بقلم: ابن خلدون: IBN-KHALDOUN@MAKTOOB.COM دعوة القمة العربية للعراقيين إلى التوحد والمصالحة دون الإشارة لضرورة رحيل الاحتلال هو قفز على الحقائق. حقائق لم يتجاهلها الكونغرس الأمريكي نفسه، وكانت له الشجاعة لأن يطالب بالانسحاب من العراق، وهي الشجاعة التي خانت زعماءنا في الرياض. الحكمة القديمة القائلة: رحم الله امرئ عرف قدر نفسه، لم تعد كافية في هذا الزمان. فعلاوة على معرفتك قدرك نفسك عليك أن تلتزم بهذا القدر وألا تتعداه. لكن زعماء العرب الذين يعرفون قدر أنفسهم ومنذ زمان بعيد، يحاولون أن يوهموننا من خلال القمة العربية الأخيرة أنهم عقدوها لأن إسرائيل وأمريكا تستجديانهم للصفح عنهما وفتح صفحة جديدة معهما. فتكرموا عليهما بإعادة إحياء وبعث المبادرة العربية للسلام لعام 2002. رغم ما إحياء هذه المبادرة بعد خمس سنوات من وأدها من أمور تثير الشك والريبة. منذ زمان لم تعد القمم العربية تثير اهتمام المواطن العربي، وهذا لعجزها عن مواجهة القضايا المصيرية للأمة وإيجاد الحلول لها، نتيجة تآمر العواصم العربية والزعامات العربية على بعضها البعض. ولم يعد أي واحد من الكتاب والمحللين يجد في تلك القمم المادة الدسمة التي تستحق الكتابة. وأنا واحد ممن تجاهلوا قمتي بيروت والخرطوم الأخيرتين. لكن عندما تعقد قمة لأجل تحقيق مطلب أمريكي إسرائيلي، فهذا يهم المواطن العربي ويجب علينا نحن الكتابة. بل وتراني اليوم أكتب عن الموضوع وأصرخ: ها أنا قد كتبت فأين القراء !؟. الباحثون عن الإثارة لن يجدوا في قمة الرياض الأخيرة الشد والجدب بين أمير الكويت ومندوب العراق. ولم يجدوا فيها التلاسن الذي ميز القمة السابقة بين الملك عبد الله والعقيد القدافي. بل على العكس وجدوا فيها حرص كل الخطباء على تكرار ألقاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو، ليذكر كل خطيب أبناء هذه الأمة بقيمة ومقدار الزعامات المجتمعة في الرياض. كما أخذت عبارات الشكر لصاحب الجلالة ملك البلد المضيف حيزا كبيرا من الخطب ثناء على حسن الضيافة والاستقبال. حتى يخال للمرء كما قال أحد الكتاب أن ضيوف الرياض لم يذوقوا طعم الطبيخ منذ مدة ولم يحظوا بشرف الاستقبال. لهذا شكروا صاحب الدار على هذه المراسيم التي لم يعهدوها. في حين أن خزائن مال بلادهم تصرف الملايين يوميا لتقيم ! لهم مثل تلك المراسيم في المطارات والمدن وتحت الشرفات التي يطلون منها. وبعيدا عن المجاملات، وبعيدا عن المراسيم والبروتوكولات، وبعيدا عن البيان الختامي الذي بعث مبادرة السلام التي تبنتها قمة بيروت عام 2002، لكن بشكل يسهل الالتفاف عليها. وبعيدا عن اللقاءات المنتظرة أو المتفق عليها بين عباس وأولمرت برعاية أمريكية والتي ستوحي لنا لفترة من الزمن بأن القضية الفلسطينية على طريق الحل. بعيدا عن كل هذا لنا أن نتساءل بكل موضوعية: هل تجلى من خلال قمة الرياض – وقد يكون من الجائز تعميم السؤال على الثمانية عشر قمة التي سبقتها أن للعرب رؤية واضحة لمستقبل الأجيال القادمة في المنطقة العربية؟. فالعرب الذين اختاروا لقمتهم شعارا هو " قمة التضامن العربي " ربما لا يدرون أن هذا الشعار في حد ذاته يفرض الإجابة على السؤال: التضامن مع من وضد من ؟ وقد أجاب من هم في شك مريب: أما التضامن مع من، فهو مع الرئيس بوش الذي هو في أمس الحاجة إلى من يمد له يد العون والمساعدة. أما التضامن ضد من، فلم تتوضح الرؤية بعد. وستكشف الأيام عن جديد هذا الضد ومن يكون. والمؤكد أنه سيكون إما من الأخوة أو من أبناء العمومة على أبعد تقدير. وأيا كان هذا الجديد فإن ما يلوح في الأفق هو اتساع ثقب الأوزون السياسي العربي، بشكل يجعلنا عرضة لكل الأخطار، ويجعلنا نحذر بالقول: اشهدي يا سماء واكتبن يا وجود عن أمة العرب: اشهدي يا سماء أن العرب عقدوا قمتهم بعد أن خاطبتهم وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في 25/03/2007 أمام أعضاء لجنة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بالقول: " لا تنتظروا أن يأتي السلام قبل أن تطبعوا العلاقات معنا " ومعنى هذا أن التطبيع صار هو طريق السلام وليس السلام طريقا للتطبيع. أما كيف وصلت إسرائيل إلى تحقيق ذلك وتجاوز مسألة الانسحاب إلى حدود 67 ، وتجاوز مسألة إقامة دولة فلسطين المستقلة، وتجاوز القرار الأممي رقم 194 لحل قضية اللاجئين، فالعرب أنفسهم هم من حقق لها هذا الموقع السياسي المريح والقوي. والدليل أنهم التزموا الصمت حيال تصريحات الوزيرة، التي يموت في حسنها بعض العرب... نقول: اشهدي يا سماء أن قمة الرياض ستدخل التاريخ كقمة تشريع التطبيع بزعامة سعودية ، بعد تخلي مصر الطوعي عن الريادة التي حملت لواءها منذ أيام كامب ديفيد، وبعد تحييد العراق نهائيا، وبعد انتهاء الدور السوري واختصاره إلى مجرد السعي الحثيث لتجنب العزلة الدولية. واشهدي يا سماء أن هذه الريادة من خلال (اللقمة الرياضية) كما سماها البعض بدل قمة الرياض، هي هبة أمريكية في مقابلها ستجني واشنطن الغطاء السني العربي والإسلامي في حال توجيه ضربة محتملة لإيران. واشهدي يا سماء أن قمة الرياض أعادت التأكيد بشكل يصل حد التوسل على خيار السلام في العلاقة مع إسرائيل دون أن يجيب العرب على السؤال: ألم يتفاوض الفلسطينيون مع إسرائيل طويلا، وغيروا لأجلها ثوابتهم، وتنازلوا عن أجزاء من أرضهم، ورضوا بدولة مقطعة الأوصال. فهل وصلوا بعد كل هذا إلى حل؟. بل أن الملف الفلسطيني الشائك أصبح أسهل الملفات دون أن يتحقق شيء. ويعود ذلك إلى أمرين أساسيين، الأول: تحول القضية الفلسطينية برمتها وبمساهمة عربية إلى مسألة كسر الحصار عن الحكومة، وكيفية استئناف ضخ المساعدات العربية والدولية لموظفي السلطة. وقد وقعت حكومة حركة حماس في هذه المصيدة، المعدة بعناية من قبل الولاياتالمتحدة وإسرائيل وبعض الدول العربية. والثاني: اتفاق محور المعتدلين ! العرب على التضحية بهذه القضية وتقديم تنازلات كبيرة بشأنها، من أجل الدخول في شراكة أمنية وعسكرية مع الدولة العبرية لخوض حرب مشتركة للتخلص من التهديد النووي الإيراني. بعد كل هذا ألا يمكننا أن نقول للوجود: اكتبن يا وجود (وقد أضيفت نون التوكيد لفعل أكتب) أن بوش الذي لم ينجح على الجبهة العسكرية نجح في اختراق الجبهة السياسية العربية، أو قل نجح في تحقيق ما يرى فيه مساعدة حقيقية في أن ينجح. ومقياس النجاح يتمثل في تغيير ميزان القوى الانتخابي والسياسي بما يبقي البيت الأبيض جمهوريا بعد مغادرة الرئيس بوش له. بكلمة أخرى فإن الحملة الانتخابية للرئاسة ال! أمريكية انطلقت من الرياض. واكتبن يا وجود بأنه مثلما غيرت قمة القاهرة في أوت 1990 وجه المنطقة وأغرقتها في الفوضى والحروب الأهلية وأدخلتها نطاق الهيمنة الأمريكية، ها هي قمة الرياض تكرس تلك الهيمنة في ظل تقسيم العالم الإسلامي إلى معسكرين أحدهما سني والآخر شيعي. واكتبن يا وجود أن القمة العربية صمتت صمتا لئيما عن المطالبة في بيانها الختامي بانسحاب الاحتلال الأمريكي من العراق باعتباره منطلق الطائفية والاحتراب الداخلي. فقد قفزت القمة على حقيقة كون عمليات العنف الطائفي في العراق لا تمثل إلا نسبة ضئيلة، وأن تضخيمها والحديث المبالغ عنها هدفه إضفاء المشروعية على الاحتلال الذي تستهدفه المقاومة المسلحة التي تشكلت وتوسعت لأنها ترفض الاحتلال وتطالب بانسحابه. لكن دعوة القمة العربية للعراقيين إلى التوحد والمصالحة دون الإشارة لضرورة رحيل الاحتلال هو قفز على الحقائق. حقائق لم يتجاهلها الكونغرس الأمريكي نفسه، وكانت له الشجاعة لأن يطالب بالانسحاب من العراق، وهي الشجاعة التي خانت زعماءنا في الرياض. كان الأجدر بهؤلاء الزعماء أن يفعلوا قبيل البيان الختامي ما فعله الممثل ميل غيبسون صاحب فيلم آلام المسيح الذي شرب الخمر حتى الثمالة ثم قاد سيارته. فلما ضبطته الشرطة على تلك الحال قال لهم: " اليهود مسؤولون عن جميع حروب العالم ". لقد أعطت الخمرة لغيبسون جرعة من الشجاعة لم يكن ليقدر عليها لو لم يكن سكرانا. ولو سكر الزعماء العرب في الرياض حتى الثمالة، أو "خبطوها" كما نقول بالعامية لكانت لهم ربما نفس جرعة الشجاعة ليفرغوها في البيان الختامي. ولو فعلوها لوجدوا من صفوة العلماء من يفتي لهم بجواز شرب الخمر في بلاد الحرمين ما دام ذلك يخدم قضية. وبما أن ثواب شرب الخمر قد فاتهم، ونقمة شعوبهم ما زالت تلاحقهم. بدليل ما نشر على الانترنت من سبر للآراء يقول أن 87,71% من المستجوبين يرون أن قمة العرب ستقدم تنازلات جديدة بخصوص القضية الفلسطينية، في مقابل 14,29% يرون أن العرب سيلتزمون بالثبات بالمبادرة العربية في مقابل 00% من يرون أن الموقف العربي سيتوجه نحو الراديكالية تجاه أمريكا وإسرائيل. لهذا لا مناص لنا من البحث عن مغنم لزعمائنا من وراء ذهابهم إلى أرض الحرمين، وقد وجدتها. فبالإمكان اعتبار الرحلة حجا مبرورا. وقد نقول: اشهدي يا سماء واكتبن يا وجود أن زعماء العرب قاموا دعما لوحدة الصف العربي بالحج في وقت واحد، على أن يسجل ذلك التفرد في كتاب غينيس. أما القائلون بأن وقت الحج قد فات فهم يحاولون أن يف! سدوا على زعاماتنا ثواب الأجر. فالحج أشهر معلومات كما جاء في القرآن الكريم. وهذه الأشهر أربعة من أول ذي الحجة إلى نهاية ربيع الأول. وما دمنا في هذا الشهر الأخير فيمكن أن تحسب لزعمائنا حجة. فألف مبروك لهم ولنا وعاشت فلسطين بدون أن نتجرأ على القول حرة أبية...