ليس من باب التكرار المذموم أن أعود مرة أخرى إلى الحكيم لونيس آيت منقلات للتذكير بأنه قامة كبيرة من قامات الحكمة في بلاد الزواوة (القبائل)، ملك ناصية الكلمة، فاستحق عن جدارة لقب »صائغ البيان« (أحدّاذ بواوال)، عند العارفين لأسرار وبلاغة اللغة الأمازيغية. * غير أن هذا الإبداع الوافر ظل حبيس اللسان الزواوي لسنوات عديدة، إلى أن تفطّن مثقفو المنطقة وأدركوا وجوب تحريره من سياج العزلة المحلية، لينساب نحو أفق أرحب يفتح له أبواب التواصل مع أبناء الوطن والعالم قاطبة، عبر نافذة الترجمة التي كسرت الحواجز المحلية أمام إبداعات الشعوب. ورغم القصور الذي يكتنفها أحيانا إلى درجة أنها تجعل المترجم خائنا برأي الايطاليين فإنها (أي الترجمة) ضرورة حضارية تقيم الجسور بين الناس والأعراق والشعوب. * وفيما يخص شاعرنا الحكيم لونيس آيت منقلات، فإن ترجمة أشعاره إلى العربية فضلا عن كونها فرصة للقراء في الجزائر والعالم العربي، لتذوق إبداعاته تصب في عملية بناء علاقة تكاملية بين البعدين الأمازيغي والعربي المشكّلين لأسس شخصيتنا الجزائرية. * * جهود ترجمة شعره * لقد ذكرني الأستاذ بلقاسم سعدون بعمله هذا، بالجهد المتواضع الذي بذلته في الماضي لترجمة شعر لونيس آيت منقلات إلى العربية، كان ذلك في إطار النضال السياسي من أجل إعادة الاعتبار للأمازيغية المظلومة في عقر دارها، من طرف ذوي القربى. ومازلت أتذكر السبب المباشر الذي جعلني أضع ذلك الكتيب المتواضع (لونيس أيت منقلات حكيم القرن) عن شعره في التسعينيات من القرن الماضي، ومؤداه أنني كنت أتجاذب أطراف الحديث مع أحد خصوم الأمازيغية، محاولة مني لإقناعه بوجود أدب أمازيغي لايزال حيّا يرزق، فذكرت له كمثال شعر لونيس أيت منقلات، فعقّب على كلامي تعقيبا بدا لي منطقيا حين قال: »أنا لا أعتبره إبداعا أدبيا لأنه غير مكتوب.«. وكان هذا الجواب سببا مباشرا دفعني إلى كتابة مقال مطوّل عن شعره في ظرف قصير، طغى عليه حماس المناضل. ثم أرسلته إلى إحدى الجرائد للنشر، لكن بعد أيام أخبرني رئيس التحرير أنه لا يصلح للنشر، بحجة أن ما ورد فيه من أفكار مبالغ فيها. ومن الجمل التي لم تعجبه »... وحار الكثير في عبقريته الشعرية حتى نسجت حوله الأساطير، فقيل إنه يستلهم أشعاره من الجن، وفي ذلك اعتراف واضح بامتلاكه لناصية الشعر وتربّعه على عرش الكلمة، وقد زادت الموسيقى الأصيلة المجددة من جمال شعره«. * وحدث أن زرت مقر الجاحظية فقصصت على رئيسها الأديب الكبير الطاهر وطار ما وقع، فطلب مني المقال لتصفّحه، وقد فاجأني مفاجأة سارة حينما أخبرني أنه يصلح كمشروع كتاب. وعلى إثر ذلك أضفت إليه مجموعة من الأغاني ترجمتها بسرعة، فطبع الكتاب في ظرف قياسي لم أتمكن فيه حتى من تصحيح الأخطاء المطبعية، وصدر عن منشورات التبيين للجمعية الثقافية الجاحظية، في إطار النشر المشترك مع دار الشباب لعين الحمام سنة 1996م. * وتجدر الإشارة أيضا إلى الجهود العلمية التي بذلها الدكتور أمحمد جلاوي للتعريف بإبداعات الشاعر لونيس أيت منقلات، إذ قدم رسالة علمية حولها، كما نشر في إطار سنة الثقافة العربية بالجزائر2007م كتابا خاصا بترجمة أشعاره، لكنني لم أطلع عليه. * * قرية سيدي إبراهيم (برج بوعريريج) * ولد الأستاذ بلقاسم سعدوني في قرية سيدي إبراهيم، المتميزة بأهمية موقعها الجغرافي، الذي جعلها تتواصل مع ولايتي البويرة وبجاية وتتفاعل مع أحداثهما. وأنجبت العديد من المثقفين الذين كتبوا بلغات عديدة، منهم سعيد البيباني (1908 1976) المعروف بفكره الإصلاحي (تلميذ ابن باديس) ونضاله السياسي الوطني، والشاعر المبدع باللسان الأمازيغي قاسي أوضيف الله (1898 1950م) الذي تمحور شعره حول الإسلام وقيمه، وكذا حول الفكر الإصلاحي، فاستحق عن جدارة لقب »شاعر الإصلاح« رغم أنه لم يهيكل في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لتواضع مستواه التحصيلي. كما تنتمي أيضا إلى هذه القرية الباحثة الكبيرة المختصة في الثقافة الأمازيغية ياسين ثاساعديث ذات النّتاج الفكري الغزير. * * جهود الأستاذ بلقاسم سعدوني * وقد قضى الأستاذ بلقاسم سعدون مساره المهني في التربية والتعليم، ليتفرّغ بعده للكتابة التي تمحورت حول التراث الأمازيغي المنسي في عقر داره، وللإشارة فهو شاعر كتب عدة أعمال إبداعية في مجالي المسرح والغناء. * ويعد كتابه الموسوم (لونيس أيت منقلات، شعر وأفكار من 1967 إلى 2007)، الصادر سنة 2008، باكورة إصداراته، وقد ترجم فيه الأعمال الكاملة للشاعر (446صفحة). ورصّعه بتوطئة أشار فيها إلى عراقة الحضارة الأمازيغية، الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، التي استطاعت أن تتحدى الصعاب رغم تعاقب الوافدين والاستعمار، وغمط حقها في الوجود من طرف ذوي القربى، في أطار »سياسة التسويف« أحيانا، وسياسة الإقصاء أحيانا أخرى، لكنها وصلت إلينا حيّة ترزق، في أشكال ألسن ولهجات على امتداد جغرافية شمال إفريقيا من واحة »سيواه« بمصر إلى المحيط الأطلسي، وإلى عمق الصحراء الإفريقية. * أشار الأستاذ بلقاسم سعدوني في هذه التوطئة أيضا إلى مسيرة النضال الأمازيغي الطويلة، قدم خلالها الرعيل الأول (واعلي بناي / أعمر ولد حمودة / مبارك أيت منقلات) حياتهم ثمنا للقضية الأمازيغية، ثم عرّج على جهود مولود معمري التي خصّها الحكام بعين السخط، فأوقفوا نشاطه العلمي في الجامعة. وكان لابد من انتظار الانفجار الاجتماعي الذي زلزل البلاد يوم 5 أكتوبر سنة 1988م، ليتم تخفيف ضغط الخناق على القضية الأمازيغية، الأمر الذي شجع الباحثين على إنتاج مؤلفات في شتى المواد باللغة الأمازيغية. * * بزوغ فكرة الترجمة: * أما عن فكرة ترجمة أعمال الشاعر لونيس أيت منقلات، فقد ذكر الأستاذ بلقاسم سعدوني أنه استوحاها من المقطع التالي لأغنية »الرسائل«، التي دعا فيها الشاعر إلى تدوين أفكاره ونشرها في فضاء أرحب يتجاوز جغرافية اللسان القبائلي: * هيا خذ قلما * أقص عليك فاكتب * وما تحضره من ورق لا أظنه يكفيك * لأن القلب يكاد يفيض * سأكلمك بالقبائلية * أكتبه كيفما تشاء * المهم أن تنور من لم يفهمني * فأنت متعلم. * وقال الكاتب عن هذا الاستلهام: »إن هذا المقطع من قصيدة الرسائل هو الذي أعطاني الفكرة الأولى للترجمة وكأنني أستجيب لمطلب الشاعر الملح على إيصال أفكاره إلى من لم يفهموه، وما كان اندفاعي للترجمة إلا لما لهذا الشاعر وشعره من عظمة وقوة في التعبير والتصوير البلاغي والبديعي واستعمال الكلمة استعمالا عجيبا بأسلوب أدبي رائع راق وخلاب فهو بمثابة نسيج بالكلمات«... * أما النبذة الخاصة بحياة الشاعر فقد أشار فيها الأستاذ بلقاسم سعدوني أن محدودية التحصيل العلمي للشاعر لم يحل دون بلوغه قمة الإبداع، وهذا بفضل موهبته الخارقة، المصقولة بالمطالعة الواسعة التي مكنت أيت منقلات من الاطلاع على تجارب الأمم، والاستفادة من الآداب العالمية، فاستدرك بالعصامية محدودية مستواه المدرسي، إذ كان مغرما بالمطالعة إلى درجة كبيرة. وتمكن الكاتب بلقاسم سعدون من معرفة لونيس أيت منقلات معرفة عميقة بفضل الاحتكاك به، فأشار إلى دماثة خلقه، وجهوده المتواصلة لتجسيد قيم التضامن والتعاون والتآزر والإيثار ميدانيا، الأمر الذي جعله يضيف تاجا آخر إلى هامته، وهو تاج التواضع والاستقامة والصلاح. * * نموذج من الترجمة: * بذل الأستاذ بلقاسم سعدون جهودا كبيرة في عمل الترجمة، استغرقت سنوات عديدة، كان أثناءها يراجع الشاعر لونيس أيت منقلات باستمرار للتصحيح والتصويب، كما عرض عمله هذا على السيد محمد الحسن محروش للتنقيح. أما عن شكل الترجمة فقد أرادها الكاتب أن تكون بسيطة غير مقفاة، حرصا على نقل المعاني نقلا صائبا. * إن ما تجدر الإشارة إليه أن الشاعر المبدع لونيس، قد تناول عدة محاور في إبداعاته، فتطرق للمجال العاطفي، والشعر السياسي، والقيم الأخلاقية، والثقافة الأمازيغية، وظاهرة الهجرة إلى فرنسا، وأحداث الثورة التحريرية. ورغم صعوبة اختيار »نموذج" لهذا الكم الكبير من الإبداع، فقد وقع اختياري على مقاطع لقصيدة سياسية هامة، بعنوان (يا بني/ آمّي)، نجح فيها الشاعر لونيس أيت منقلات في تعرية طبيعة الحكم الاستبدادي الذي لايزال جاثما على الشعوب منذ القديم. هذا ومن المحتمل أن تكون هذه القصيدة الرائعة مستوحاة من كتاب »الأمير« للكاتب الايطالي ماكيافيلي الذي روّج لسياسة »الغاية تبرر الوسيلة« التي تقصي الأخلاق من الممارسة السياسية، وترجمها الأستاذ بلقاسم سعدون على النحو التالي: * مسكين ذلك المتعلم إذا زرع * وكان ذا تفكير نظيف * فإن حصاده تذروه الرياح! * مسكين ذلك الرجل إذا صلح * وسار على نيته * فإنه سيكون في آخر الصف * بابني * إنك لن تصل إلى سدة الحكم * لا بالعلم ولا بشجاعة * * * * * * * لا تخش الله في الظلم * لا ترحم أحدا * بل انزع من قلبك الرحمة * أصب دائما إلى الغد * دون أن تنسى أمسك * اعمل حسابا لكل أمر * لا تصدق أحدا إذا قال ذلك قدر * فالقدر ما تفكر فيه أنت. * * * * * * * إبدأ في تعلم الحيلة * فإن الحياة عليها تبنى * تعلم، فإنها مبنية على الخداع * صاحب من تحتاجه * والآخر تجنبه * فلا علاقة لك به * اسبق خصمك إلى المنصب * وإذا سبق ألغه * فإن لم تضره يضرك. * * * * * * * إن كان الناس مؤمنين * أحمل سبحة في يدك * وتظاهر بينهم * بالإيمان! * كن دوما في أول الصف * حتى ولو كنت تخدعهم * فإن الله * مع المبادرين * ولو أن قلبك كافر * فما رآك أحد * اخدع الناس * فهم لا يؤمنون إلا بالمظاهر. * * لقد أنجز الأستاذ بلقاسم سعدون عملا فكريا كبيرا، قدم به خدمة جليلة للدارسين الذين يهمهم أمر دراسة أعمال لونيس أيت منقلات من جوانب مختلفة، وللقراء بصفة عامة الذين لا يفهمون الأمازيغية. وما هذا المقال إلا مجرد نافذة يطل منها القارئ على أعمال هذا المبدع الكبير، الذي يعتبر خير سفير للكلمة الأمازيغية الراقية، التي تختزن آيات البيان وصور البلاغة وهي لا تقل روعة عن اللغات الأخرى. ولا غرابة في الأمر ما دام تعدد الألسن أية من آيات الله.