والخدمات والمنتوجات متوفرة بالمعايير حسب طبيعة السياح المستهدفين (السياحة الراقية والمتوسطة والعامة). لذلك السياحة كصناعة غير موجودة ونسبة السياح بالثقل الاقتصادي والمالي ضئيلة من حيث المعدل أو العدد، كما أنّ الخدمات المعروضة تفتقر لمعايير الخدمة السياحة والمتمثلة في خدمات الإقامة، الأكل، النقل والحجز أما المنتوجات السياحية بالمعيار الأكاديمي فلا تزال غير قائمة. كما أنّ نسبة مشاركة السياحة في التشغيل لا تزال ضعيفة، ومشاركتها في النمو ضئيلة وكذلك في الدخل بالعملة الصعبة. غير أنّه بالمقابل، للجزائر طاقات سياحية كبيرة وهائلة لم تتطور إلى منتوجات سياحية تستقطب الأسواق من كافة الجهات عبر العالم. ومن أبرز الخصوصيات الموقع الجغرافي الذي يجعلها قريبة من بلدان تصدر السياح وسهلة الوصول برا وبحرا وجوا، إلى جانب التنوع البيئي والمناخي (السياحة الصحراوية المغامرة البحر، علما أن السياحة الصحراوية انتقائية ولا تتحمّل السياحة الكثيفة التي يتحملها البحر والجبال). ينبغي التأكيد على أنّ التنوع البيئي يؤدّي إلى تنوع في المنتجات القابلة للتطوير، يعزّزها أيضا الإرث التاريخي (أغلب الشّعوب القديمة مرّت من الجزائر) الذي يستهوي كافة الشعوب بمختلف معتقداتهم، لذلك للجزائر عناصر جذب سياحي تنافسي. ❊ برأيكم ما هي العوامل التي أدّت إلى هذا التّشخيص؟ ❊❊ بلا شك هناك عدة عوامل وراء هذا الوضع الذي ينبغي النظر إليه بموضوعية وجرأة لتحديد جوانب الضعف، ومن ثمة الإتيان بعناصر التحول لإعادة السياحة إلى السكة الاقتصادية كمنج للثروة بالحجم الوفير. من الأسباب عوامل ذات طبيعة ثقافية واجتماعية وإيديولوجية وتاريخية. الواقع أنّ مختلف المراحل التي عرفتها الجزائر وقد تناولت الموضوع في مذكرة التخرج بعنوان نحو استراتيجية السياحة في الجزائر أدّت إلى أن تكون السياحة ضعيفة الوجود في الجانب الاقتصادي والثقافي، حيث أنّ السياحة تلعب دورا بارزا في التعريف بالبلد والتنمية الاقتصادية والبشرية كونها تلعب دورا في ترقية الفرد والنهوض بمكانته في المجتمع. للإشارة، غالبا ما تكون السياحة من خصوصيات الشّعوب المتحضّرة، باعتبارها بلدانا مستهلكة ومصدرة للسياحة، أما البلدان الضعيفة فإنها تعاني من اختلالات تضعها في مرتبة متأخرة بحيث تصدّر البعض المنتوج السياحي. ❊ إذن ما هي في نظركم أسباب عدم إقلاع قطاع السياحة بالرغم من الطاقات المشار إليها؟ ❊❊ أعتبر أن هناك جملة من الأسباب، والرئيسي منها يكمن في عدم استثمار المنتج للقيمة المضافة، ليس بالمعنى الضيق للاستثمار (أي ضخ أموال، إنما الاستثمار في اختيار نمط السياحة الذي نريد تطويره). بحيث يلتقي كافة أطراف القطاع لتحديد هذا النمط أو الهوية السياحية للجزائر، والتي تتفرّع منها البرامج والخطط المتعلقة بالاستثمارات والتكوين والمنتوجات وفقا لمعايير تجاوز الإطار المحلي بالاندراج ضمن المنافسة الإقليمية والعالمية. إضافة إلى هذا، يلاحظ انعدام خطة وطنية تتضمّن الاختيارات وكذا التّأطيرات القانونية الصّارمة والمستقرّة، إلى جانب التّحفيزات التي تخصّص للمستثمرين في صناعة السياحة. ويوجد سبب آخر يتمثل في ضعف الهياكل القاعدية وتدهور المحيط (هناك بحوث دكتوراه حول المحيط في تنمية السياحة) الذي يجب أن يصبح جذابا وليس منفرا باتخاذ التدابير المناسبة من كافة الأطراف المعنية بالنهوض بالسياحة. وفي ذات السياق، هناك سبب آخر هو انعدام ورقة طريق للتكوين في المهن السياحية التي تتطلب إرساء برامج لإقامة تشكيلة من المهن التي تلبي احتياجات السياحة بالمعايير الدقيقة (نفتقر لغرف في المهن السياحية على سبيل المثال)، بحيث أن الغرف أو الفيدراليات هي التي يخوّل لها التكفل بالتكوين في المهن السياحية. والعنصر أو السبب الخامس يتمثل في انعدام المرافق السياحية سواء فنادق، مطاعم، مقاهي، نوادي، هياكل، تسلية، متاحف والتسوق السياحي. ويمكن إضافة سبب سادس، هو انكسار السياحة الداخلية التي تم الشروع فيها في مرحلة معينة، لكنها تراجعت واختفت. بينما على سبيل المثال في الصين تساهم السياحة الداخلية ب 80 بالمائة في ترقية السياحة إلى مستوى دولي، وهي سياحة تكتسي أهمية مزدوجة كونها تهيئ الفرد لأن يكون سائحا ومستقبلا للسياح، ومن جهة أخرى تساهم السياحة الداخلية المنتظمة في تطوير الخدمات السياحية التي تكون مستقبلا مصدر جذب للسياح الأجانب، بحيث أن كل فرد يتحول إلى عنصر ترويج، فالأمر في الجوهر يتعلق هنا بالخدمة السياحية. وأخيرا وليس آخرا، يجب الوصول إلى كفاءات قادرة على تصور وتسويق خدمات سياحية تنافسية من خلال عرض سياحي يكون متاحا في السوق وملائما للطلب والرغبات لدى السواح. أودّ الإشارة هنا إلى أنّ للجزائر مرافق سياحية أنجزت في فترة السبعينات، وهي مصنّفة بلغت 85 مرفقا، بينما الوضع الحالي اليوم أقل من ذلك لا تتجاوز 15 مرفقا سياحيا بالمعنى السليم. ❊ بالرّجوع إلى قراءة متأنية ومعمّقة للمؤشّرات في المنظور المتوسط والطويل، تكون الجزائر مجبرة اليوم على بناء اقتصاد متنوع تكون فيه السياحة صناعة فاعلة في الاقتصاد وفي الرّفع من صورة البلاد، كيف ذلك؟ ❊❊ إنّ الإجراء الأول لتحقيق هذا المسعى أي جعل السياحة في صميم الأداء الاقتصادي، يكمن في التخلص من منطق إخراج بطاقة السياحة بمناسبة كل أزمة تلوح في الأفق، بل يجب أن تكون السياحة اختيارا حقيقيا وضمن منظومة برامج فعلية. ويكون هذا بتحويل مجموعة أساب وعوامل الضعف إلى عناصر فاعلة وايجابية، من خلال الحسم في اختيار النمط السياحي (أي الهوية السياحية التي تنطلق منها البرامج) بشأن جميع جوانب السياحة البشرية منها والمادية وبالذات المنتوجات. مثلا في السياحة الصحراوية، يجب أن تتوفر السوق على منتوجات بمعايير مهنية وذات تنافسية، ومطروحة في سوق السياحة بانتظام. والمطلوب هنا تسويق برنامج سياحي قابل للاستهلاك وليس تسويق لمواقع أو وجهات، ذلك أن السائح يبحث وهذا من صميم الفعل السياحي التنافسي عن منتوجات تلبي حاجياته وتستجيب لرغباته وتتلاءم مع أذواقه في ظل منافسة للمنتوجات. وبالمناسبة أودّ أن أشير إلى أنّه حينما تنظم مواعيد أو تظاهرات رياضية، فإنها تحمل معها خدمات سياحية متنوعة، بحيث أنّ المتفرّج أو الرياضي خاصة الأجنبي يستهلك الخدمات السياحية أكثر مما يستهلك الفرجة الرياضية، وذلك على مستوى النقل، الإقامة، الأكل، التسلية، التسوق وغيرها مثل الجولات السياحية والعروض الفنية، فكل هذه الأمور تعدّ من صميم السياحة. وفي هذا الإطار، فإنّ الاستثمار السياحي يتطلب تحديدا دقيقا للقواعد والتحفيزات، حتى تضع المستثمر في أفق واضح المعالم ولا يتعثّر أمام تذبذب الاختيارات وتغيير القوانين وتداخل الإجراءات. والاستثمار يشمل الهياكل والتكوين والخدمات والإشهار، فلا يجب التركيز فقط على الاستثمار في الفندقة والإطعام. للإشارة هناك متخصّصين في تصحيح صورة السوق السياحية والترويج. ينبغي أن تدمج السياحة ضمن اقتصاد السوق بدءا من التكوين. ❊ في ظل هذا الوضع الذي يتطلب انخراط كافة الفاعلين في تنشيط الديناميكية، ماذا عن الوكالات السياحية، هل تلعب دورها؟ ❊❊ بالنسبة للوكالات فإنّها حاليا لا تتعدى مجرد كونها متعامل تجاري، فالاهتمام لا يتعدى عرض السفر للعمرة والحجز والرحلات إلى وجهات أجنبية والتأشيرات. إنّها تتعامل وفقا لمنطق السوق من أجل البقاء وليس لتطوير السياحة. مثلا إذا أريد طرح منتوج السياحة البدوية فتصطدم بشروط غير مواتية، كما أنّ هناك مسألة منح التأشيرات للسياح الأجانب، الأمر الذي ينبغي أن يجد معالجة برؤية اقتصادية. إنّ التحدي يكمن في الوصول إلى رغبة السائح بأقل كلفة ممكنة لكسب ثقته، وللعلم فإنّ السواح لا يضرّهم رؤية فلاح فقير ويشتغل إنما يزعجهم رؤية شاب يتسكع، ذلك أنّ السياحة استهلاك معنوي واكتشاف المجتمعات. ❊ بلا شك أنّ الارتقاء إلى سياحة بمنتجات تنافسية تزاحم في الأسواق العالمية يتطلب بالدرجة الأولى الرهان على التكوين الاحترافي؟ ❊❊ الواقع إلى اليوم، لدينا منظومة تكوين كلاسيكية وغير مصوّبة نحو احتياجات سياحية دقيقة، كما أنّه لا يغطّي كل المهن السياحية. ومن حيث المستوى ينبغي رفع التكوين إلى مستوى تطوير السياحة. ومن الآن ينبغي الحرص على إرساء تكوين وفقا لاحتياج الصناعة السياحية التي نتطلع إليها، بحيث يمكن إنشاء وتوفير فرص عمل عديدة ومتنوعة دون استثمارات مرهقة في الهياكل، فبالكفاءة والاحترافية يمكن تحقيق الكثير. على سبيل المثال في البلدان الأوروبية، أصبح بفضل الكفاءات ومن خلال حاسوب يمكن عرض خدمات لمتعاملين سياحيين عبر العالم، إنّها مهنة مستشار وبائع لمعلومات سياحية. وهنا بإمكان الشباب عندنا اقتحام هذا المجال باستغلال تكنولوجيات الاتصال الحديثة وخاصة شبكة الانترنيت، شريطة بذل المجهودات المناسبة للخدمة المطلوبة، والتزام الجدية والدقة وحب العمل. وبالمناسبة أشير إلى إمكانية التكوين والاستثمار في الإعلام السياحي، ففي العالم توجد قنوات ومجلات وصحافيين وناشرين في هذا التخصص لصناعة السياحة، علما أنّ للساحة لغتها المتخصصة ومفاهيمها ومصطلحاتها وتقنياتها. ويوجد جانب التدريب في المهن السياحية الذي يمكن لقطاع التكوين إنشاء مراكز متخصصة في التدريب السياحي، وإعادة التأهيل الاحترافي الذي تتكفل به الفيدراليات المتخصصة وغرف المهن وغرف السياحة. الأمر يتعلق هنا بضرورة إرساء استراتيجية لمنظومة كاملة ومتكاملة تضمن إرساء صناعة سياحية في الجزائر، بحيث كل حلقة من حلقات هذه السلسلة تتكفل بمهمتها على أكمل وجه، وتكون لها قدرة تنافسية دائمة، منتظمة ومتجدّدة. ❊ في تصوّركم وبرؤية المتخصّص، كيف تستشرف أفق السياحة في بلادنا المدى القصير حتى يساهم في النمو؟ ❊❊ العنوان العريض الذي أعتقد أنه يشمل فلسفة النهوض بالقطاع القيام بإعادة صياغة الخيارات الاحترافية التي تبقى بمثابة سر النجاح في مختلف القطاعات وخاصة السياحة منها. من المهم ضمن هذا التوجه وبمناسبة تظاهرات المدن الجزائريةعواصم للثقافة العربي والإسلامية كما حصل بالنسبة للجزائر، تلمسان وقريبا قسنطينة، إنجاز مدينة ثقافية كاملة بكل المرافق، بحيث ما أن تنتهي التظاهرة والمناسبة تستمر المدينة كبنية للسياحة المستدامة. الأمر يتعلق بضرورة اختيار القرارات الحاسمة والانخراط في مسار عمل هادف وواضح، يضمن بناء اقتصاد متنوع وإنتاجي، بديل من حيث تحقيق الثروة والقيمة المضافة للمحروقات، وحينها لن تصبح تقلبات أسعار البترول أمرا مخيفا للمجتمع. ❊ تستقبل السوق الاستثمارية عامة وفودا من رجال أعمال وشركات عالمية مهتمة، كيف يمكن توظيف هذا في تنمية سياحة الأعمال، أم هناك أزمة تسويق للسياحة؟ ❊❊ لدينا مناطق رائعة ومواقع مثيرة، مثل أدرار وتمنطيط (السياحة الثقافية)، تلمسان، سانت أوغيستان سوق أهراس له 500 مليون تابع. السياحة الدينية الإسلامية وغيرها للسائح الذي يبحث عن عيش تجربة إنسانية بالدرجة الأولى. مثل هذه المحطات يمكن تسويقها عالميا والكسب من خلالها. الواقع كل شيء مرتبط بالمنتوج السياحي، ونوجد حاليا في مستوى الترويج السياحي للإبقاء على الوطن في المشهد السياحي كمقصد تنافسي، في انتظار توفّر صناعة سياحية كفيلة بأن تقدّم خدمات قابلة للتسويق، وهو أمر ممكن، شريطة توفر الشروط واعتماد الكفاءات لتصحيح المعادلة. في هذا الإطار فان الصورة السياحية لأي بلد أو وجهة سياحية تتشكل أساسا من مجموع العناصر المكونة للسياحة، سواء الإمكانيات أو الخدمات، وتتفاعل باستمرار ويوميا متأرجحة بين الايجابية والسلبية حسب الارتدادات الناتجة عن النشاط السياحي من حيث الانطباعات الايجابية أو السلبية، وردود الأفعال الداخلية والخارجية تتفاعل وفق الواقع السياحي وقدرة الإعلام والترويج على تصحيح الصورة عند الضرورة في الحين وبمهنية. إنّ الثّقافة السياحية تعني الوعي بمستوى الآخر، ومدى القدرة على التعامل معه في مستوى حضاري، لذلك فهي ترتكز على مجموعة القيم الإنسانية من احترام للإنسان والصدق والإتقان وحسن المعاملة. أودّ التّأكيد على أنّ الصّناعة السياحية إذا ما أريد لها أن تتأسّس فستكون لها نتائج اقتصادية واجتماعية وتنموية إيجابية في المدى القريب والمتوسط والطويل، سواء من حيث تحسين المحيط والبيئة والحفاظ على الطاقات السياحية، وكذا تأمين مناصب عمل مستقلة ومربحة وتطوير الهياكل والمنشآت السياحية وترقية وتطوير الكفاءات والخدمات والرفع من مستوى صورة البلد في العالم، إلى جانب تنشيط حركية سياحية داخلية دائمة ومفيدة. وضمن هذا المسعى إيجاد فرص لمختلف الفئات والمناطق الجغرافية إلى أصغر قرية بفضل السياحة البيئية، التي تعدّ واحدة من عناصر السياحة مكمّلة لأخرى مثل السياحة الدينية والتاريخية، ويصب كل هذا في تنمية وتوسيع تشكيلة العروض السياحية.