وإذا كانت عملية تهريب الوقود تذر الربح الوافر على أصحابها، فإن تحديد سعر اللتر الواحد من المازوت يحدد وفق مؤثرات داخلية وخارجية (وحتى دولية)، كسعر برميل البترول بكبريات الأسواق العالمية!!.. وهو ما اعتمدت عليه الحكومة المغربية التي لجأت إلى خفض أسعار الوقود في شهر أكتوبر الماضي تماشيا وانخفاضها في الأسواق العالمية، ليصبح سعر المازوت 7.47 درهم بدلا من 7.98 درهم، أي بفارق 51 سنتيما. أما البنزين فتم تخفيض 57 سنتيما، فبعدما كان ب 11.70 درهم للتر أصبح 10.50 درهم، وهي تخفيضات وإن كانت بسيطة فإنها تؤثر على حجم المبيعات للوقود المهرب. إذ لا يلقى إقبالا لدى أصحاب السيارات الذين يأتون من مناطق بعيدة من الجهة الشرقية للمغرب، وفي هذه الحالة، يمتنعون عن التنقل لمسافات بعيدة للتزود بالقرب من مناطق حدودية. فالحلابة يستنسخون نفس السياسة التي تترتب عن أسعار "أوبيك" وكواليسها. أما عن السعر المرجعي على مستوى المنطقة الحدودية فيقدر ما بين 23 دج للتر، غير أنه يتأثر وفق قانون العرض والطلب. كما أن الطلب يختلف من موسم لآخر، إذ يعد فصل الصيف فصل الذروة، حيث يشتد الطلب على الوقود الجزائري لكثرة توافد المغتربين بالجهة الشرقية. وبشأن الأسعار دائما، تقول "مصادر عليمة" بعملية التهريب إن السعر يبلغ في أعلى المستويات 30 دج، يكون فيها هامش الربح مرتفعا ومرتبطا بالكمية المهربة وغير ثابت. في هذا الصدد، تفيد الأرقام التي تحصلنا عليها من مصادر تعرف جيدا خبايا وأحوال المهربين، أن هامش الربح في اللتر الواحد يقدر ما بين 9 دج وحتى 16 دج!.. ويظهر الفرق في عملية الشراء!.. ولأن اللتر على مستوى "البقرة".. أي "المحطة"، يقدر ب 13.70، فإن الربح "السهل الممتنع"، هو الذي رفع عدد الحلابة الذين استثمروا الأموال الطائلة في عملية التهريب، وذلك بشراء السيارات ذات الخزانات الكبيرة. "الشروق" باشرت عملية إحصاء ودراسة تحليلية ميدانية للكميات الحقيقية المهربة، والتي تفوق بكثير الكمية المصرح بها في الأرقام الرسمية، أو تلك الكميات المحتجزة من قبل مختلف المصالح من درك وحرس الحدود وجمارك بالإضافة إلى فرق الشرطة. فالطريقة الحسابية التي اهتدينا إليها تتمثل في ما يلي: أولا، احتساب المسافة من نقاط التزود المختلفة إلى آخر نقطة وهي روبان، أخذنا مسافة 100 كلم.. فمن كل 10 كلومترات، توجد 10 سيارات للحلابة أي سيارة لكل 100 متر وهو عدد قليل، أحصينا 5 سيارات ذات الحجم المتوسط بخزان عادي وهو 100 لتر، أما الشاحنات 250 لتر. 5 سيارات بحمولة 90 لترا تعطي 450 لتر، في أربع مرات يوميا، تساوي 1800 لتر. 5 شحنات من فئة 200 لتر، تعطي 1000 لتر، إذا ضربت في أربع مرات يوميا، نحصل على 4000 لتر. 5800 لتر يوميا لعشر سيارات مضروبة في 10 أي 100 سيارة يوميا، ليصبح حجم الوقود المهرب باتجاه المغرب من جهة بني بوسعيد فقط يقدر ب 580.000 لتر يوميا!! إنه النزيف! أما شهريا، ودون احتساب أيام الخميس والجمعة، حيث اعتمدنا على 26 يوما، فالرقم جد مخيف ورهيب، ليصل 15.080.000.00 لتر شهريا!!.. أما سنويا، فالرقم "مدوّخ"، ويدفع للاستنفار 180.960.000.00 لتر !!!... غير أنه ما يجب الإشارة إليه هو أن الأرقام المقدمة لم تأخذ في الحسبان الجهة الشمالية المكونة من كل من السواني، باب العسة، مسيردة، مرسى بن مهيدي، وهي مناطق لا تقل أهمية عن بني بوسعيد والتي تنتشر بها العشرات من مستودعات تجميع الوقود وتهريبه، كما أن سعر المازوت الجزائري يباع هنا ب 04 دراهم للتر.. سعر المستهلك!!.. ومن الاكتشافات التي وقفت عليها "الشروق اليومي"، إعادة تهريب الوقود إلى إسبانيا عن طريق سبتة ومليلية!!!.. وتتكفل به قبيلة القلاعة العريقة في المغرب والتي تتخصص في التهريب نظرا لارتباطها بعائلات جزائرية سواء عن طريق الدم أو المصاهرة. فساد في البر والبحر.. أما هامش الربح المحقق من وراء عملية تسريب المازوت والبنزين إلى الضفة الأخرى، فالأرباح تعد خيالية وتذر يوميا الملايير تتحكم فيها "مافيا" استطاعت أن تشرك في شباكها الكل، ولم يفلت منها أحد!!.. إما الولاء، وإما البلاء.. بتدبير المكائد لكل من أراد تطبيق القانون خلاف ما سنّه "بارونات" التهريب!!. كواليس المهربين، تحكي العجائب بشأن ذلك!!:.. كيف استطاعوا نسج خيوط في أعلى مستويات هرم السلطة بتعين المسؤولين بالمناطق الحدودية، وهو ما ورد على لسان قادة هزيل في تصريح سابق ل "الشروق". وإذا كان حجم المازوت المهرب بالجهة الغربية، يقارب حجم نشاط ميناء أرزيو، فإنه يستقطب عددا غير قليل من المهربين. أما عن هويتهم، فقد اتضح أن أغلبية المهربين لم ينخرطوا في التهريب بحجة عدم العمل والبطالة، بل لتحقيق الربح السهل والكبير على حساب الاقتصاد الوطني. والغريب في الأمر، أن الكثير منهم يتبوؤون مناصب هامة!.. حتى أن البعض منهم اهتدى لاقتحام المناصب لولوج الانتخابات من البلدية إلى الهيئة التشريعية، علوها وأسفلها، بتوظيفهم لبطالين بالأجرة مهمتهم سياقة السيارات!!.. الأمثلة التي يسوقها أبناء المنطقة ويشيرون إليها "بالبنان"، أن مدينة مغنية استقطبت العديد من المواطنين من شتى ولايات الوطن وبشكل ملفت، الجهة الشرقية للوطن، مهمتهم التهريب بتخصص الوقود ليستثمروا أموالا تتمثل أساسا في سيارات "مرسيدس" من النوع القديم وسيارات نفعية ذات الحجم المتوسط، التي عادة ما تكون تحمل وثائق مزورة تم اقتناؤها من مختلف ربوع الوطن لتحشر في محور مغنية الضواحي. على المازوت نحيا.. وعليه نموت!! وعن هؤلاء الوافدين الجدد الذين استقروا في مساكن إما مؤجرة أو بشراء عقارات في قرى حدودية، فقد استغلوا ظروف انعدام ونقص الأمن، حيث تخلص العديد من السكان من سكناتهم بأثمان بخسة، وفي أحيان أخرى تم بناء سكنات فوضوية، كما هو الحال في قرية البخاتة المعروفة "بفيلاج ويت"، وقرى أخرى كمغاغة، سلامة، المعازيز، البطيم، بن كرامة، وباب العسة!! هذا على مستوى الشريط الحدودي!! كما انتشرت بالجهة ذاتها الفنادق بشكل ملفت بالرغم من انعدام أي معلم سياحي. ينقسم الحلابة إلى فئتين: فئة هواة يزاولون التهريب لتدعيم وضعهم الاقتصادي، وعادة ما يكونون من سلك التعليم!! وفئة المحترفين الذين لا شغل لهم إلا التهريب، وتخصصوا في ذلك وهم يشكلون مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية: معلمون، أئمة، منتخبون، أعوان أمن وهيئات نظامية، مؤسسات، قيادات محلية لأحزاب إسلامية ووطنية، مديرو المؤسسات التعليمية، نقابيون، أصحاب سيارات طاكسي والنقل الجماعي، خاصة المزودين بسير غاز!!.. وهي حالات كثيرة!!. الأغرب في كل هذا، أن هناك العديد من المغتربين من اكتشفوا الربح السريع، فأقبلوا هم أيضا على الاستثمار في هذا "النشاط الاقتصادي الوطني الدولي"، بتوظيف أقارب لهم!!.. الحالة التي وقفنا عليها، حالة أحد المغتربين صاحب مقهى على حافة الطريق الرابط بين تلمسان ومغنية، يملك 7 (رؤوس) شاحنات بدون مقطورات، تشتغل ليل نهار مغتنمة فرصة فتح إحدى محطات التوزيع الجديدة والتي معظم زبائنها من الحلابة الذين تربطهم علاقة وطيدة مع أصحاب المحطات نظير تلقيهم عمولات عن ذالك، ولا يتنقلون للتزود بالوقود إلا بعد تلقيهم اتصالا بالهاتف المحمول بوجود المادة ليلتحقوا في كوكبة واحدة صوب المنبع. ومن الفئات المنخرطة بقوة في عملية التهريب أنصار "عليها نحيا وعليها نموت" ( سابقا): فأصحاب اللحى والذين يرفعون شعار "لا حدود ولا سدود"، في إشارة منهم إلى الدولة المنشودة، أفتوا أن البزنس ليس حراما، بل أن البعض يراه "ليس ممنوعا" لتستهويهم دنانير تهريب الوقود وربما يقف المنع في المحظورات كالكيف أي "مش كيفكيف"!. حصيلة التهريب بعيدا عن الرؤوس الغلاظ فإذا كانت الجهات المعنية بمحاربة ظاهرة "الترباندو" بتلمسان، تكتفي بإصدار أرقام دورية عن طريق ندوات صحفية محلية، يصرح فيها عن كميات الوقود المحجوزة، فإنها لا تكاد تكشف مدى خطورة الوضع بالشريط الحدودي واستراتيجية المهربين الذين تمكّنوا من توسيع رقعتهم بالانتشار في أكثر من بؤرة من الولاية، بل وتعدته إلى خارج الولاية، مما يؤكد على أن قدرة التغلغل كبيرة لهؤلاء. تكفي الإشارة إلى أن السلطات قد فشلت في تطبيق التعليمة التي تقضي بنظام "الحصحصة".. "الكوطا"..! حيث تمكّن المهربون من كسر كل وجود للقانون، بالتظاهر أحيانا، وبإعلان حالة العصيان والتمرد تارة أخرى، بحجج ومطالب كإيفاد لجان من الشريط الحدودي للتفاوض مع وزارات شتى وهيئات عليا تحت شعار "إما التهريب وإما التخريب". والي الولاية الحالي السيد عبد الوهاب نوري ومنذ قدومه إلى الولاية، ما فتئ يقوم باتخاذ تدابير لمحاربة الظاهرة، وقد اغتنم منبر المجلس الشعبي الولائي ليعلن استياءه وتذمره من الظاهرة، واصفا المهربين بعديمي الضمير والوطنية ليستغرب بقاء المعنيين مكتوفي الأيدي !!.. كما أنه لم يُخف حسرته وتذمره من الحالة التي آلت إليها المناطق الحدودية، ليواصل نعت التهريب "بالطامة الكبرى" و"بالإرهاب الجديد"، غير أن يد الوالي، ظلت وحيدة لم تجد عصى من حديد ليبقى الوطن ينزف فيما المهربون في مأمن. وإذا كان هذا هو الحال في محاربة "الترباندو" ببلادنا، فإن الحال يختلف بالمملكة المغربية، بالرغم من أنها المستفيد من العملية. غير أن محاربة التهريب قد قطفت رؤوسا غلاظا، كما حدث مؤخرا بمدينة وجدة، حيث تم إسقاط والي الأمن بوجدة وهو ما يعادل عندنا مدير الأمن الولائي!.. وقد جاء إصدار قرار عزل والي الأمن بالمغرب إثر توقيف رجال الدرك لسيارة أمن وعلى متنها ضابط وعون أمن بحوزتهم مواد معدة للتهريب!!.. وهذا على مستوى تاوريريت. فسياسة غض الطرف عند الملك الشاب تبدو ممنوعة ولا محل لها من الإعراب، فالأخبار الواردة من الضفة الأخرى تفيد بتوقيفات في أعلى المستويات، كما هو الشأن في قضية تفكيك شبكة المتاجرة في المخدرات التي يديرها جنرال في القصر الملكي مكلف بالتشريفات. اعترافات "حلاب" تائب على غرار توبة الإرهابيين وعدولهم عن العمل المسلح بإشهار توبتهم، فإن للحلابة تائبين كثر!!.. غير أن توبتهم ليست وليدة صحوة ضمير، بل كل ما في الأمر أنهم عاشوا أحداث مرور مروعة أوشكت على هلاكهم أو أنهم كانوا شهود عيان لحوادث مميتة، كما هو حال الحلاب التائب السيد (عبد الرزاق. ب) عمره 57 سنة، الذي أرغمه البؤس و"الميزيرية" على ولوج عالم التهريب!!.. اقتنى سيارة قصد ذلك وراح "يشتغل" لمدة 05 أشهر، قبل أن يفتح عينيه ذات صباح باكر.. صباح ضبابي.. على حادث مرور فضيع.. أنعجنت فيه أكثر من 08 سيارات، كانت حصيلتها ثقيلة: 04 قتلى في عين المكان والجرحى يفوقون العشرة، بالإضافة إلى الخسائر المادية التي تمثلت في خراب معظم السيارات!!. عن هذا الحادث المروّع، يقول الشاهد التائب "إن الحادث سببه اثنان من الحلابة!!" ويومها.. أقسم بأن لا يستمر في مزاولة هذا العمل!!.. باع السيارة وترك "الحليب".. ليعتكف في بيته!!.. الفقر والبؤس ولا الموت بين الحديد والدم.. والمازوت!!