تمرُّ اليومَ خمسَةُ ليالٍ مُذ نَقلتُنِي إلى مستشفى المجانين، إنّني أحاوِل تحمُّلَ نظراتِ الشّفقة الموجّهة إليّ، وأضعُنِي بين مُرَّيْنِ: كبريائي، وراحةُ نفسِي، فلا أجدُني إلّا أشدُّ أزرِي مردّدة: في حاجةٍ أنتِ إلى اعتِزال دنسِ البشر، ولا مَعزَل لكِ إلّا ذا! لقظْ خشيتُ على قلبِيِ اليومَ أن يعُجَّ بفوضَى أفرادِ غرفتي، فقد عاهدتُني أن أدع لهُ مجالا يختلِي فيه بنبضِه، فما كان لي إلّا أن خرجتُ عن هدوئي، ورحت أحْطِمُ كلّ مايذكِّرُني بأنّني أمةٌ ضعيفةٌ أكبرُ ما يخيفُها هواها، وللَحظةٍ ارتعشت يدِي وهي تُفكِّر في أن تبطِشَ بأورِدة شقيقتها لولا أن منَّ اللّه عليَّ ووقعتُ على الأرضِ مُخدّرة... ليسَ للإنسانِ أن يحتفِظ بعقلِه دومًا، فلم يكن لي من سبيلٍ لأُنقَل إلى غرفةٍ منفردَةً إلّا أن أبيعَ كرامتي، فقد كفتني ألَما! أزدادُ حبًّا للبياض الّذي يحيط بي نظرةً بعد نظرة، وأزيدُ مخيّلتِي سعةً، فلا نوافِذ في الغرفَة إلّا تلكَ الّتي فتحتها أضلُعي لأطلّ بها على روحِي الّتي تفقدُ الرّغبةَ في الحياةِ نفَسا بعد نفَسٍ، ولا ألوان أطلي بها جدرات مُستَقرّي إلّا ما استفرغه قلبي من سوادِ حقدٍ، ولا حبرَ يخطّ به لاوعيي همومَه إلًا ما تُكرِم عليهِ الذّاكرَةُ من ذكريات... إنّني أحمدُ اللّه مرارًا على أن منَّ عليَّ بوحدة أُطَهِّرُني فيها، وأخلّصُني من ثِقلِ عبراتٍ لا زال كبريائي يقفُ أمامها سدًّا منيعا. إنّه المرَضُ بأعرَاضه والجنونُ بأماراتِه، كيفَ بي وأنا الطّبيبُ المريضُ في آنٍ، أصف لي دواءَ الإفصاحِ ولا أحبَّ إليّ من طعمِ الكتمانِ؟! ما أنظُرُ إلّا الغد الّذي سيقتادُني فيه القيِّمون على عُزلتي لمعالجةِ ارتعاش أصابعي، عسايَ أجيدُ رسمَ همومِي ثمَّ محوَها دون تعرُّجات أحداثٍ. والسّلام