لقد شعرت من واجبي نحو أبناء وطني الذين يشاركني غالبتهم الانتماء لأهل السنة والجماعة أن أساهم بكلمة أناقش فيها بعض مواقف أحد التيارات الإسلامية المعروف بالسلفية (المداخلة) عقب الضجة الإعلامية التي أحدثها "زعيمُهم" ومفتيهم الأكبر في الجزائر الشيخ فركوس والتي كانت نتيجة نشره مقالة في موقعه على الأنترنت ذكر فيها جملة من العقائد والتصورات التي من واجب الإنسان الالتزام بها حتى يعتبر مسلما بالمعنى الصحيح للإسلام. وقد صرح في كلمته تلك أنه لا يرى جماعة تمثل الإسلام الصحيح غير الجماعة التي ينتمي إليها وهي السلفية. كما نفى أن تكون عامة الفئات المكوِّنة للشعب الجزائري منتمية بحق لأهل السنة والجماعة ما جعل الكثير يصابون بصدمة من موقفه هذا والذي لم يبق بينه وبين شناعة تكفير عامة الشعب إلا ذراع. وانطلاقا من ذلك أردت مناقشة هذا الموقف والتحذير من خطورة أثره على تجانس وتعاطف وتضامن أبناء شعبنا الذي وحَّده الإسلام والانتماء في غالبيته لمذهب أهل السنة منذ قرون خلت. وسأذكر إن شاء الله في مقالة أخرى مستقبلا سلبيات أخرى لهم كموقفهم من المشاركة في الحياة السياسية أو الاجتماعية والممارسة الانتخابية باعتبارها وسيلة من وسائل تولي السلطة ومن الديمقراطية كأسلوب للحكم والذي يدخل في شعار دولتنا المعروف وهو (الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية) ودورهم في مساندة أي حاكم حتى ولو كان فاسقا ومفسدا للأخلاق ومبددا لثروات الشعوب المسلمة وربما ساعدوه حتى لو كان علمانيا محاربا لقيم وأحكام الإسلام. وسأنبه السلفيين لو كانوا لا يشعرون أن السلطة لم تقصد من وراء فتح الكثير من المجالات أمامهم حتى ينشروا أفكارهم وفتاواهم إلا لاستغلالهم في خططها لتحييد فئات كثيرة من المواطنين المعارضين لسياستها وإقناعهم أنه يحرم الوقوف في وجهها والضغط عليها كما يسوِّقون له. ولا أدعي أني تطرقت في هذه المقالة لكل تصوراتهم ومعتقداتهم بل لم أذكر إلا بعضها والتي تنجر عنها المواقف السلبية التي ذكرتها وكذا تأثيرها على الجهود التي يبذلها الكثير من أبناء هذا الوطن سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو أحزابا لمحاربة النفوذ العلماني التغريبي المعادي لديننا وقيمنا والذي انتشر في الكثير من مؤسسات الدولة وسيطر على قراراتها وهو الذي أراه يمثل أكبر خطر يمكنه إبعاد الأجيال التي تأتي بعدنا عن التمسك بالإسلام في الجملة وليس عن الانتماء لأهل السنة والجماعة فحسب. ومن خلال متابعتي لكتابات ودروس ومحاضرات دعاة السلفية ومناقشة بعض أتباعهم في الفضاء الذي كان يجمعني بهم كالمساجد والمؤسسات التعليمية تبيّن لي غلطهم في موقفهم التالي: يدعي أتباع التيار السلفي في أي بلد من البلدان التي يتواجدون فيها وليس في الجزائر فقط انفرادهم باتباع القرآن والسنة والاستدلال بهما والرجوع إليهما في كل ما يذهبون إليه أما المختلفون معهم في بعض قواعد الاستدلال أو فيما فهموه من الكتاب والسنة فيعتبرونهم "أهل أهواء وبدع"، ألم يقل الشيخ فركوس في مقاله سالف الذكر (إنَّ نطاقَ مذهبِ أهلِ السنَّة لا يتَّسِع لهؤلاء جميعًا، بل هو متميِّزٌ عنهم؛ ذلك لأنَّ منهجَ أهلِ السنَّة أتباعِ السلف مُستمَدٌّ مِنْ كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ مِنْ بين يدَيْه ولا مِنْ خلفه، ومِنْ سنَّةِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي لا ينطق عن الهوى، والذي يَسلك فيه أهلُه سبيلَ الإتِّباع والاقتداء والاهتداء بهما) ويقصد بهؤلاء جميعا والذين ذكرهم بأسمائهم (الشيعة الروافض والمُرجِئةِ والخوارجِ والصُّوفيةِ والجهميةِ والمعتزلةِ والأشاعرة… والتبليغ والإخوان وغيرِهما مِنَ الحركات التنظيمية الدَّعْوية). والحق إن أخطر سلوك منحرف عن قواعد الإسلام يمارسه السلفيون والذي بسببه يُنظر إليهم على أنهم تكفيريون هو تمييز أنفسهم عن المنتمين لأهل السنة والجماعة كالأشاعرة والماتريدية فضلا عن الفرق الأخرى ببعض خصائص الإسلام والتي لا يكون الإنسان مسلما دون الالتزام بها. والمنهجية تقتضي عندما يراد الكلام عما يميز الفِرق والجماعات المسلمة بعضها عن بعض أن لا يُذكر أو يُتطرق إلا للخصائص والقضايا التي لا تخرج أصحابها عن الإسلام وأهل القبلة. ولا شك أن أخطر مثال يؤكد وقوع السلفيين في الانحراف هو ادعاؤهم الانفراد باتّباع الكتاب والسنة. فأين دليلهم مثلا أن الأشاعرة والماتريدية وعلى اختلاف مذاهبهم الفقهية كالمالكية والشافعية والحنفية وهم الذين يمثلون أغلب مسلمي العالم لا يستندون في العقائد والأحكام والفتاوى على الكتاب والسنة ولا يتبعونهما؟ والحق لا يختلف اثنان أن الالتزام باتباع الكتاب والسنة هو أهم مقياس للحكم بانتماء أي جماعة لمذهب أهل السنة والجماعة، بل حتى الواقعون منهم في خطأ الاستدلال بهما يبقون من أهل السنة ويعاملون على أساس ذلك. وبإمكان أي متابع لكتابات ومواقف منتسبي المذهب الأشعري الجزم بامتثالهم لكل ما ذكره الشيخ فركوس نفسه في مقاله سالف الذكر من مواصفات وخصائص أهل السنة، إلا أنه جعلها مقتصرة على السلفيين فقط فقال (ذلك لأهل السنة إنما يُوحِّدهم الإيمانُ والتوحيد، ويجمعهم اتِّباعُ الهُدَى والهديِ النبويِّ وَفْقَ منهجٍ ربَّانيٍّ قائمٍ على الكتاب والسنَّة، باعتبارهما مَصدرَيِ الحقِّ اللَّذَيْن يَنْهَلون منهما عقائدَهم وتصوُّراتِهم وعباداتِهم ومعاملاتِهم وسلوكَهم وأخلاقَهم ويستنبطون منهما الأحكام الشرعية في مسائل العبادات والمعاملات). ولو كانت تسمح هذه الكلمة المقتضبة لذكرتُ مجموعة من كتابات الأشاعرة والماتريدية وهم يمارسون فيها الاستدلال والاحتجاج بالكتاب والسنة في إثبات عقائد أو نفيها وفي إصدار أحكام تشريعية في العبادات والمعاملات. فهل لاحظ السلفيون على الأشاعرة والماتريدية وجماعة التبليغ والإخوان المسلمين والزوايا التنكُّر لهدي النبي وسنته صلى الله عليه وسلم وعدم الإيمان بالله وتوحيده كما يقوله الشيخ فركوس؟ وهل لاحظوا عليهم عند الاختلاف مع إخوانهم في الدين الرجوع للإنجيل أو التوراة أو فلسفة أرسطو وسقراط وليس إلى الله ولرسوله كما أمرهم الله بذلك في قوله (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء 59. فالانحراف الذي يقع فيه السلفيون هو أنهم يجعلون ويعتبرون خلافهم مع عامة أهل السنة والجماعة وهو خلافٌ ناتج عن اختلاف في بعض قواعد وطرق الاستدلال بالقرآن والسنة أو خلاف في أمور أخرى تعبدية سلوكية فقهية هو خلافٌ في أصل إتِّباع الكتاب والسنة. ولهذا تراهم يسارعون للحكم عليهم ب"الضلال" و"اتباع الأهواء والبدع" وربما كفَّروهم دون استعمال كلمة الكُفر نفسها. ثم كيف يستقيم اتهامهم للأشاعرة بعدم رجوعهم للقرآن وكما يقوله الشيخ فركوس عنهم (وهُم مُجْمِعون على مفارقة الكتاب) وهم أكثر المسلمين عناية بأحكامه وتفسيرا له عبر التاريخ الإسلامي؟ ألا يعلم السلفيون أن أعلام المفسرين هم من المنتمين لهذه المدرسة كالقرطبي وأبو بكر بن العربي والرازي وابن عطية والطاهر بن عاشور والبيضاوي والثعالبي وأبو حيان والزركشي والسيوطي والآلوسي وغيرهم كثير؟ ولو انتقلنا إلى الكلام عن العناية بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم سندا ومتنا وشرحا وإتِّباعا لما استطاع أحد من السلفيين أن ينكر أن أكثر العلماء قياما بذلك كانوا من الأشاعرة أو من المنتمين لهم بوجه من الوجوه كالبيهقي والحاكم وابن عساكر والخطيب البغدادي والنووي والحافظ بن حجر العسقلاني والسيوطي والخطابي والقاضي عياض وأبو نعيم الاصفهاني وغيرهم. فكيف يستقيم قول فركوس أنهم (يُديرون للتوحيد والسنَّةِ ظهورَهم) مع هذه الحقيقة؟ وغالبا ما يركز السلفيون على اتهام الأشاعرة برفض الالتزام بالحديث بحجة امتناعهم القبول بالحديث الآحاد في العقيدة لكون الحديث الآحاد ظنيٌّ والعقيدة تُبنى على الحجج القطعية كالقرآن الكريم والحديث المتواتر. وهم بهذا يجعلون الأشاعرة كالمُنكرين للسُّنة بإطلاق والذين حكمهم لا يختلف عليه اثنان أنه ضلال أو كفر. ولماذا لا يعدُّ السلفيون الامتناع عن الاحتجاج بالأحاديث الآحاد في العقيدة كالامتناع عن الأخذ بأقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه كونه بشرا وليس نبيا مرسلا والتي جاءت في أحاديث صحيحة؟ فالمعلوم والمسلم عند الجميع أن بعض تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم تصدر عنه من حيث أنه بشرٌ وليسا رسولا ومبلِّغا عن الله ويؤكد هذا ما جاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر). فما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه كان أحب الثياب إليه أن يلبسها الحِبَرة، وكان أحب الطعام إليه الدُّبَّاء، وأنه كره لحم الضب، وأنه كان يمشي هوناً ونظره إلى الأرض ملياً، كل هذا وأمثاله ليس تشريعاً، ولا يجب الاقتداء به فيه، ولا تعد مخالفته عصياناً للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تابع الرسول في شيء من هذا فهو من باب التقدير والحب، لا من واجبات الدين. ومن ذلك ما وقع في تأبير النخل كما جاء في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها يؤبرون النخل، فأشار عليهم بأن يتركوا تأبير نخلهم فتركوه، فسقط ثمر النخل لما أصابه من الآفات، فذكروا ذلك له، فقال لهم (أنتم أعلم بأمور دنياكم، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر). وكما جاء في غزوة الأحزاب مع السعدين من إرادته صلى الله عليه وسلم من إعطاء ثلث ثمار المدينة لغطفان، وما وقع مع الحباب بن المنذر في بدر. وأمره لبريرة بالرجوع إلى زوجها مغيث وهي قصص وردت في أحاديث صحيحة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يعلمون ذلك فيسألونه صلى الله عليه وسلم هل هذا من قبل الوحي والتشريع أم هو من الرأي والشفاعة؟ وكذلك أفعاله صلى الله عليه وسلم أنواع، فمنها ما هو تشريع، ومنها ما يفعله بمقتضى الجبلة البشرية كالأكل والنوم وحتى الإمام ابن تيمية مرجع السلفيين يقول بذلك "أجمع جمهور الصحابة والأمة أن ما وقع اتفاقاً فليس بمشروع أن نتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه، مثلاً: لو قال قائل: قَدِم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة للحج في اليوم الرابع، فهل الأفضل أن لا يكون قدومك إلا في اليوم الرابع؟ نقول: لا، لأن هذا وقع اتفاقاً". على أتباع السلفية أن يدركوا أن الذي يمتنع عن الاستدلال ببعض الأحاديث لسبب من الأسباب متفق أو مختلف عليه كالقول بأن أحاديث الآحاد لا يُؤخذ بها في العقيدة يجب أن لا يُفسَّر على أنه رفض للسنة ولمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعتقدون. وسأذكر وأناقش في مقالة لاحقة إن شاء الله اتهام السلفيين عامة المسلمين أنهم يحكمون عقولهم في العقيدة والشريعة ويقدمونها على الكتاب والسنة.