بقلم: ابن خلدون: IBN-KHALDOUN@MAKTOOB.COM ولي أن أتمنى على أي زعيم عربي مكتوب في شهادة ميلاده أنه ذكر أن يطلع على الأمة ليستنكر تحويل زعمائها إلى أضاحي العيد. أما الحكم على صدام كشخص ومن حاكموه فنترك ذلك للتاريخ، الذي لا بد أن نعطيه فترة راحة قبل أن نكتب أحداثه. اعتقلوه بطريقة مهينة، وأعدموه بطريقة أكثر إهانة. طلب أن يعدم رميا بالرصاص باعتباره عسكريا فأعدم شنقا. طالب أهله بأن يدفن في الرمادي فدفن في العوجة. تم النطق بالحكم عليه بالإعدام في يوم أحد، رغم أن المحكمة لم تعقد جلسة لها في يوم أحد على الإطلاق. تم الإعلان عن حكم الإعدام على لسان مستشار الأمن القومي موفق الربيعي، وأبسط الناس يمكنه أن يسأل: ما علاقة الربيعي بالسلطة القضائية، وبأي صفة تولى هذه المهمة؟. حتى الحبل الذي شنق به قيل أن القوات الأمريكية وجدته في أبو غريب، وطلبت استعماله في شنق صدام. ورغم كل هذا قيل أن محاكمة صدام حسين كانت عادلة وإعدامه تتويج لعدالة تلك المحاكمة..! لو كنت رئيس محكمة لربما سلطت عقوبة الإعدام على صدام بالنظر لما يقال عن جرائمه المختلفة. فقد قتل من أهله وأقاربه ورفقاء دربه وحزبه الكثير. أعدم العديد من رعاياه في محاكمات صورية أو دون محاكمة. قتل العلماء سواء كانوا شيعة أو سنة. زج بشعبه في حروب لا طائل من ورائها. كنت سأحكم على صدام بالإعدام كقاضي مستقل يؤمن بالعدالة التي تقتص من الظالم وتنصف المظلوم. أما أن تكون هذه العدالة في خدمة مصالح المستعمر وتخدم الأجندة السياسية لساسة الاستعمار، فمهما كانت عدالة الحكم فهو حكم مرفوض وغير عادل. محاكمة صدام لم تكن عادلة. ولو كانت كذلك لما استقال القاضي الأول رزكار محمد أمين، الذي اختار أن ينأى بنفسه وبسمعته قبل أن تتلوث بقرار سياسي هو نتيجة الإملاءات الأمريكية والتبعية العمياء للحكومة العراقية. لكن الذي يعتقد أن أمريكا وأزلامها في العراق قد حاكموا صدام لأنه ديكتاتور فهو واهم. أمريكا حاكمت صدام لأنه رفض أن يساوم على ثوابته القومية العربية، ولأنه رفض الانجرار إلى العملية السياسية الشرق أوسطية، ولأنه رفض توطين الفلسطينيين في شمال العراق، ولأنه قصف تل أبيب بالصواريخ. ولأنه ولأنه ... فهناك الكثير مما لا يتسع المجال لذكره في هذه العجالة. أما مسألة الديمقراطية والديكتاتورية فصدام حسين نفسه لم يزعم يوما أنه أبو الديمقراطية، ولا يمكن لأي حاكم عربي أن يدعي ذلك إلى اليوم. لقد تم احتلال العراق على أرضية قرار مجلس الأمن الدولي على خلفية امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، ثم ثبت لاحقا عدم وجودها وهذا ما جعل الاحتلال غير شرعي وما يصدر عنه باطل. ولأن أمريكا حين تشعر بأن مشروعا لها قد أخفق لا تتواني في تغيير أساليبها فإنها رأت أنه من غير المجدي محاكمة صدام على موضوع أسلحة الدمار الشامل، ووجهت المحاكمة ظاهريا نحو ديكتاتورية النظام، وهي تهمة سهل إثباتها. فكانت قضية الدجيل التي تعود أحداثها إلى عام 1982 حينما تعرض موكبه لإطلاق نار. ولنا أن نسأل ماذا عساه أي رئيس دولة أن يفعل حين يتعرض موكبه لإطلاق نار من عناصر متواطئة مع دولة أجنبية هي في حالة حرب مع البلد؟. الرئيس الحالي جلال الطالباني تعرض موكبه لإطلاق نار جنوب كركوك. ورغم أنه لم يكن ضمن الموكب إلا أن أتباعه يفتخرون بمقتل 17 ممن أطلقوا النار. ولو كان ضم! ن الموكب لربما كانت الحصيلة أكبر واعنف، ولكانت هناك ملاحقات ومتابعات. فلماذا لا يحاكم الطالباني على مقتل هؤلاء؟. والحكومة الحالية تسحق اليوم مدنا بكاملها تحت حجة وقف أعمال العنف والمقاومة ضدها فهل ستحاكم مستقبلا على أعمالها. أم أن القانون العراقي الجديد المدعوم أمريكيا يعاقب بالإعدام فقط من يتعرض للانقلابيين..! وإذا كان العراقيون يرتكبون اليوم وفي ظل الديمقراطية المزعومة بحق بعضهم البعض أبشع الجرائم فلماذا يلام نظام صدام على ما كان يرتكب في ظله من جرائم؟. نعم حكم صدام حسين كان قاسيا شأنه شأن حكم عبد الناصر وبومدين وحافظ الأسد وغيرهم. وهم جيل من الحكام العرب الذين عايشوا النكسات العربية، وتحملوا وزر إنجاح مشروع الاستقلال الوطني، وتطبيق إيديولوجيات أكبر من تكوينهم السياسي. فهم عادة نتاج بيئات فقيرة قليلة التكوين. ورغم هذا تبنوا الأهداف الكبرى للأمة. هؤلاء الحكام لم يفسحوا المجال للرأي الآخر، لأنهم لم يكونوا يؤمنون أن لديهم الوقت للاستماع للطرف الآخر. ولو كان واحدا من الزعماء الذين أتينا على ذكرهم حيا لحاكمته أمريكا اليوم بنفس التهم التي لاحقت بها صدام حسين. رغم أن أي واحد منهم لم يخدع شعبه ويقول له أنه هيأ له جمهورية أفلاطون، أو واحة الديمقراطية. بل كل واحد منهم أعطى الانطباع أن إدارة بلاده كانت ولا تزال تتطلب سلطات فردية صارمة، وأحيانا مطلقة. وهي سلطات صار يتوق إليها الشارع العربي ! في ظل غياب سلطة قوية تحكم بلاد العرب. ولنا نحن الجزائريون في ذلك خير مثال، حين نجد منا من يتوق إلى اليوم إلى مثل تلك السلطة القوية حينما يتحدثون عن فترة حكم الرئيس الراحل هواري بومدين، رغم اقتناعهم بأنها فترة لا يمكن وصفها بالديمقراطية. قد يقول قائل، وهو على حق فيما يقول، ليس من المعقول أن تذهب الدماء والمعاناة في عهد صدام دون حساب. إن من لا يقبل بمحاكمة صدام وتنفيذ الحكم به يكون راغبا في العودة إلى الحقب المظلمة من تاريخنا السياسي المعاصر. لكن لنا أن نسأل كما تساءل الكاتب العراقي المعروف علي الصراف الذي يقيم في لندن، وكان معارضا لنظام صدام لكنه أنصفه في كتاباته الأخيرة. يقول الصراف: أيهما أقرب للثقافة العربية والإسلامية، أن يكون الرئيس العراقي تجسيدا لسلطة هارون الرشيد المطلقة، أم تجسيدا لسلطة برلمان أثينا؟. وعلى ضوء هذا يضيف قائلا: بأي معنى ووفقا لأي نموذج، وما هو الأساس المرجعي الذي يجيز لمحكمة جاءت من زمن ما بعد العولمة، أن تحاكم هارون الرشيد على ما كان يفعل في مجلسه؟. بكلمة أخرى محكمة تجرؤ على أن تحاكم رئيسا بقانون تم سنه بعد وقوع الجريمة.! ولكن دعاة قانون ما بعد الجريمة صاروا كثيرين، وحاكموا صدام وأعدموه، وفرحوا لإعدامه وراحوا يطبلون ويقفزون قفز القرود التي فتح لها القفص. فهذا النائب عن الكتلة الصدرية بهاء الأعرجي طالب بأن يكون إعدام صدام عيدية (هدية العيد) للعراقيين. واقترح أن يتم نقل عملية الإعدام مباشرة عبر الفضائيات ليكون صدام عبرة لمن يعتبر. وفي هذا الكلام رسالة مبطنة لكل الحكام العرب. لكن الغريب في هؤلاء الحكام هو صمتهم المشين. لقد انتقد العالم أجمع طريقة محاكمة صدام، وانتقد طريقة إدانته، وتوقيت إعدامه، وأخيرا عملية الإعدام ذاتها. إلا الحكام العرب لزموا صمت القبور. وكأن صدام لم تكن له مواقف قومية، ولم يقف إلى جانب الكثير من القيادات العربية الحالية. صدام يعترف له الأمريكيون أنفسهم أنه لم يساوم على مبادئه سواء أثناء الحصار أو الغزو أو حتى بعد الأسر والمحاكمة. ولي أن أتمنى على أي زعيم عربي مكتوب في شهادة ميلاده أنه ذكر أن يطلع على الأمة ليستنكر تحويل زعمائها إلى أضاحي العيد. أما الحكم على صدام كشخص ومن حاكموه فنترك ذلك للتاريخ، الذي لا بد أن نعطيه فترة راحة قبل أن نكتب أحداثه. لكن المؤكد أن هذا التاريخ سيكتب يوما عن إعدام صدام كما كتب عن إعدام سقراط. فقد حكمت محكمة الشعب وكانت مكونة من 501 قاضيا على سقراط بالموت! ، لكن هؤلاء القضاة لم يدخلوا التاريخ بحكمهم الجائر. بل لفظهم التاريخ فلا نكاد اليوم نذكر اسم واحد منهم، بينما يظل اسم سقراط يملأ التاريخ. وأظن أن ذلك سيتكرر مع صدام وقضاته..! فقد رأينا الرجل في الفترة الأخيرة أثناء محاكمته أن مواقفه تستحق الاحترام.. والأعمال بخواتمها كما يقولون. وليذهب الذين هللوا لإعدامه إلى الجحيم. وفي هذين البيتين اللذين يحلو للبعض نسبتهما إلى صدام نفسه خير عبرة: لا تأسفن على غدر الزمان لطالما *** رقصت على جثث الأسود كلاب لا تحسبن برقصها تعلوا على أسيادها *** تبقى الأسود أسودا والكلاب كلاب