بقلم: د/مصطفى بن حموش، جامعة البحرين [email protected] قد يصدق جزئيا قول المتنبي على البلدان العربية والإسلامية التي تحتفل بعيد العمال مع بقية الأمم العاملة: بأي حال عدت يا عيد، ذلك أن نصيب وقت العمل للفرد العربي لا يكاد حسب بعض التقديرات يصل ربع ساعة في اليوم في حين أن معدل ساعات العمل في أوربا وأمريكا هو على الأقل ثمان ساعات. وهو بالتأكيد أكثر في آسيا ومناطق النمور السبعة بسبب جشع أصحاب الشركات المتعددة الجنسيات وعدم احترام القوانين الدولية المتعلقة بحقوق العمال. إن هذه المعلومات ستضعنا لا شك في حرج كبير أمام الأمم الأخرى عندما نحشر أنفسنا معها للاحتفال بهذا اليوم. وفي حين لانزال نناقش مدى شرعية هذا الاحتفال في جانبه الديني فقد نسينا أننا نحن المسلمين والعرب قد وضعنا أكبر بدعة في هذا المجال وهي تسمية كل نشاط رسمي للفرد بالمهنة، ذلك بأن المعنى اللغوي للكلمة يدل على معنى الإمتهان لكل من يقوم بعمل يدوي أو حرفي. وقد نحت فيما يبدو هذا المصطلح العرب منذ الجاهلية من منطلق تصورهم لمفهوم العمل اليدوي المرتبط بالعبودية. ولاتزال بعض مجتمعاتنا العربية تحمل هذا الفهم فترى أفرادها يترفعون على الأعمال اليدوية والحرف فيما يتسابقون إلى المناصب. لقد ارتبط هذا اليوم بظهور المدنية الغربية الحالية وبما وصلت إليه من مستوى توفر فيه لكل فرد من أفراد مجتمعاتها دخلا محترما وترفع متوسط العمر في المجتمع بفضل الخدمات الصحية والتغذية وتمنح كل فرد حقه في الترفيه والإستجمام. وذلك كله يعود إلى التضحيات التي قدمتها أجيال العمال في تلك المجتمعات. ولكي نعي ذلك جيدا يجب أن نراجع تاريخ أوربا منذ أول أيام الثورة الصناعية، أين كان العمال يتكدسون في المدن الصناعية السوداء ويستنشقون الدخان الأسود ويقضون كل أيامهم في ظلام المناجم منذ طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وقد قضى الكثير منهم نحبه تحت تلك الصخور بسبب انهيار تلك الكهوف. يجب كذلك أن نستحضر المغامرات العلمية التي قام بها علماؤها في اختراع الطاقات والآلات والمتفجرات، حيث قضى الحِمام على العديد منهم في المختبرات وفقد آخرون أعضاءهم خلال التجارب الخطرة وغير المسبوقة. ولذلك فإن حضارة الغرب المعاصرة لم تأت إلا بتضحيات أجيال من أسلاف مجتمعاتهم الجادين والمغامرين والعمليين. وقد ورث اليوم خلفهم تلك الأخلاق في العمل الجاد والشاق طيلة أيام السنة مما يحقهم في الاحتفال. وهنا يجب أن نسأل أنفسنا بكل بساطة هل نحن نعمل حتى نحتفل؟ ويكون الجواب الأولي الذي يقتنع به غالبيتنا في قرارة نفسه كمجتمعات بالنفي إذا ما قورّنا بالغرب. ثم يأتي السؤال الطبيعي التالي: لماذا لا نعمل؟ وهنا تتآزر الفلسفة وعلوم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة، لتحاول الجواب عن هذا السؤال البسيط والحيوي والمزعج والذي لم يجد إلى حد اليوم الجواب الميداني. من الأكيد أن يستحضر كل منا الظروف التي يعيشها الفرد العربي والمسلم المانعة للعمل والتحفز، بما فيها المستوى الأدنى من المعيشة والحياة المادية. ففي الكثير من البلدان العربية والإسلامية يشكو العامل من ظروف العمل وأزمة السكن ومن قلة المواصلات وغلاء المعيشة ومرض الأولاد وغيرها من مشاغل الحياة اليومية التي يسمعها المرء كل يوم لدى المواطن العادي. لكنه إذا كانت هذه العوائق المتمثلة في أسس الحياة المدنية تفسر ظاهرة قلة العمل في البلدان العربية ذات الإمكانات المادية المتواضعة، فإن نفس هذه العوامل تندحر في بلدان عربية أخرى ذات إمكانات مادية معتبرة، خاصة الدول البترولية. فرغم المحيط المدني المترف، نجد مردود الفرد في هذه الدول ضعيف جدا. وملخص ذلك إذن أن الفرد العربي والمسلم سواء أكان يعيش في بلد محدود الإمكانات أو غنيا فإن مردوده العملي متدنٍّ كثيرا عما هو في الغرب وذلك يدفعنا أن نبحث عن أجوبة أخرى أكثر شمولية لتفسير ظاهرة قلة أو عدم العمل أو التكاسل. ولعل العامل الرئيسي المتبادر هو مفهوم الدولة السائد. لقد ولدت معظم الدول العربية حديثا وبنت سياستها على فكر أبوي يتمثل في دولة الرعاية، هذه الممارسة التي تعكس من جهة الوفاء لمبادئ الوطنية والستجابة الاجتماعية والسياسية لمطلب العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات العامة. ومن المصادفات التاريخية في بلداننا أن يتزامن مفهوم الدولة الوطنية بتوفر البترول وتركز الثروات العامة في أيدي الدولة. فالدولة تقدم العناية الصحية وتوفر السكن اللائق ومنصب العمل لكل فرد. والدولة تسهر على أمن الأفراد وتوفر كل مستلزمات الحياة المدنية المعاصرة. وفي المقابل فإن تلك الخدمات والرعاية يخوّل لها دور الأبوة والولاية على أفرادها في شؤونهم الخاصة والعامة. وقد انقلب هذا المنحى السياسي على سلوك الشعوب والأفراد بوضوح، حيث أصبحت عالة على كفيلها، وأصبحت تتبنى لغة المطالب قبل لغة الواجبات كما قال مالك بن نبي. إذن فإن وراء التكاسل الإجتماعي الحالي بكل تأكيد سياسات البلدان العربية وثمرة مفهوم الدولة المغروس في أذهان الأفراد والجماعات خلال الفترة المعاصرة. أما العامل الرئيسي الثاني فيتمثل في التدين السلبي والعطالة الإجتماعية الذاتية. فعائق التدين في نفسية الفرد العربي والمسلم منبثق من ميراث اجتماعي وديني متراكم خلال قرون التخلف والجهل وليس بالطبع من ذات الدين. وتتمثل في ذلك المناخ السائد الذي يربط أيدي الناس ويثبطهم عن القيام بأي نشاط أو الخروج عن تقاليد التكاسل. إنه نوع من الإضراب الصامت عن العمل والمنبعث من العقيدة الإسلامية المشوهة. فكثير من أفراد المجتمعات العربية تكرر أمثالا مستمدة من مبادئ الإسلام مثل "القناعة كنز لا يفنى" و"قليل يغنيك خير من كثير يلهيك"، وبعض الأحاديث النبوية التي تشير إلى أنه من وجد رغيف يومه وبات صحيحا وآمنا، أتته الدنيا وهي راغمة. وفي الكثير من الأحيان يقنعك الفرد العربي أنه لا يجب التكالب على الدنيا الفانية، وجمع المال، لأن كل ذلك آيل إلى الزوال. لقد فسر البعض وضعنا المعطل هذا بالإتجاه الصوفي، وفسرها آخرون بالتسلل البطيء عبر الزمن لعقائد الإرجاء (إلى الآخرة) والقدرية (بأن كل شيء مكتوب). وقد يكون بعض ذلك صحيحا ولكنه من الأكيد قد جاء نتيجة زحزحة مفاهيم إسلامية صحيحة عن دورها الرسالي الأول. إن قائمة المعوقات لا تتوقف عند هذه المصدرين، لكن فتح باب التقصي هو الخطوة الأولى في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي لمجتمعاتنا، فالتفكير في المشكلة جزء من حلها. ومهما يكن من تحليل لأسرار عطالتنا الاجتماعية، فإن أول ماي يعود علينا كل سنة ليسألنا نفس الأسئلة، ثم يرحل.