يؤكد المؤرخ مصطفى نويصر، في هذا اللقاء مع "الشروق العربي"، أن المطالب البربرية في الجزائر منحصرة جغرافيا في منطقة القبائل وحدها، دون غيرها من بقية المناطق البربرية الأخرى، مؤكدا أن من حق أي جزائري أن يدلي بدلوه في هذه القضية، بما في ذلك نعيمة صالحي، كما أكد الدكتور نويصر على أن العلم البربري الذي يرفعه البعض اليوم قد صممه اليهودي "جاك بينيت"، وأن إعلان السلطات عندنا عن إنشاء أكاديمية اللغة الأمازيغية مؤخرا من غير المرجح أن تخرج عن البرنامج الذي كرسه الكونغرس الأمازيغي العالمي.. وغيرها من القضايا التي تطرق إليها الدكتور استنادا إلى بحوثه التاريخية الأكاديمية.. كيف تقيمون الحملة الشرسة على نعميه صالحي في أعقاب إعلان موقفها الرافض لترسيم الأمازيغية؟ بداية، السيدة نعيمة صالحي عبرت عن رأيها كمواطنة جزائرية وكمسؤولة حزب في قضية وطنية شغلت الرأي العام، وهي لم ترفض ترسيم اللغة الأمازيغية، بل رفضت ترسيم اللهجة القبائلية المفرنسة كلغة وطنية ثانية على حساب بقية اللهجات الأخرى. كيف بدأت مشكلة البربرية في الجزائر تاريخيا وهل فرنسا فعلا من زرعت هذا المشكل لأهداف خاصة؟ قبل 1830، لم يكن الجزائريين يعرفون شيئا اسمه البربرية، وكما هو معروف لدى جميع المؤرخين والمهتمين بالتاريخ، فإن الفترة ما بين الفتح الإسلامي لبلاد المغرب في القرن السابع الميلادي وأواسط القرن التاسع عشر كانت بحق فترة انسجام وانصهار تام بين السكان، سواء كانوا يتكلمون بالعربية أو بمختلف اللهجات البربرية، بوصفهم شعبا واحدا عاش طوال هذه الفترة في انسجام تام ومقتنعا بحضارته العربية الإسلامية ولغته العربية وانتمائه إلى أمته دون أي عقدة أو مشكلة، لكن هذا الانسجام لم يستمر، حيث بدأت الأمور تتغير بعد وصول الفرنسيين إلى الجزائر وبدأوا سياسة جديدة تتمثل في التمييز بين الناطقين باللغة العربية والناطقين بالبربرية وفق نظرية فرق تسد الشهيرة، وقد فضح الباحثان التقدميان "فيليب لوكا" و"جون كلود فاتان" في كتابهما "جزائر الأنتربولوجيين" هذه السياسة بالتفاصيل الدقيقة.. وهناك عشرات الكتب أيضا التي تطرقت إلى هذا الموضوع وهو موضوع التفرقة والتمييز بين السكان. ومن جهة أخرى، قاموا بمحاربة اللغة العربية والتضييق عليها مند البداية باعتبارها لغة الإسلام الذي يعتبرونه عدوهم الأبدي وقد أقر بذلك غلاة الاستعماريين وهم كثر ومنهم "جاك شوفالي" الذي رد على مطالب الوطنيين الجزائريين بضرورة جعل اللغة العربية لغة رسمية بقوله: "إن تعليم اللغة العربية إجباريا يعني دفع المسلمين أكثر فأكثر إلى الإسلام وتمكين العلاقة مع الجامعة العربية وذلك يعني إدخال البربر تحت سلطة الإسلام عن طريق اللغة العربية"، وقبله صرح أيضا "يوتي" بقوله: "اللغة العربية هي عامل الأسلمة، لأنها لغة القرآن، ومصلحتنا تستلزم علينا أن نخرج البربر من إطار الإسلام، وكإحدى الأدوات، لذلك علينا أن نستعمل اللغة فيستوجب علينا إذا ربط البربرية بالفرنسية، لهذا نحن بحاجة إلى المتبربرين، وينبغي أيضا إنشاء المدارس الفرنسية البربرية". في المقابل عملوا جاهدين على إحياء وبعث اللهجات الشفوية المحلية والاهتمام بها، كما عبر عليها الدوق "دوروفيكو" بقوله: "إن المعجزة الحقيقية التي يمكن صناعتها في الجزائر هي إحلال اللغة الفرنسية شيئا فشيئا محل اللغة العربية". معنى هذا أن الاستعمار الفرنسي حارب العربية وشجع البربرية على عكس ما يقول "البربريست"؟ صحيح، ومن الأمثلة التي يمكن ان نعطيها لتأكيد ذلك، وهي غيض من فيض وتحتاج إلى عشرات الكتب والمجلدات. ومنها على سبيل المثال نذكر ما يلي: بتاريخ 1843 ورد في الجريدة الرسمية للدولة الفرنسية في عددها الصادر في 15 فبراير 1843 قرار بتخصيص 300 ألف فرنك فرنسي لتشييد مدارس لقبائل جرجرة، 1000 فرنك فرنسي لفتح تخصص لتدريس اللغة البربرية بدلا من العربية، وفي سنة 1856 أمر جنرال الحرب الفرنسي المارشال جون بابتيست المستشرق "جيسلان" بإعداد تقرير مفصل عن اللهجات الشفوية المستعملة في الجزائر. وفي 20 ديسمبر 1875 انشأت سلطات الاحتلال الفرنسي مدرسة اللغات والقانون والعلوم في عهد الوزير الاستعماري جون ديراند، ومن خلالها قامت هذه السلطات بتسييس اللهجات القائمة بغرض تحويلها إلى لغات قائمة واستحدثت لذلك الغرض عدة شهادات، فقامت بتاريخ 28 جويلية سنة 1885 باستحداث شهادة الأهلية في اللغة القبائلية. وخصصت 300 فرنك سنويا كمنحة لكل طالب. وبتاريخ 27 ديسمبر 1887 استحدثت شهادة أخرى تحت مسمى دبلوم اللغة البربرية. وفي عام 1909 وخلال المؤتمر العالمي للدراسات العليا المنعقد في باريس، صرح عالم اللسانيات المعروف "بول بوير" رئيس لجنة اللغات الشرقية أن الحكومة الفرنسية لا تعير اللغة العربية أي اهتمام في مستعمراتها، لكنها تهتم باللغة البربرية وتعمل على تعميمها، وفي 30 ماي 1929 أوصت اللجنة المالية الفرنسية بمضاعفة ميزانية تعلم البربرية وحضارتها. خلال هذه السنة ايضا دعا المستشرق الاستعماري لويس ماسينيون إلى الكتابة بالعامية والتدريس بها، وفي سنة 1930 صدر مرسوم موقع من طرف رئيس الجمهورية الفرنسية ينص على استحداث تخصص في التعليم العالي في اللغة البربرية وحضارتها في كلية اللغات في جامعة الجزائر، تحت مسمى "قسم اللغة والحضارة البربربة" واستحدثت فيه دبلوم اللغة البربرية الموحد، وفي مقابل هذا أصدرت سنة 1936 قرارا اعتبرت فيه اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر، وفي سنة 1938 صدر مرسوم ينص على حظر واستعمال اللغة العربية وتدريسها وغلق الكتاتيب القرآنية والمدارس العربية، وإحداث كرسي جديد لتدريس العامية الجزائرية باسم كرسي العربية الحديثة. هل يمكن عمليا أن تواجه أكاديمية اللغة الأمازيغية التي أعلن عنها مؤخرا في الجزائر مخططات الأكاديمية البربرية في فرنسا؟ الأكاديمية البربرية التي تأسست في فرنسا في ستينات القرن الماضي استطاعت أن تنمي جيلا كاملا مؤمنا بأفكارها وأطروحاتها، وللعلم فإن الأكاديمية البربرية في باريس ركزت كثيرا على القبائلية باعتبارها اللغة البربرية وأعطتها الحروف اللاتينية، ولهذا في اعتقادي من الصعب تغيير الأمور بسهولة، وثانيا، لا أعتقد أن الأكاديمية الأمازيغية الجديدة ستخرج عن البرنامج الذي رسمه الكونغرس الأمازيغي العالمي للحركات البربرية ليس في الجزائر فقط، بل في عموم المغرب العربي التي يسميها هذا الكونغرس وطن تمازغا الكبرى. استنادا إلى كتاباتكم تشيرون دائما إلى عدم وجود المشكلة الأمازيغية بقدر ما تشيرون إلى "المسالة القبائلية"، كيف؟ يوجد في الجزائر عدة مناطق تستعمل اللسان الامازيغي إضافة إلى منطقة الزواوة القبائل اليوم، نجد منطقة الأوراس وشنوة وبني سنوس ووادي ميزاب والصحراء، وهناك حوالي 14 لهجة محلية، لكننا لم نسمع لا في سنوات الاحتلال الفرنسي ولا في سنوات ما بعد الاستقلال مطالب في هذه المناطق تدعو وتعمل للاعتراف باللغة البربرية أو الدعوة إلى التمايز، لكن منطقة القبائل هي الوحيدة التي خرج منها هذا المطلب . في سنة 1949 تأسس ما يعرف بحزب الشعب القبائلي، والعناصر المؤسسة له كلها من منطقة القبائل، فلا نجد ولا عنصرا آخر من مناطق بربرية أخرى، وبالتالي هو مطلب قبائلي محض، وليس غريبا أن نجد هذا الأمر قد تم بتوجيهه وبرعاية ضابط المخابرات الشهير الكولونيل "شون" والسياسي الخطير "جاك شوفاليي". وفي 1956 اعترف الحاكم العام للجزائر بمقوله "أن المسألة البربرية هي مسألة قبائلية، لأن المنطقة أكثر انفتاحا على الحركات الخارجية من منطقة الأوراس وباقي المناطق" و"ينبغي الإعداد للمستقبل، لأن المسألة البربرية تطرح اليوم في الجزائر والمغرب الأقصى". ومن هنا كان لزاما على الدولة الجزائرية ان تتعامل مع هذا المعطى وفق خصوصيته بدلا من الهروب إلى الأمام بإجراءات ليس لها أي معنى. ما حكاية العلم الأمازيغي ورفعه في مؤتمر الأرسيدي ووقوف شخصيات أمامه؟ تقول بعض المصادر أن العلم الأمازيغي الحالي من تصميم المدعو "محند أعراب مسعود" سنة 1971، لكن المصمم الفعلي هو الضابط اليهودي "جاك بينات"، وقد اعترف محند أعراب صراحة في كتابه "تاريخ الأكاديمية البربرية" بقوله "إذا كان من واجب إخواني البربر أن يذكروني يوما وفاء ورغبة في تشريف اسمي، أطالبهم وأحثهم أن يقرنوه باسم "جاك بينات"، لأن لولا مساعدة هذا الصديق الكبير للبربر ما كانت خطة عملي لصالح هويتنا أن تحقق هذا النجاح الذي عرفته، لذا يجب من العدل أن نقول جملة واحدة محند أعراب يساوي جاك بينات". وفي 1980 رفع العلم في أحداث الربيع البربري، وفي سنة 1996 تبنى الكونغرس العالمي الأمازيغي رسميا هذا العلم وجعله علما موحدا لأمازيغ العالم أو ما يسمى "وطن تامزغة الكبرى" من سيوا شرقا إلى جزر الكناري في المحيط الأطلسي غربا. للإشارة، فإن هناك علما خاصا بالإنفصاليين القبائل متميزا عن العلم الذي تبناه الكونغرس الأمازيغي العالمي. أين تمضي قضية الأمازيغية اليوم بعد الترسيم؟ هل تراها ستنجح، أم هي مجرد مناورة سياسية لافتقاد الأسس البيداغوجية واللسانية؟ للعلم، توجد 26 لهجة بربرية منتشرة في منطقة شمال إفريقيا، وتتميز كل واحدة بمميزات، فضلا أنها تنتمي إلى أعراق مختلفة، وأفرادها لا يتفاهمون إلا بنسب ضئيلة جدا سواء في الجزائر أو في باقي بلدان شمال إفريقيا . وتنقسم اللهجات إلى 14 نوعا، كل نوع يضم لهجات متنوعة منها في الجزائر . ان الحديث عما يسمى لغة أمازيغية ومصطلح "أمازيغ" الذي ظهر أواخر السبعينيات ولم ينتشر خارج منطقة القبائل إلا في ثمانينيات القرن الماضي إلا من قبيل الخرافة والزيف ويعتبر كموروث شعبي لفئات معينة لا ينبغي بأي حال من الأحوال المساس به للحفاظ على تنوع واختلاف المجتمع . ان تنوع اللهجات وتعددها واختلافها نطقا ومضمونا على امتداد جميع أقطار الشمال الإفريقي سيجعل من الصعب توحيدها في لغة واحدة، لأن كل واحدة من هذه اللهجات لها خصوصيتها المتميزة، الأمر الذي سيؤدي إلى فرض أمر واقع قد يكون اكثر خطورة وهو التفتيت على أساس لغوي وعرقي، او بمعنى آخر قومنة اللهجات والألسن في منطقة المغرب العربي، تحضيرا لمشروع التقسيم العرقي الذي تسعى إليه بعض القوى التي لا تريد الخير لأقطارنا المغاربية.