شاءت حكمة القدر الإلهي أن يجتمع عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي في المدينةالمنورة، وكان لهذا اللقاء الذي قدّره الله بين الشيخين آثارطيبة في الجزائر وعليها فيما بعد، إذ كانا يجتمعان كل ليلة وعلى مدار الثلاثة أشهر كلها من بعد صلاة العشاء إلى أن يؤذن المؤذن لصلاة الصبح، وهما يتناقشان ويتدارسان أوضاع الجزائر، وما يجب عمله من أجل إصلاحها، وإنقاذها من حالتها المزرية العامة، والتي دفعت بكثير من العلماء والطلبة إلى هجرها وتركها. ويؤكد الشيخ البشير الإبراهيمي على أهمية هذه اللقاءات في أنها كلهاتدبير للوسائل التي تنهض بها الجزائر،ووضع البرامج المفصلة لتلك النهضات الشاملة، فقدكانت الأرضية التي بنيت عليها جمعية العلماء، وتحددت على ضوئها ماهيتها وطبيعتها، فيقول: وأشهد الله على تلك الليالي من سنة 1913م؛ هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي لم تبرز إلى الوجود إلا في سنة 1931م. وهكذا وبعد هذه السلسلة من اللقاءات بينهما، عزم الإمام على الرجوع إلى الجزائر، لتنفيذ ما اتفقا عليه من خطة وبرنامج إصلاحي جهادي، وبالتالي يحقق وصية شيخه حسين الهندي، وفعلاً عاد إلى الجزائر عازماً على الإصلاح، وفق منهج إسلامي تكونت أبعاده في ذهنه من مجموعة من المؤشرات المهمة، وصدرت بعضها عن الواقع، وصدرت بعضها عن الثقافة التي تشبع بها الشيخ، وصدرت بعضها عن الروح الإسلامية الجديدة التي أشاعتها حركات الإصلاح والتجديد ودعوات المصلحين في العالم الإسلامي، من أمثال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والمصلح جمال الدين الأفغاني، والعلاّمة محمد عبده. عناصر الخطة لنهضة الجزائر التي تمت بالمدينةالمنورة: وقد اتّفق الإمامان عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي على الأمور التالية: – دراسة الوضع القائم بالجزائر ووضع تصور شامل للحالة الراهنة في البلاد. – وضع الأهداف الشاملة. – وضع البرامج المفصلة التي تنهض بالبلاد. – تحديد الوسائل الشاملة لهذه البرامج. أهداف الخطة: وتمّ وضع خطة ترتكز على الأهداف التالية: – نشر اللغة العربية، لعلمهم أن من أكبر أهداف الاستعمار وتبديل الهوية من جهة اللغة. – تربية الناس على العقيدة الصافية. – نشر العلم الشرعي في أوساط المجتمع. – نقد الطرق الصوفية المنحرفة، وبيان ضلالهم وفضح عمالة بعض زعمائهم للفرنسيين وتخليص المجتمع من الاستعمار الروحي. – زرع معاداة المستعمر في قلوب الناس. – محاربة الجهل بالعلم، والجوع بالدعوة للعمل، والقيود بتحرير النفوس أولاً من الخرافات والشعوذة. – الدعوة والمنادة للعبودية لله الواحد القهار، فلا يبقى عبودية لأحد سواه، لا لفرنسا أو لغيرها. – توحيد الشعب الجزائري تحت راية الإسلام، وإبطال مخططات فرنسا في تفريق الأمة إلى أشلاء ممزقة. مميزات الخطة: لقد امتازت هذه الخطة بالإحكام والدقة وبعد النظر واستشراف المستقبل، ووصف العلاج الناجح، وهو نشر العلم والعقيدة الصحيحة والعبادة السليمة والأخلاق الفاضلة والقيم السامية والمبادئ الحميدة، وتربية الناس على مقاصد القرآن الكريم وتعاليمه، والاسترشاد بهدي النبي (ص)، والمحطات المضيئة من التاريخ الإسلامي والبشري. وتعدّ هذه الخطة التي نضجت ثمارها وبانت نتائجها حصيلة نضال وكفاح وجهاد استغرق نصف قرن من تاريخ الشعب الجزائري العظيم، ووضعت تلك الخطة في وقت لم يتعود العلماء والمصلحون على مراكز الأبحاث ولا وسائل الاتصال والتقنية الحديثة التي عرف بها المبشرون والمستشرقون والمستعمرون، ولكن بتوفيق الله ومنّه ثم ببصيرة العلم وصدق النية والهمة في العمل، أدّت إلى نسق ما أنتجته مراكز الأبحاث الاستعمارية وأجهزتها المتطورة، التي كانت تعمل على توطين الاستعمار الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري والأمني بالجزائر، وقد اهتمت الخطة ونصّت على الاهتمام الكبير والموسع بالنشء، وعلى أن لا يتوسعا له في العلم، وإنما يربونه على عقيدة صحيحة ولو مع علم قليل، والأخذ بسنن الله في التدرج وتغيير النفوس، وأهمية الصبر على مشاق الطريق، والاستعانة بالتوكل على الله، والتسلح بتقواه لتحقيق الأهداف النبيلة والمقاصد السامية. تحديد مكمن الداء: يقول الإبراهيمي: كان من نتائج الدراسات المتكررة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس منذ اجتماعنا في المدينة ؛ أن البلاء المنصبّ على هذا الشعب المسكين ات من جهتين متعاونتين عليه، وبعبارة أوضح: من استعمارين مشتركين، يمتصان دمه، ويتعرقان لحمه، ويفسدان عليه دينه ودنياه. – استعمار مادي هو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار. – واستعمار روحاني يمثله مشائخ الطرق المؤثرون في الشعب، والمتغلغلون في جميع أوساطه، والمتاجرون باسم الدين، المتعاونون مع الإستعمار عن رضى وطواعية، والاستعماران متعاضدان يؤيد أحدهما الاخر بكل قوته، ومظهرهما معاً تجهيل الأمة لئلا تفيق بالعلم فتسعى في الانفلات، وتفقيرهما لئلا تستعين بالمال على الثورة. تنفيذ الخطة في أرض الواقع: تميز تنفيذ الخطة بالتأني وجودة البناء، فلم يستفزه الفرنسيون فيغير خطته ويستعجل النتائج، ولم يحمله حماس الشباب والطلاب واندفاعهم على قفز المراحل والإسراع في التنفيذ. فمنذ أن وطئت أقدام ابن باديس أرض الجزائر شرع في تنفيذ الخطة التي اتفق عليها مع الإبراهيمي، فشرع في التعليم في مسجده في قسنطينة. مراحل تنفيذ الخطة: وقد مرّ تنفيذ الخطة بالمراحل التالية: 1) المرحلة الأولى من الخطة: وقد لقيت هذه المرحلة من الشيخ اهتماماً بالغاً بتعليم الصغار والكبار مع الاهتمام بالتربية الدينية والأخلاقية والسياسية للشعب الجزائري، فكانت دروسه في التفسير والحديث حية وعامرة تبعث الحياة في الجماد، وفتح دروساً نظامية في الصباح للطلاب الذين تقاطروا عليه من الجبال والوديان، ممن سبق أن اختارهم حين تجواله في قرى مدينة قسنطينة، فكان مشتغلاً بالتعليم من بعد صلاة الفجر حتى صلاة العشاء. وكان له اهتمام عظيم بتعليم الأطفال وتربيتهم، فقد ركز على تعليم صغار الكتاتيب القرآنية. في هذه المرحلة رجع الشيخ الإبراهيمي إلى الجزائر سنة 1920م، فواصل مع الشيخ ابن باديس مشروعه في التعليم والتدريس وإلقاء المحاضرات، فبدأ بتنفيذ الخطة المتفق عليها في بلدته «سطيف». فالتفّ عليه الناس وبدأ نشاطه التعليمي على منهج ابن باديس من بعد صلاة الفجر حتى صلاة العشاء، وبعد العشاء يذهب للنوادي فيلقي فيها المحاضرات عن التاريخ الإسلامي. متابعة الخطة وتقويمها: وكانا يلتقيان ما بين سنتي 1920م 1930م في كل أسبوعين أو كل شهر على الأكثر، للمتابعة والنظر في النتائج ووضع البرامج المستقبلية، يقول الإبراهيمي عن هذه اللقاءات المتعددة طوال هذه السنوات: فكنا نتلاقى فنزن أعمالنا بالقسط، ونزن اثارها في الشعب بالعدل، ونبني على ذلك أمرنا ونضع على الورق برامجنا للمستقبل بميزان لا يختل أبداً، وكنا نقرأ للحوادث والمفاجات حسابها. نتائج المرحلة الأولى: – تكوين جيش عظيم من الطلبة حتى ضاقت بهم المدينة. – تخريج كوكبة من الطلاب البارزين في الثقافة والأدب والشعر والخطابة، وصفهم البشير بقوله: رأيت شباناً ممن تخرج على يدي هذا الرجل «يعني ابن باديس» وقد أصبحوا ينظمون الشعر العربي بلغة فصيحة ومعان بليغة وموضوعات منتزعة من صميم حياة الأمة، ورأيت جماعة أخرى منهم وقد أصبحوا يُحبّرون المقالات البديعة في الصحف والمجلات، واخرون يعتلون المنابر فيحاضرون في الموضوعات الدينية والاجتماعية، فيرتجلون القول المؤثر والوصف الجامع، ويصفون الدواء الشافي بالقول البليغ، واعتقدت من ذلك اليوم أن هذه الحركة العلمية المباركة لها ما بعدها، وأن هذه الخطوة المسددة التي خطاها ابن باديس هي حجر الأساس في نهضة إسلامية عربية في الجزائر، وأن هذه المجموعة من التلاميذ التي تُناهز الألف هي الكتيبة الأولى من جند الجزائر. 2) المرحلة الثانية من الخطة «من سنة 1925م 1931م»: فحين استيقظ الوعي الشعبي وانتشر تلاميذ الشيخ في كل مكان من أرض وطنه يُعلمون الناس ويعظونهم ويبنون المساجد والمدارس، ويؤسسون النوادي الثقافية ؛ حينئذ رأى ابن باديس مع زميله توسيع نطاق دعوته لتشمل الشعب الجزائري كلّه، فعمد إلى أكثر الوسائل انتشاراً وتأثيراً انذاك وهي الصحافة، فاستصدر تراخيص لعدد من الصحف تحسباً لإيقاف الحكومة لها، فأصدر جريدة المُنتقد سنة 1925م، وكانت جريئة في انتقاد الطرق الصوفية الغالية التي ترفع شعار: اعتقد ولا تنتقد، وركزت أيضاً على انتقاد وتعرية الاستعمار، وقد ضاق الاستعمار بها ذرعاً فأوقفها بعد صدور 18 عدداً منها، فأصدر الشيخ جريدة الشهاب الأسبوعية في السنة التي أوقفت فيها المنتقد وكان شعارها: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. نتائج المرحلة الثانية من الخطة: – تأسيس المدارس والمعاهد العلمية لتربية الأجيال. – تكوين المطابع لإحياء الثقافة العربية والإسلامية. – إصدار المجلات والجرايد للتكوين العقدي والفكري والسياسي. – تأسيس المساجد والنوادي لتربية الشباب والرجال والنساء. 3) المرحلة الثالثة: يصف الإبراهيمي النتائج الباهرة للمرحلة السابقة وتهيئتها للمرحلة التالية فيقول: أصبح لنا جيش من التلاميذ يحمل فكرتنا وعقيدتنا مسلّح بالخطباء والكتاب والشعراء، يلتف به مئات الالاف من أنصار الفكرة وحمله العقيدة، يجمعهم كلهم إيمان واحد وفكرة واحدة وحماس متأجّج وغضب حاد على الاستعمار. لقد أعدّ ابن باديس والإبراهيمي لقيام جمعية العلماء وهما في المدينة قبل ثمانية عشر عاماً، وكانت المراحل السابقة تمهيداً لقيام هذه الجمعية، وهذا يعني التخطيط الرشيد والرؤية السعيدة واستشراف المستقبل، والتأني في التنفيذ ودقة المتابعة، ورحابة الصدر، وسعة الأفق، التي تمتع بها الإمامان ابن باديس والإبراهيمي. وكان من آثار حركة العلماء الذين قادهم ابن باديس رحمه الله إلى نشر العلم وتعليم الناس في جميع مدن وقرى وبوادي القطر الجزائري ما تجلى بالأمور التالية: – بث الوعي واليقظة في الشعب حتى عرف ما له وما عليه. – إحياء تاريخ الإسلام. – تطهير عقائد الإسلام وعباداته من أوضاع الضلال والابتداع. – إحياء اللسان العربي والنخوة العربية. – إبراز فضائل الإسلام وأخلاقه كالاعتماد على النفس، وإيثار العزة والكرامة، والنفور من الذلة والاستكانة والاستسلام، ومنها أخذ كل شيء أُخذ بقوة، ونشر العلم في جميع طبقات الشعب، وبذل النفس في سبيل الدين، ونشر التآخي والمحبة في المجتمع، والتمسك بالحقائق لا بالخيالات والأوهام. وبذلك استطاعت جمعية العلماء إحياء الشعب الجزائري بالعلم والإيمان، فعرف نفسه،واندفع إلى الثورة يحطم الأغلال، ويطلب بدمه الحياة السعيدة والعيشالكريم، ويسعى إلى وصل حاضره بماضيه التليد، حتى خرجت فرنسا من الجزائر تجرُّ ذيول الخيبة والهزيمة عام 1962م، بعد تسع وأربعين سنة من بداية التخطيط في المدينةالمنورة بين ابن باديس والإبراهيمي. مراجع البحث: 1. د. علي محمّد محمّدالصّلابيّ،كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبدالحميد بنباديس،ج (2)،دارابنكثير،دمشق–بيروت،ط(1)، 2016م،ص. ص (115 : 121). 2. أحمد طالب الإبراهيمي، آثار الإبراهيمي، دارالغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997م، (5 / 279 – 280). 3. تركي رابح،الشيخ عبدالحميد باديس رائد الاصلاح الاسلامي والتربية في الجزائر، معهد الانماء العربي، بيروت. لبنان، 1981م، ص 75. 4. د. عبد الحليم عويس، العقل المسلم في مرحلة الصراع الفكري،مكتبة الفلاح،الكويت، الطبعة الأولى، 1981م، ص 219. 5. د. عبد الرشيد زروقة، جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر 1913 – 1940، دار الشهاب، الجزائر، 1999م، ص 96- 97 6. د. عبد العزيز فيلالي، الفكر السياسي عند الإمام عبد الحميد بن باديس،أعمال الملتقى الدولي، ص 111. 7. د. يحيى إبراهيم علي اليحيى،أثر العلماء في مشروع النهضة، فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية، المدينةالمنورة، 1435ه، ص 24 – 27- 28-31 -32-44.