د/ محمد العربي الزبيري "الجزائر حرة ديمقراطية". هذا شعار سمعته مرات عديدة خاصة في التجمعات الشعبية أو عندما يشعر بعضهم بالضعف أمام غطرسة ذوي السلطان على اختلاف مستوياتهم .. ولقد كنت ، في كل مرة ، أسائل نفسي عن مدى وقع العبارة في نفوس المستمعين وعن قوة مفعولها بالنسبة للذين يستعملونها .وذات مرة، خطر ببالي أن أمتحن بعض العامة ممن لم أكن أعرفهم ، وبدأت بتوجيه السؤال لواحد بمفرده، ثم وجهه بنفس الطريقة لجامعة كانت تجلس حول طاولة بإحدى المقاهي. و كان السؤال مبسطا و يقول: ما معنى "الجزائر حرة و ديمقراطية"؟ قال الذي بمفرده:هي الجزائر التي لا يحكمها أحد. و قالت الجماعة بشبه إجماع: هي الجزائر التي تخلصت من السيطرة الاستعمارية. و اكتشفت بعد الإيجابيات أن الذي بمفرده ينتمي إلى أسرة التعليم يدرس اللغة الفرنسية في الابتدائي، أما أصحاب المقهى، فكانوا بطالا و ثلاث تجار. و لقد كان ممكنا اللجوء إلى أعداد أخرى من المواطنات والمواطنين في أماكن مختلفة، لكنني أحجمت بدافع خفي أقنعني بأن البضاعة واحدة وبأن المجتمع لا يكون إلا كما أرادت له قياداته أن يكون، وأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تكون في أساس تكوين المواطن القادر على فهم معنى الحرية والديمقراطية إلا إذا كان أعضاؤها من ذوي الكفاءات الفكرية و السياسية العالية. فالجزائر الحرة ليست هي تلك التي يرفرف في سمائها علم يميزها عن غيرها والتي لها نشيد وطني ينفض عنها الغبار في المناسبات الرسمية. لكن الجزائر الحرة هي التي يكون شعبها واحد بلغة رسمية واحدة و له رأي نافذ، على الأقل، في جميع القضايا التي لها صلة مباشرة بالواقع الذي نعيشه أو المستقبل الذي يطمح إلى بنائه. لا يمكن أن تكون الجزائر حرة و شعبها يئن من جراء استفحال الأمراض الاجتماعية التي عمت كل الميادين و التي لها أسماء متعددة بعضها: الرشوة التي لم تعد مقتصرة على مجال دون آخر، و الجهوية الضيقة، التي صارت ممارستها عادية لدي المسيرين على جميع المستويات و السرقة التي شملت كل كبيرة و صغيرة، خاصة أملاك الدولة، و الأراضي منها بصفة أخص. وهل يمكن القول إن الجزائر حرة و القوانين فيها غير محترمة و غير مطبقة أو تطبق فيها حسب الأهواء والأغراض؟ وكيف تكون حرة، وانتهاك أقدس المقدسات مباح؟ هل يمكن أن تكون حرة و العلاقات الاجتماعية غير مضبوطة، و غير مقننة، و قانون الغاب هو السائد؟ و هل تكون الجزائر حرة إذا كان شعبها لا يعرف شيئا عن مدخولات الوطن ومخروجاته؟ وإذا كان المواطن يبيت على الحليب بعشرين دينارا ويستيقظ عليه وهو بخمسة و عشرين ولا يعطى له أي تفسير للزيادة؟ و عندما ينظر حوله فيرى موظفا ممن بيدهم مصائر الناس و قضاياهم أو ممن يفترض فيهم أن يكونوا حماة المصلحة العامة و المدافعين عنها، يشيد العمارة تلو الأخرى و يبدل السيارات أكثر مما يبدل القمصان كل ذلك وعين الرقيب نائمة أو متناومة؟ إن الجزائر الحرة، في نظري، هي التي يعرفها جميع أبنائها، و يعرف فيها أبناؤها أنفسهم، و هي التي يعيش فيها مواطنون متساوون أمام القانون و يخضعون لنفس الواجبات، و هي التي يستطيع فيها كل مواطن الجهر برأيه للضغط أو للعقاب بجميع أنواعه. و هي التي تشبه، في كل شيء، البيت الزجاجي الذي تعلق على جدرانه مقاييس اختيار القيادات ومعايير التعامل بين هذه الأخيرة و الجماهير الشعبية الواسعة التي يفترض أنها تخدمها، لا تستغلها وتمارس عليها أنواع الظلم والاضطهاد. هذا باختصار عن جانب الحرية في الشعار. أما الديمقراطية، كما هو معروف، فهي كلمة يونانية مركبة من شطرين:"ديموس" و معناه الشعب و "كراتوس" و يعني السلطة. وبالتفسير المبسط فهي سلطة الشعب. و عندما ظهرت، منهجا للتسيير في أثينا، كان مفهوم الشعب غير الذي نعرفه اليوم. لقد كان الشعب هو فئة الأحرار فقط. أما العبيد و كانوا كثرا، و أما الحرس فإنهم لم يكونوا معنيين باختيار المسئولين ولا بإعطاء رأيهم في كيفية تسيير شؤون المدينة. و حينما تم القضاء بالتدريج على العبودية و أصبحت الجيوش تتدخل في الحكم عن طريق الانقلابات و غيرها، و بالضبط في نهاية القرن التاسع عشر، خشيت الكنيسة ضياع سلطتها المطلقة، فالتفتت إلى الديمقراطية تكيفها مع بعض السلوكات الدينية وأنشأت الديمقراطية المسيحية. وبعد انتهاء الحرب الامبريالية الثانية ابتدع المعسكر الشيوعي : الديمقراطية الشعبية. من خلال هذا التقديم، أردنا القول إن الديمقراطية متعددة و هي نهج في التسيير يخضع لخصوصيات كل بلد لكنه يأخذ في الاعتبار، نظريا على الأقل، كون الشعب هو مصدر السلطة. و هي أكذوبة ما بعدها أكذوبة تلجأ إليها الأوليكارشيات السياسية من أجل السيطرة على الثروة و إيجاد أفضل السبل لاستبعاد الجماهير الشعبية وإبقائها في حالة الغيبوبة الدائمة. فزعيمة الديمقراطية ، في العالم ، هي أمريكا ويزعم كثير من المحللين السياسيين في الغرب أن الكيان الصهيوني يأتي بعدها مباشرة ثم تتبعها أوربا الغربية . ومن العجب العجاب أن كل هذه الكيانات استعمارية وتوسعية ، تعتمد العنف بجميع أنواعه للاستيلاء على أراضي غيرها واستغلال خيراتهم . معنى ذلك أنها مسيرة بأنظمة ظالمة لا تتردد أمام استعمال أية وسيلة ، بما في ذلك العدوان العسكري ، لإشباع رغباتها في السيطرة على الآخرين والإثراء على حسابهم . إن هذه الحقيقة تحتم علينا التوقف عند سؤال محير وهو : هل يمكن أن تكون شعوب البلدان المذكورة هي التي اختارت رجالات أنظمتها الاستبدادية المعتدية ؟ ولأن الشعوب ، في أغلبيتها ، لا يمكن أن تكون ظالمة وميالة للاعتداء على الآخرين فإنه لا يسعنا سوى القول : إن أنظمتها مفروضة عليها بطريقة أو بأخرى ، وأن الديمقراطية ليست سوى شعار يرفع لإيهام السذج من الناس بأنهم ، وهم مهمشون ، يمكن أن يكونوا في أساس اختيار حكامهم . فالجزائر ، مثلا ، لكي تكون ديمقراطية يجب أن يكون المواطن فيها مطلعا على سياسة البلاد الداخلية والخارجية ليتمكن من الإسهام في إعدادها وتطبيقها حسب قدراته ، وليكون ملزما ، فيما بعد ، بتحمل مسؤوليته كاملة في النجاح أو في الفشل . وليس هذا فقط ، بل إن المسئول ، في الجزائر الديمقراطية ، لا يكون عبدا لنزوات أشخاص يتفننون في تسخيره قصد استغلال البلاد والعباد .. إنه يرفض المناصب التي تسند إليه بطرق ملتوية ، ولا يشارك في عمليات التزوير والتزييف التي تتنافى مع العمل بالمعايير والمقاييس . وخلاصة القول ، فإن الديمقراطية ثقافة ، والجزائر الديمقراطية هي تلك التي تكون قد تمكنت جماهيرها الشعبية من تمثل تلك الثقافة . أم من دون ذلك فلا كلام إلا عن الفوضى والغموض والإفلاس في جميع الميادين . وصدق الشاعر الفحل الذي قال : اتقوا الله في الجزائر ياناس *** فقد ضاق صدر الجزائر صبرا .