دقت مصالح الدرك الوطني بأرقامها المرتفعة عن حالات الانتحار في الجزائر كل نواقيس الخطر، رقم 1423 محاولة انتحار سنويا معظمها عند النساء وشنق 112 شخصا لأنفسهم خلال هذا العام فقط »قبل نهايته«، برغم ما يقال عن تحسن أحوال الجزائر يعني أننا على شفا حفرة من نار الهلاك... تعاطي مبيد الفئران والشنق بالحبال المعلقة والارتماء تحت العجلات الحديدية للقطار والسباحة في أعماق الجسور وتمزيق الأوردة... جميعها سيناريوهات لنهاية واحدة. الجزائريون الذين ضربوا مواعيد الشهادة مع الموت عادوا الآن إلى الموت من أجل الموت والانتهاء، ليضعوا ملفا اجتماعيا ونفسيا ضخما على طاولة النقاش... فهل من مناقش؟! المؤكد أن بلادنا مازالت بعيدة عن منافسة دول الانتحار الكبرى وكلها تقع في جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا، لكنها للأسف تزحف بثبات نحو القمة (المؤلمة)، وما نخشاه أن يتحول الانتحار إلى وباء فتاك يقتل أكثر من بقية الأمراض، كما حصل مع عدد من دول أوربا التي قضت نهائيا على الأمراض البدنية وعجزت عن القضاء على الأمراض المعنوية المؤدية عادة إلى الانتجار. وتحصر منظمة الصحة العالمية أسباب الانتحار في المشاكل النفسية والاجتماعية مثل اليتم والعنف الجسماني والجنسي والطفولة المعقدة. وتنحصر في الجزائر في معضلات اجتماعية مثل العنوسة والطلاق والبطالة ومشكلة السكن وحتى الرسوب في الدراسة. ولم يكن الانتحار في الجزائر قديما إلا نهاية لبعض الأمراض العصبية، وكان صورة قادمة من المجتمع الاستعماري الفرنسي الذي نقل رومانسية العشاق وأساطير (سيرانودي برجراك) و(ماجدولين) و(بول وفرجيني) إلى الجزائر، وحتى المغني اليهودي (أنريكو ماسياس) عندما خطب إبنة المطرب (ريمون) ورفضه والدها رمى بنفسه من جسر (باب القنطرة) شمال قسنطينة ونجا من الموت، لأن ارتفاع مكان انتحاره لم يزد عن عشرين مترا. وشاعت في فرنسا عمليات الانتحار بسبب (الحب وهمومه)، خاصة عبر برج إيفل الذي شهد منذ تشييده 369 عملية انتحار كاملة، كانت أولها في 15 جويلية 1898 حين انتحر شاب من علو البرج إيفل وترك رسالة مطولة اختصر فيها عذابه العاطفي. وكانت قناة ال(بي.بي.سي) قد صورت شريطا مصورا حقيقيا لعملية انتحار قام بها شاب من فرنسا يسمى (أندري جيتار) رمي بنفسه من علو 57 مترا ببرج إيفل بعد قصة حب فاشلة وصادف انتحاره وجود كاميرا القناة في مهمة إعلامية أخرى فالتقطت الصورة الموجودة حاليا في أرشيف برج إيفل. ثم تحول الانتحار إلى فن قائم بذاته لدى بعض الشعوب وتحول إلى طقوس غريبة، كما حدث في أوغندا عندما أقدمت جمعية (بوكاليبتيك) على انتحار أعضائها البالغ عددهم ألف عضو في 17 مارس 2000 جماعيا فهزوا الدنيا. كما أخذت الانتحارات طقوسا دينية وسحرية في إسبانيا والبرتغال والبرازيل وجزر الكناري ومصر وجنوب شرق آسيا. مليون حالة انتحار معلنة تسجلها سنويا منظمة الصحة العالمية، أما رقم محاولات الانتحار فهو يصل سنويا إلى عشرين مليونا مما يعني أن الانتحار يقتل أكثر من أمراض كثيرة تخيف العالم مثل السيدا وأنفلونزا الطيور والسل والكوليرا والتيفوئيد وحتى حوادث المرور، وابتلع الانتحار في فرنسا وحدها في الثلاثين سنة الماضية حوالي عشرين ألف نسمة، وللأسف فإن من بين المنتحرين في فرنسا شباب وشابات جزائريات. الرئيس الفرنسي جاك شيراك طالب بدراسة ظاهرة الانتحار تماما كما تدرس الأمراض الفتاكة. وفي الجزائر تم طرح الظاهرة باحتشام في اجتماعات البرلمان في ربيع 2003 ومروا عليها مر الكرام. لماذا ينتحر الجزائريون، مع أن الإسلام يحرّم قتل النفس مهما كان السبب؟! الشروق اليومي، تنقل بأسف كبير، خاصة في صفحاتها الجهوية، أشكالا وألوانا دخلت عالم الانتحار عندنا، حيث طال الانتحار كل أطياف المجتمع من أطفال وشيوخ ونساء وشابات ودكاترة وكناسين وبطالين وعباقرة ومتدينين ومخمورين، بالمختصر المفيد الانتحار يبتلع الكل، وكل الطرق تؤدي إليه. ناصر