يقال أن الإنسان ابن بيئته، وهاهي القاصة الجزائرية زينة بورويسة تؤكد لنا أن شخصيتها الأدبية تبلورت من تلاقح بيئتيها الطبيعية والبشرية التي ترعرعت فيهما، والمطلع على أعمالها خاصة بواكيرها، يجد أن مضامينها تمزج بين الخيال والواقع لتتدرج بوعي ونضج يتنامى إلى الغوص في أعماق النفس البشرية، وبأسلوبها المتفرد تخلق متعة تقييد التجارب الإنسانية والوقوف على حياة الناس في مجتمعها، واضعة أصبعها على مواضع جراحهم وبؤر مشاكلهم. وتقول زينة أنّها تعالج الكثير من ألمها بقلمها وتعتبر الكتابة رئة الروح، لأنها أحيانا تتأثر بقصص لا تشفى منها إلا إذا باحت بها للورق، بهذه السطور القليلة نطرق باب الفضول لمعرفة الكثير عن هذه القاصة الشابة التي فتحت لنا قلبها وأجابت على أسئلتنا في الحوار التالي: بداية لو طلبنا منك إفادتنا بلمحة تعريفية عن شخصك فبماذا ستجودين؟ زينة بورويسة قاصّة جزائرية من مواليد 1986 بولاية ميلة، حاصلة على شهادة الماجيستير في شعبة الأدب واللغويات من المدرسة العليا للأساتذة بولاية قسنطينة، ثم شهادة الدكتوراه في اللغويات من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة بتقدير مشرف جدا وبتزكية اللجنة المناقشة. شغلت عدة مناصب مهنية بداية أستاذة متوسط برتبة أستاذ رئيس لمدة ثمان سنوات، ثم أستاذة بالمعهد الوطني لتكوين مستخدمي التربية بورقلة، ومن جهة أخرى أزاول التدريس الجامعي كأستاذة متعاقدة بعدة جامعات منها جامعة الأمير عبد القادر مقياس البلاغة العربية، والمركز الجامعي بولاية ميلة مقياس تحليل الخطاب، والمدرسة العليا للأساتذة بورقلة. لي بعض الأعمال قمت بنشرها والبعض الآخر قيد التحضير، حيث نشرت كتاب الدلالة الصوتية في سورة مريم الجزء الأول، دلالة الأصوات التركيبية صادر عن دار الآفاق العربية القاهرة ط1- 2014 نشرت مجموعة قصصية أوحال الوجع )وجع أنثى( دار الأوطان الجزائر العاصمة 2015 استطعت بفضل الله وعونه أن أفتكّ جائزة نازك الملائكة للإبداع الأدبي في فئة القصة القصيرة العراق أكتوبر 2014 وشاركت في عدة ملتقيات وطنية ودولية متمحورة حول اللغة العربية والتراث الأدبي والتاريخي. مؤخرا لاحظنا عودة لافتة للقصة القصيرة برأيك هل الكتابة في هذا الفن الأدبي تدل على نجاحه في استقطاب القارئ؟ وما معايير تقييم القصة القصيرة؟ يصف النقاد القصة القصيرة بالرصاصة التي تصيب الهدف مباشرة، من خلال تكثيف المعنى وتوجيه القاص لكل طاقته الإبداعية إلى هدف محدّد وسريع، ليصيبه من خلال القصة التي تعتمد على بروز شخصية واحدة وموضوع واحد. ولعل هذه الخصائص تجعلها الأنسب لهذا العصر السريع في أحداثه، الكثير في مشاكله وانشغالاته، والكثيف حتى في كتاباته الأدبية، فأمام الوقت الذي أصبح أسرع شيء في حياة القارئ، أصبح من اللازم الاعتماد على القصة القصيرة في توصيل أفكار معيّنة أو التعبير أن أحاسيس إنسان هذا العصر، خاصة وأنّ نسبة القراءة في تراجع مستمر اليوم بسبب التقدم التكنولوجي. ولكن رغم كل ما قلته سابقا، ومن خلال متابعتي للمشهد الثقافي في الجزائر مثلا، أظن أنّ الرواية لازالت تأخذ مكانة كبيرة، وربما يقول الكثير من المتابعين أنّ الرواية تحتل المرتبة الأولى، متفوقة بذلك على القصة. أمّا عن معايير تقييم القصّة، فلا أرى نفسي مؤهلة للإجابة عنه بالمستوى الذي سيقدّمه النقاد، ولكن دعيني أشير إلى نقطتين أعتبر الاهتمام بهما أساسيا في نجاح القصة القصيرة، الأولى تتعلّق بالفكرة التي أفضّلها جديدة وعميقة تلامس الإنسان من الداخل وتعكس الرؤية الفكرية للقاص، والثانية تتعلق باللغة التي لا يكفي أن تكون سليمة في بنائها النحوي والصرفي، بل لابد أن تكون لغة فنية غنية بجمال الوصف والسرد. ممّ تستوحين مضامين قصصك؟ مضامين قصصي كلّها مستمدة من الواقع الذي يعيشه المجتمع الجزائري. وإذا تحدثنا عن قصص مجموعتي "أوحال الوجع"، فهي أوجاع المرأة، وكل أحداثها انعكاس لواقعي وواقع صديقاتي وزميلاتي في العمل. لقد مررت بمراحل مسّني الوجع فيها إلى الحدّ الذي وجدت نفسي أحمل القلم واكتب، لأرمّم مواجعي، ومواجع المرأة. ولذلك ففعل الكتابة بالنسبة لي هو بحث عن متنفس افتقدته في الواقع، ومحاولة لسدّ الفراغ الروحي الذي يخلّفه الوجع، وهي في نفس الوقت محاصرة للأوجاع لمنعها من الزحف على كامل تفاصيل حياتي. لمن تقرأ زينة؟ ومن هو أو من هم ملهموها في الأدب العربي؟ لمن أقرأ؟ في الحقيقة اقرأ للجميع، من أشهر الأسماء، إلى أصحاب التجارب الأولى. ولا يمكنني القول أنّني أحب كتابات شخص ما. في العادة أتأثر بالعمل لا بصاحبه، فقد أعجب بعمل أدبي ما ولا أعجب بآخر رغم أنهما لنفس الكاتب. فقد سبق لي مثلا أن عشقت مجموعة فضيلة الفاروق "لحظة لاختلاس الحب"، ورغم أنني اقتنيتها منذ عشر سنوات إلا أنني لازلت أحب قراءتها، لأجد في كل مرة لذة لم أجدها من قبل. وعندما بحثت عن لذة مشابهة في باق أعمالها لم أعثر عليها. وهذا ليس انتقاصا من قيمة كتاباتها، ولكن رفعا لشأن التفاعل الحاصل بين العمل الأدبي و القارئ، وقصتي مع "لحظة لاختلاس الحب" قصة عشق مبكّر. في نفس الوقت لا أنكر إعجابي بالأعمال المثقفة التي تحوي بين سطورها ثقافة تاريخية واجتماعية عالية، وتعكس مستويات فكرية رفيعة. من هو القاص البارع الذي استطاع أن يؤطر لفنّ القصة القصيرة في الأدب العربي؟ لا يمكنني الانتصار لاسم من الأسماء، أحسب أنّ القصة القصيرة قد استفادت من مختلف التجارب، و أحسب أن جهود الكتّاب تراكمية و تتضافر للتأسيس لأبجديات كتابة القصة القصيرة. مأساة المثقف كما يقال هي الإعلام التّجاري والبروغاباندا اللذان يصنعان أسماء لا تملك أدنى مقوّمات الإبداع والتميّز وأخرى تبيع شرف الكلمة مقابل الظّهور، هل ترين أن وسائل التواصل الاجتماعي قد وجّهت طعنة في خاصرة هذا النوع من الإعلام واستطاعت أن تعبّد الطريق للكاتب الكفء لكي يوصل رسالته وإبداعه لجمهور القراء؟ لا يختلف اثنان في أنّ وسائل التواصل الاجتماعي قد سدّت الثغرات المهولة التي خلّفها غياب الإعلام الرسمي المهمّش للمشهد الثقافي، والدليل على ذلك هذا التفاعل الكبير الحاصل بين الأدباء والشعراء وتبادلهم الأفكار والتجارب وحتى الدعوات عبر صفحات الفايسبوك. ولكنها بالمقابل، أي وسائل التواصل الاجتماعي، سمحت للجميع بالكتابة بعيدا عن غياب الرقابة النقدية، وهذا ما أخرج لنا للأسف الشديد جيوشا من المتطفلين على الأدب، وخربشات بعيدة كل البعد عن معايير الكتابة الأدبية. إلى أي حد كسر الأدب النسوي الطابوهات الإجتماعية؟ دخول الأسماء النسوية عالم الكتابة الأدبية، من خلال نشر أعمالها وحضور الملتقيات والأمسيات الأدبية، هو في حدّ ذاته مكسب لا يستهان به، فإلى وقت قريب لم يكن المجتمع الجزائري يتقبّل حضور المرأة في المشهد الأدبي، والسبب مخلفات اجتماعية، ومرجعيات دينية خاطئة. أمّا تعرّض الأديبات للطابوهات الاجتماعية فأحسبه ضئيلا، والأسماء التي غامرت في الموضوع قليلة، وحادت في أغلب الأحيان عن هدف كسر الطابوهات. وللأسف أصبح عرض هذه الممنوعات في الأدب وسيلة للفت الانتباه وإحداث الهزة الاجتماعية التي سرعان ما تزول بعدما تكون قد حفرت أسماء أصحابها في ذاكرة الإعلام، دون أن تكون قد حقّقت هدفا ساميا. من خلال مرافعاتك في بعض المقالات عمّا تكتبه المرأة العربية أو ما تسمينه بالأدب النسوي هل نفهم أنك تصنفين الأدب وتقبلين بتجزيئه إلى أدب نسوي وأدب ذكوري؟ وهل هناك عراقيل ذكورية لمسارك؟ في الحقيقة الأدب إبداع، والإبداع لا جنس له. وأمّا استعمالي لمصطلح الأدب النسوي هو تمييز لا أكثر، ولا أقصد به وجود أدب للنساء له مميّزات فنية معينة. أبدا؟؟ فالأدب إنساني دائما. لا أعترف بالأدب النسوي، إنما استعملته للإشارة إلى فعل الكتابة، فتقبّل المجتمع لفعل الكتابة الذي تمارسه المرأة يختلف تماما عن الذي يمارسه الرجل، حتى الاحتفاء بالعمل الأدبي يبرز هذه الحقيقة المرّة، ويكفي الحضور لملتقى أدبي جزائري لتستشعر ذلك. أمّا العراقيل الذكورية، فللأسف موجودة، وبكثرة، وباختصار بعض المهيمنين على المشهد الأدبي من الرجال لا يقبلون حضور المرأة في التظاهرات الأدبية إلا بالشروط التي يحدّدونها هم؟ هذا على الأقل من تجربتي ولا أريد التعميم. ما الذي يدفع الإنسان إلى ترك وطنه والتضحية بهوية أبنائه؟ هل من إجابة وجدتها زينة على هذا السؤال الذي كان إشكالية قصّتك الموسومة ب "أوقفوا المزاد"؟ للأسف، كثير من أبناء هذا الوطن مقتنعون بوجود أسباب للهجرة، وأنا واحدة منهم. الهجرة سببها الرئيس التهميش الذي نعيشه في وطننا. ولكنني أقاوم نفسي، كما يفعل عدد كبير من أبناء الوطن، وأعيش على أمل التغيير. وسأكون أسعد الناس إن بقيت في وطني وأتاح لي فرصة خدمته، لأخدمه كما خدمني. كل الناس تحلم بالعيش مستقرة في أوطانها، ولن يكون حلم الهجرة سوى بديل عن جرح عميق يلاحق الإنسان في وطنه. الكتابة تتعدى غالبا التعبير عن النفس إلى خلق مفاهيم جديدة للأشياء، هل تظنين أنّه من خلال ما كتبته عن تجربة الاغتراب في قصتك "أوقفوا المزاد" أعطيت لمعنى الهجرة مفهوما جديدا يحتوي مفهوم الهوية ويتعدّاه إلى تشكيل وعي ذاتي؟ في قصة "أوقفوا المزاد" حاولت أن أفتح ملف هجرة الأدمغة من زاوية أخرى، وهي زاوية البطلة "المهاجرة" والصراع الداخلي الذي تعيشه، بعدما وجدت نفسها قد تحوّلت إلى آلة تفتقد الروح والهوية. كلنا نظن أنّ الوطن بحاجة إلى تلك العقول التي سافرت وتركته يبكيها في صمت، ولكنني من خلال القصة حاولت أن أنقل الجرح من الجانب الآخر، فالإنسان دائما يحتاج إلى الوطن. والخروج منه، والتنصل من هويته، هو ضياع لن ينتهي إلّا بالعودة. حدثينا عن تتويجك بجائزة جائزة نازك الملائكة انطباعك سبب التتويج حسب آراء النقاد وحال الوجع مجموعة قصصية فوزي بجائزة نازك الملائكة كان حدثا غيّر الكثير من الأمور في حياتي، ليس لاقتران اسمي باسمين عظيمين "نازك الملائكة" و"بغداد" فحسب، بل لأنّ النص الفائز هو أوّل نص أخرجته للقرّاء. ومن جهة أخرى، فإنّ زيارة بغداد كان حدثا كبيرا في حياتي، وتعلّمت في الأيام القليلة التي قضيتها هناك أشياء كثيرة، لعلّ أقلّها حبّ الجمال. العراقيون شعب يتنفس الجمال، في الأدب، في القصائد والمواويل، في الكلام وترتيب الهيئة.. وكل شيء. أمّا عن أسباب فوز القصة فقد أثنى أحد أعضاء لجنة التحكيم الذين اِلتقيت بهم على عرض موضوع هجرة الأدمغة بأسلوب جديد، ولغة سردية متقنة. وفوزي بهذه الجائزة هو ما شجّعني على إصدار مجموعتي القصصية "أوحال الوجع. وجع أنثى". وأسعد اللحظات بالنسبة لي عندما أتلقّى اتصالا أو رسالة من قارئة تقول فيها: "وجدت نفسي في القصة الفلانية، البطلة تشبهني.. مثل هذه الردود تشعرني بالوصول إلى هدفي وهو ترميم أوجاع الآخرين."