إهتزّ الشارع الغاضب في قرغيزيا مطوّقا قصر الرئاسة وأصرّ على إسقاط الرئيس، فكان له ما أراد، حيث إضطرّ »كرمان بيك باكييف« التّعيس للفرار بجلده للفرار بجلده إلى كازاخستان بعد أن قايض حياته بالإستقالة. ثورة الشارع القرغيزي لم تكن طويلة لكنها كانت فعّالة، حيث إستطاع الشعب من خلالها وفي بضعة أسابيع استعادة السلطة وخلع الرئيس الذي خيّب آماله وعجز عن تحقيق تطلّعاته وأبقاه غارقا تحت وطأة المعاناة في واحدة من أفقر البلدان على وجه الأرض. وهكذا، وبعد أن ألفنا الوقوف على انقلابات عسكرية يسطو من خلالها القادة العسكريون على كراسي الحكم هنا وهناك، فإننا هذه المرة تتبعنا فصول حركة قاد فيها الشعب إنقلابا سلميا على السلطة واستعادتها. لكن نجاح الهزة الشعبية في قرغيزيا وإن لعب فيها الشارع الدور البارز، فإنها تعود بالدرجة الكبرى إلى الدّعم والتأييد اللذان تلقتهما من الخارج، حتى لا نقول بأن الشارع لم يكن طيلة الأيام الماضية إلا واجهة لثورة أشعلتها قوى كبرى تتصارع على بسط نفوذها في هذه الدولة وعلى خدمة مصالحها، مع العلم أن قرغيزيا المريضة بفقرها وفساد حكّامها تحتضن واحدة من أهم القواعد العسكرية الأمريكية. المؤكد أن نجاح ثورة الشارع في قرغيزيا يعود إلى الدّعم والحماية اللذان حظيت بهما من قبل جهات خارجية قويّة، وساعد على ذلك ضعف النظام واهتزاز شعبيته، والمؤكد أيضا أن ثورات شعبية كثيرة إندلعت في مناطق متعددة من العالم، لكنها تحوّلت فجأة إلى رماد بعد أن أحرقت روّادها، فقط لأنها لم تلق دعم الخارج، أو أنها اصطدمت باستنكار الخارج ومعارضته لها، بعد أن رأى في إسقاط النظام القائم ضربا لمصالحه. وأيّا كانت المفاجآت التي ستحملها الأيام القادمة لقرغيزيا، خاصة بعد أن بدأ الشارع يضيق ذرعا بأولائك الذين احتلوا مكان الرئيس المخلوع وأخذوا يتصارعون على تقسيم »الغنائم« تماما كما فعل »بكاييف« الذي وزّع مناصب السلطة والثروة على أهله وأقاربه، فما يجب الوقوف عنده من خلال التجربة القرغيزية في الإطاحة بالرئيس، هو أن الشارع على مرّ العصور والأزمة كان يثور في وجه الأنظمة الإستبدادية والديكتاتورية ويطيح بها وعندما يصل الفساد والإستبداد إلى أعلى درجاته وتسدّ جميع منافذ التغيير، فالشارع يتحوّل إلى المنفذ الوحيد وغالبا ما يصاحب ذلك حمل السّلاح وإراقة الدماء والتاريخ يحفل بتجارب لا تعدّ ولا تحصى من الثورات الشعبية الناجحة لعلّ أكثرها أهمية الثورة »البلشفية« في روسيا والثورة الفرنسية اللتان أطاحتا بالإقطاعية التي قامت على أنقاضها أنظمة جديدة.... وإلى زمن غير بعيد، وقف العالم أجمع أمام مشاهد للشارع فيما كان يسمّى بدول الكتلة الشيوعية، وهو يهتزّ بقوّة ويحاصر قصور الرؤساء ويطيح بهم، بل إن الرئيس الروماني »تشاوسيسكو« سقط ذبيحا تحت أقدام هذا الشارع وتمكنت شعوب أوروبا الشرقية من تغيير خريطة العالم بعد أن فتّتت الأمبراطورية السوفياتية وجمهوريات أخرى، وأقامت على أنقاضها دورلا تبنّت نظام الرئاسمالية وأصبحت اليوم كالكويكبات تسبح في مدار الكوكب الأمريكي العملاق. كما لا يمكننا أن ننسى مشهد الشعب الألماني، وهو يحطّم جدار برلين ويعيد توحيد الألمانيتين... الشعوب إذن هي التي تصنع التاريخ، وهي الوحيدة القادرة على إحداث التغيير، لكن للأسف هناك إستثناءات لهذه القاعدة إذ نرى شعوبا كثيرة تنشد التغيير وتسعى إليه في بعض الأحيان يهزّ الشارع، لكنها تصطدم بأنظمة عزّزت نفسها وحصنتها ضد مثل هذه المواقف، وذلك بمساعدة قوى كبرى تجد مصالحها في بقاء هذه الأنظمة وإستمرارها إلى ما لا نهاية، فعندما يموت الزعيم الذي لا يستقيل أبدا يخلفه وريث يسلّم المشعل بدوره لوريث آخر بعد رحيله طبعا. لكنّ الشيء الواجب التذكير به، أن التغيير يجب في كل الأحوال أن يتم بطرق ديمقراطية شفافة تسمح بالتداول السلمي على السلطة، وحظر هذا الحق عن الشعوب، يفتح المجال واسعا أمام طرق أخرى للتغيير محفوفة بمخاطر كبرى، ففي هذه الحالة يعوّض صندوق الإقتراع بالإنقلابات العسكرية الدمويّة بثورات الشارع التي قد تتحوّل إلى حروب أهلية خاصة إذا كانت الأرضية مهيأة لذلك ومزروعة ببذور الطائفية والاختلافات السياسية والدينية والمذهبية.