هل من السهل أن نتجاهل المشهد المتجلي في ساحات النفس وملاعب الكرة وشوارع الانفعال وصراع الإرادات وطريق الآلام في القدس والزاوية التي يحشرنا فيها العدوّ الإسرائيلي ومآزق الخيارات فهل ننفجر أم نكظم غيظنا أم ننزوي في النسيان أم نلجأُ إلى منطق الطير وقد قالت نملة يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم، وقال الهدهد: أحطت بما لم تُحط به وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقين، ليس لي وطنٌ لأتدلّلَ عليه وأمارس ترف الغضب منه تارةً، وهجرانه وجفاءه تارةً أخرى، لكني اخترتك يا وطني حبّاً وطواعية إنّي اخترتك يا وطني سراً وعلانية، فجأةً نستيقظ ونكتشف كم نحب وطننا وأهلنا وقومنا وتاريخنا، وننسى دلالنا علينا في برهة انفعالنا وتمردنا على مثالبنا كأنّ بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام، في سيمفونية يعزفها الملايين يلتقط التاريخ صوره لشوارع تتزين بألوانها وتنبض بحياة تجعل الحجر بشراً ويصبح الكلُّ واحداً، ملايين العازفين بلا نشاز، تيارات من الأشواق والحب والحنين، يولد شيءٌ من جديد أو يذهب الصدأ ويتوهج المضمر المكنون في أغوار الجوهر المصون، لا يمسه إلا المطهرون، سنكتشف كم نحن طيبون وكم نحن حضاريون، وسنكتشف أرضاً عربية جديدة وقلوباً عربية جديدة تنزف بهدوء ويتكالب عليها المستعمرون والملاريا واليهود، كما القصة في كلّ مكان، فهي أيضاً هنا في السودان، قلوبهم أكثر بياضاً من زهر اللوز، وأكثر خصباً من منابع النيل، رغم تداخل الجغرافيا بالسياسة والتاريخ والاقتصاد وفلسطين، فها هم يشترطون الموافقة على استمرار الاستيطان واستثناء القدس من المفاوضات، ويشترطون التخلي عن حق العودة للاجئين، ويشترطون الاعتراف بيهودية الدولة، ويشترطون علينا ألا نشترط عليهم شروطا، وهاهم يرفضون إعلان دولة من طرف واحد ويرفضون دولة بالمفاوضات، ويشترطون العودة للمفاوضات كشرطٍ لدولة متفقٍ عليها لكنهم لا يوافقون عليها، كأننا في أحجيات ملعب المفاوضات، ونحن أمام مشهد الملعب الكبير، بانتظار زفرة الضمير، يتجلّى الضمير الشعبي الجمعي في إشراقة إبداعٍ تميز اللحظة التاريخية وتنهمك فيها وتستعلي عليها، دون أن تسقط في المحظور، أو تنسى المشترك الكبير والأعمق الأصيل، كأنها تدرك أنّ الانتصار الجميل تمتدُّ ساحاته إلى الشيم والسجايا، وأن الجهاد الأكبر هو في ساحات النفس والضمير، ففي لحظة يصبح شيءٌ ما رمزاً لكينونة شعب، شخصٌ كما كان ياسر عرفات وجمال عبد الناصر وهواري بومدين، أو فريق كرة قدم كما كان فريق جبهة التحرير إبّان حرب التحرير، حين تصب كلُّ القلوب في الشريان الذي يلخص السرَّ العميق، ويردفه بروح الرحيق، في لحظة ولادة وتحول عميق، كأنما تجلّى مني سِرّي، وتجاوزني أمري، فعدتُ أراني كأني كنت غيري، مشهد يكشف حجم الطاقات الهائلة المخزونة لدينا، وروعة الإنسان الكامن تحت أضلاعنا، وعظم القدرات التي نتوفر عليها، هكذا كان عندما كانت حرب ثمانية وأربعين، وهكذا كان كل العرب عندما تعرضت مصر لعدوان ستة وخمسين وهكذا كان كل العرب عندما التفوا حول الجزائر في حرب التحرير وهكذا كانت الجماهير العربية وقت الحرب على غزة وهكذا يولد منا إنسان التحدّي الجديد فلا يحسب حساباً لكل الأخطار ويقدم الغالي والرخيص مقابل مقام الكرامة، فتكون الجزائر على كامل أهبتها في إعادة التسليح العربي عام سبعة وستين، ويتعرض عبد الناصر للعدوان الثلاثي عام ستة وخمسين، من هذه المشاهد في ديدوش مراد، من حناجر وأهازيج الشباب ومن الألوان الزاهية والنجمة والهلال على الرؤوس وفي القلوب، تدرك كيف أنجز الاستقلال، وكيف يمكن أن ننجز مشاريعنا، ونصوغ لحمتنا، ونعزف سيمفونيتنا، دون نشازات الناشزين، مستمسكين بحكمة وعظمة الأوراس الجميل ونهر النيل،