الوقفة الثالثة: عشت مؤخّرا في مطار باريس وضعية ذعرٍ أخضعت المسافرين لتفتيش دقيق بل ومُهين للإنسان، فرض نزع الأحزمة وخلع الأحذية والمعاطف، وقد يقود يوما إلى تعرية الجسد كله، وإجراءِ فحوص فوقية وتحتية وأمامية وخلفية بحجة البحث عن المتفجرات، وكأن أجهزة «السكانير» عاجزة عن ذلك، رغم أنها ما زالت على قائمة مشترواتنا، التي توفر عمولات لبعضنا. والتهمت الأعين كلّ من يبدو وكأنه عربي، فيُعتبر رمزا للإرهابيين الإسلاميين الجهاديين، الذين يتحملون مسؤولية ما يتعرض له المسافرون الطيبون. وفي مطار عربي وجدت نفسي أمام شرطية حائرة في التعامل مع الكومبيوتر المتطور لتسمح لي بمغادرة القطر، وليس بدخوله، ثم لتطلب مني الوقوف أمام كاميرا التصوير، برغم أن هذا الإجراء يتم مع جوازات السفر العادية عند الدخول إلى البلد المعني، وكان واضحا أنها تتعامل مع أجهزة جديدة لم تألفها، بتعليمات كان واضحا أنها لم تهضمها. ونتيجة للحملات الإعلامية المتواصلة التي تغذيها عمليات ترويعية بشعة أصبحت صفة «الجهادي» النبيلة تطلق على أي مسلم يُتهم بأي اعتداء، في حين أن غير المسلم، ومهما كان نوع جُرمه وعددُ ضحاياه، يُطلق عليه تعبير «الوطني المتطرف» (Ultra-Nationaliste)، بدءاً بالصربيّ الذي قتل وليّ عهد النمسا، وأشعل فتيل الحرب الأوربية الأولى، ومرورا بالنرويجي الذي قتل 77 شخصا في لحظات وهو يرفع التحية النازية، ووصولا إلى الكندي الذي قتل جزائريين بالأمس في مسجد الكيبيك. وتسلط الأضواء على أي عمل يقوم به عربي يائس، وبغض النظر عن أن عمليات إجرامية كثيرة يكتنفها الغموض، بينما يتم التعتيم على إرهاب أكثر بشاعة تقوم به دول حليفة. وعندما يُجرّمنا من تفوقوا على أكثرنا إجراما عبر العصور، فإن ما يجب أن يسمعه الجميع من قادتنا هو أن منطقتنا ليست مشتلا للإرهاب الإجرامي، بل إنها كانت دائما ضحية للمطامع الأوربية، قبل الحروب الصليبية وبعدها. ولقد كان المسلمون دائما محاربين شرفاء، ولم يحدث أن قتلوا أسيرا لديهم، كما فعل بونابرت في يافا، وكما فعل الإسكندر قبله في غزة، وكما فعل المتحاربون الأوربيون أنفسُهم في حروبهم. ولقد كانت أفران الغاز اختراعا أوربيا، وكان قتل عشرات الآلاف في لحظات إنجازا أوربيا، عرفته هيروشيما وناغازاكي فيما بعد. ولم يكن الحل النهائي للقضاء على اليهود اختراعا إسلاميا، بل كان وباء أوروبيا لم تكن ألمانيا النازية هي وحدها من نشر جرثومته الفتاكة، ولم يُعرف عن الحركات العقدية العربية والإسلامية أنها قامت بتصفيات عرقية كالتي قام بها الجراد الأوربي الجائع في الأمريكيتين ضد من يُسمّون بالهنود الحمر، وهو ما استلهمته فرنسا في مذابح الجزائر ثم إيطاليا في ليبيا وبريطانيا في جنوب إفريقيا وبلجيكا في الكونغو، واقتدت بها إسرائيل في استعمارها الاستيطاني للأرض المحتلة. ولقد جعلت العمليات الإجرامية الاستعمارية من اسم إفريقيا وصمة عار على جبين الذين يخدعوننا بشعارات الحضارة والتسامح، والذين جعلوا أغنى الدول الإفريقية بالمواد الأولية خرابا تتحكم في شعوبه الجائعة أنظمة حكم استبدادية تلقى منهم الدعم المطلق. ولم يعرف الوطن العربي عملياتِ تصفية مذهبية كالتي قامت بها محاكم التفتيش في إسبانيا، وقتل وشُرّد فيها عشرات الآلاف من المسلمين، بل ومن اليهود «السفارديم»، الذين أحسنا استقبالهم في بلادنا، ثم لقينا منهم جزاء سنمار. ولم يعرف الوطن العربي مذابح كمذبحة سان بارتيليمي التي أمر بها شارل التاسع في فرنسا ضد البروتستانت في القرن السادس عشر، ولم تكن أرض الجزيرة البريطانية هي الوحيدة التي روتها دماء المذابح المذهبية. وكانت فرنسا الرسمية هي التي ابتكرت القرصنة الجوية وخطف الطائرات المدنية، التي أصبحت تربط دائما بالمناضلين العرب. ولم يحدث أن أعدم المسلمون مُتهمًا بطريقة «الخازوق» البشعة التي استعملتها فرنسا في مصر مع سليمان الحلبي، ولم يحدث أن علقت على المشنقة رفات سياسي بعد موته، كما حدث مع كرومويل في بريطانيا، ولم يحدث أن أعدم إنسان حرقا مثل جان دارك، ولم يحدث أن قتل العرب وسيطا نزيها مثل برنادوت، أو خصما مقعدا مشلولا كالشيخ ياسين. ولعل من يعايروننا بما تعرّض له بعض العلماء المسلمين في ظروف سياسية معقّدة يتناسون ما تعرض له غاليليو وهو يُخطّئ أرسطو، ويؤكّد قول كوبرنيك بدوران الأرض، وينسون أن جثة الموسيقار العظيم موزار ألقيت في حفرة عامة كأنها جيفة لحيوان ضال. باختصار شديد، ليس من حق أحد أن يصيبنا بعقدة ذنب إنسانية أو حضارية، ويلصق بأمّتنا وبشعوبنا تهمة الوحشية واللاّ إنسانية، ويستعمل لقطات مشبوهة عن إحراق طيار عربي أو ذبح مواطنين مسيحيين أو عرض صور لرؤوس مقطوعة، وأنا لا أبرئ بعضنا من ارتكاب بعض الجرائم، لكنّني أتصوّر خبث المخابرات الغربية، كما أعرف أن عمليات غسيل المخ والسيطرة النفسية الموجهة هي تخصص استعماري، ومن السهل جدا أن تصطاد المخابرات شبابا بريئا تتزايد في نفسه كراهية الشمال وهو يراه يدعم أنظمة حكمٍ، قتلت في أربعين يوما أكثر ممن قتلتهم إسرائيل في أربعين عاما. ولعلّي أذكّر هنا بأن كل من قاموا بعمليات إجرامية في أوربا، ممّن يحملون أسماء عربية، كانوا شبابا ولد في أوربا، وتم تكوينه فيها، وحُرِمَ من مرجعيته العائلية، والأبوية خصوصا، بحجة التخلص من التقاليد العربية البالية، ولم يجد في الأئمة الذين تصطفيهم الشرطة هناك وتحميهم ملاذا روحيا يمتص قلقه، فالتقطه مهيجون يعلم الله من وراءهم، وباختصار، هو شباب لا يتحمّل بلدُه الأصلي أي مسؤولية عن أفعاله، ولكن القوم هناك يركزون على أصله العربي، بينما لا يفعلون ذلك مع مغترب متألق، خصوصا في الكرة. ولعلّي هنا أطرح تساؤلا قد تكشف الإجابة عنه الكثير، فالذي حدث في كل العمليات الترويعية أن من اتهموا بها من ذوي الأصول العربية تمّ قتلهم على الفور، وسواء تعلق الأمر بمن اتهموا باختطاف الطائرة الفرنسية في نهاية 1994، أو خالد خلخال الذي قتل ككلب ضال على قارعة الطريق، أو محمد مراح الذي مزقته 39 رصاصة، أو الأخوين كواشي أو المتهمين في «شارلي هبدو» أو غيرهم، ممن كان من الممكن تخدير بعضهم كما يتم تخدير وحوش السيرك أو حديقة الحيوان باستعمال رصاص مخدر خاص، لتنتزع اعترافات صوتية توضح انتماءاتهم العقدية وخلفياتهم الحقيقية، خصوصا وقد زعموا أن منهم من كان يزأر بالتكبير، وهو ما عجزت التكنولوجيا عن تسجيله بالصوت والصورة، إن كان حدث فعلا. بل إن صالح عبد السلام، المتهم الوحيد في اعتداءات نوفمبر 2015 لم يحاكم حتى اليوم، وقد نسمع يوما بأنه انتحر في سجنه، لتقبر كل التفاصيل في ملفات الشرطة السرية. والواقع أن مبالغة القيادات الاستعمارية والمصالح الاحتكارية في تهويل «الإرهاب» الإسلامي، وأكرر، «الإسلامي»، قد يعطي الشعور بالفبركة والافتعال، وأذكر بأنّني أتحدّث عن القيادات لا عن الشّعوب التي تتعرض للتضليل. ذلك أنّ هدف الاستعمار الجديد هو حرمانُ الجنوب من تعاطف شعوب الشمال، وهو تعاطف كان له دوره في انتصاراتنا، وخصوصا في الجزائر والفيتنام، وأشعل مؤخرا ثورة الغضب ضد النزعة العنصرية للرئيس الأمريكي الجديد، وعرفناه في الموقف النبيل للقيادات الكندية ومجتمع الكيبيك. وأقول هذا لأؤكّد أنّني لست من الحماقة لكي أحض على كراهية الشمال بشكل مطلق، بل لأحذّر من التوجهات الاستعمارية التي تحاول تضليل الشعوب هناك لمصلحة الاحتكارات بكل أنواعها، وهدفها الاستراتيجي هو تحجيم الدور السياسي والاجتماعي للمسلمين والعرب المستقرين في الشمال، حيث زُرعت المخاوف، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، من «أسلمة» القارة الأوربية، وهو توجّه خبيث يروجه اللوبي اليهودي واليمين المتطرف. وبجانب امتصاص الأموال العربية في بنوك الشمال والتحكم المطلق فيها والتهديد بتجميدها، يُسهّل التخويف من الإرهاب تحكم الغرب في حياتنا وإحكام السيطرة على مقدراتنا، عبر دعم السلطات المحلية التي تسيطر على حاضرنا ومستقبلنا. فقد طوّر الشمالُ الاستعمارَ المباشر ليَستخدم القيادات المحلية في حماية المصالح الاستعمارية، وتواصل تجهيل الشعوب وإفقارها لتكون لقمة العيش اليومي هي الشاغل الرئيسي لكل مواطن، ومعروف أن أفقر البلدان الإفريقية كالنيجر هي أغنى الدول الإفريقية باليورانيوم، وقائمة الدول الإفريقية التي تستنزف ثرواتها ويتضاعف فقر شعوبها معروفة للجميع. وراح الشّمال يعمل على التخلص من القيادات الوطنية بكل الوسائل، بدءاً بحملات التشويه الإعلامي، ووصولا إلى محاولات التصفية الجسدية، وكل هذا لم يعد سرّا. وعرف العالم الثالث، وبفضل تخطيط الشركات الاحتكارية الغربية وحكوماتها الديموقراطية، تشكيلة من الطغاة جمعت بين النذالة والتفاهة والوحشية، وهكذا عرف المسرح الإفريقي «موبوتو سيسي سيكو»، أي الديك الذي تلين له كل دجاجة، الذي كان وراء اغتيال باتريس لومومبا وأصبح شبه إله في الكونغو لمدة قاربت أربعين عاما، لم يُنجز خلالها في البلد شيئا يذكر، رغم ثروة الكونغو الهائلة التي كانت وراء قوة بلجيكا خلال مرحلة الاستعمار المباشر. وصنعت فرنسا الحرية والإخاء والمساواة من شاويش تافه إمبراطورا على إفريقيا الوسطى، وكان تتويجها «جان بيدل بوكاسا» استنساخا مضحكا ومبكيا في الوقت نفسه لتتويج نابليون بونابرت، ثم أنهت حكمه بانقلاب نجح في تصفيته قبل أن تصل عناصر المظلات الفرنسية إلى «بانغي»، وإن كانت هداياه من الماس وراء تصفية رئيس للجمهورية الفرنسية، ثم صنعت دكتاتورا آخرا هو التشادي حسين هبري بعد أن أسقطت سابقه، تومبالباي، ولن أذكر بدعم نظم هوفوات بوانييه وأسرة «بونغو» في الغابون وآخرين، كانوا أسوأ من عساكر الاستعمار القديم. ولا بد هنا من التّذكير بأنّ السلطات الغربية عتمت على ما يصيب المسلمين في أكثر من بلد وخصوصا في إفريقيا، لكن مع التركيز المتواصل على عمليات «بوكو حرام» الإجرامية، التي لم يقل لنا أحد من الذي يمولها ويسلحها ويحرضها ويستعرض ممارساتها وكأنّها حفلات مدينة «كان» وتوزيع الأوسكار، ويتناسى كثيرون أن تيار التعصب في نيجيريا بدأ مع بالتخلص من القائد المسلم أبو بكر تفاوابليوا في منتصف الستينيات. كل ذلك وكثير غيره كان يتم تحت ستار الصمت الرهيب، على رأي نجاة الصغيرة، الذي يواجه به العالم مذابح المسلمين في ميانامار، حتى مع تولي السلطة السيدةُ التي يُمجّدها الغرب باعتبارها الرمز الحي للكفاح من أجل حقوق الإنسان. وبفضل فوبيا الإرهاب تحقق الاحتكارات الغربية أرباحا هائلة من صناعة أجهزة «السكانر»، وكاميرات المراقبة بالأشعة الحمراء وتصوير حدقات العين وأدوات تسجيل البصمات، وصناعة السيارات المصفحة بكل أحجامها وسيارات التعتيم الإلكتروني بكل أجهزتها، والأسلحة الفردية بكل أنواعها، والأقمصة المضادة للرصاص، كما تتزايد أرباح متعهدي تكوين رجال الأمن الشخصي، بنظاراتهم السوداء المتميزة، وأحاطتهم الهستيرية المفتعلة برجال السياسة، بل وببعض فنانات الدرجة الثالثة ممن يرتزقن من غرف النوم، وكل ذلك بجانب الأرباح الهائلة التي تحققها هوليوود، بل ومن يسير على نهجها في السينما العربية، ويقدّم لنا أفلاما من نوع «الإرهاب والكباب». وسنلاحظ أنّ إسرائيل تستظل بفوبيا الإرهاب للتوسع في بناء المستوطنات، وهكذا يتسلّم الفلسطينيون الضفة الغربية، إن تسلموها يوما، وهي كانتونات منفصلة، كجزر مبعثرة في محيط مضطرب الأمواج غارق في الضباب. وعندما نلاحظ أنّ انتصار الثورة المضادة كان يتم بالتوازي مع تصاعد العمليات الترويعية، نفهم بأن المُخطِط واحد وإن اختلف المُنفذون. الحلقة 2