د/مصطفى بن حموش (جامعة البحرين)br [email protected] قد يكون هذا المقال مجرد صرخة في واد، ستصطدم بجدار المشكلات الروتينية التي تعاني منها جامعاتنا أو همّ لقمة العيش التي يجري وراءها أهل العلم في بلادنا. وقد يكون هذا الموضوع ترفا فكريا في أعين مسؤولينا الذين أصبحوا يقيسون نجاح جامعاتنا بعدد المقاعد البيداغوجية المتوفرة، و عدد قوافل المسجلين في جامعاتنا. أما في المجتمع الذي تحول إلى جسم ضخم مستهلك لما تنتجه عقول و سواعد الأمم الأخرى فقد أصبح التخلف أمرا مسلما به. و لطالما استسلمنا لهذا الوضع فإن التاريخ لن يتغير. لقد كانت بلادنا النامية-النائمة تحلم خلال سنوات السبعينات و الثمانينات بتحقيق نقل التكنولوجيا كطريق للحاق بركب التقدم، لكن الظنون قد خابت، حيث لم تحدث عملية النقل و لم نلحق بالركب، بل زاد الكرب، فالفجوة العلمية قد اتسعت، حيث ازداد الغرب تقدما و ازدادا تخلفا. لقد كان من الرجاحة ألا نعتقد بصحة مقولة نقل التكنولوجيا، لأن ذلك أساسا لا يتماشى و أهداف الدول الغربية و المتقدمة التي تملك تلك التكنولوجيا و تحتكرها. هل يعقل أن تسمح تلك الدول بنقل ثمرتها و رأسمالها إلى البلاد التي تستغلها لتتحرّر منها لتنقطع عنها المواد الخام و تضيق الأسواق المفتوحة على بضاعتها و تحرم بذلك نفسها من الوسيلة التي تضمن لها السيطرة و الريادة. إن الاستنتاج الوحيد و المحتوم أمام هذا الوضع إذن هو الإيمان ألا خروج لنا من تيه التخلف إلا بضرورة العمل على التحكم في العلوم و المعارف التمكينية التي عند الخصم و هو في هذه الحالة الغرب، لاستغلالها في التنمية. و لعله من باب المدخل التاريخي أن نذكر أول عملية اختراق علمية في تاريخ حضارتنا الإسلامية كانت في العهد النبوي عندما قايض المسلمون الأسرى من قريش و باقي القبائل العربية بما عندهم من علم مقابل إطلاق سراحهم، حيث كان على كل أسير أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين القراءة و الكتابة. و قد حدثت نفس العمليات في العهود التالية للفتوحات الإسلامية حيث نقلت علوم اليونان و الهند و الفرس و الروم إلى اللغة العربية فاستطاعت الحضارة الفتية أن تهضم ذلك كله ثم تصوغه وفق التصور الجديد ليساهم في ميلاد الحضارة الإسلامية. و لعل السؤال المباشر بعد هذه المقدمات عن الكيفية التي تتم بها عمليات الاختراق في عصرنا، مع كل المعطيات و الظروف السائدة. فمن الأكيد أن تجارب الأمم المعاصرة مثل اليابان ثم الصين و الهند مصدر فيه الكثير من الوسائل المساعدة، هذا في حين أن من تلك الوسائل ما هو متاح لنا أكثر من غيرنا لا يمنعنا منها إلا تقاعسنا و غياب الإرادة السياسية في إعمالها. و سنحاول التعرض لهذه الطرق دون حصرها. فالكثير من الخبراء الأجانب يأتون إلى بلداننا ضمن صفقات مشاريع التنمية أو للتعليم أو التجارة أو التبادل في إطار اقتصاد السوق المهيمن على العالم. و قد أصبحت بلداننا العربية و الإسلامية المتخلفة و الغنية في نفس الوقت مطمعا خصبا للشركات الكبرى التي تضمن حصتها في أسواقنا دون أن يستغل حضورها بمتطلبات الاستفادة المحلية من خبراتها. و لعل تجربة النمور الآسيوية الحديثة نموذج في ذلك. فقد كانت مجتمعات و بلدان تلك الدول مرتعا خصبا للشركات المتعددة الجنسيات التي استغلت اليد العاملة أسوأ استغلال منذ ثلاثين سنة إلى حد الرق و العبودية و لا يزال بعضها إلى حد الآن، لكنه في مقابل تلك التضحيات الجسام التي قامت بها المجتمعات الآسيوية فقد استفادت من التكنولوجيا التي كانت في أيدي الغرب، و أصبحت تقف لها ندا منافسا في كل المجالات التكنولوجية و العلمية الحديثة. كما باتت الجوسسة العلمية أمرا معروفا في اللعبة التنافسية بين الأمم و الدول. و تتمثل هذه الطريقة في أبسط صورها في إرسال بعثات علمية في مهمات سرية أو علمية مهيكلة في استراتيجيات بحثية و علمية محددة و هادفة. و قد كان هذا ما عملت به كل من اليابان و الصين حيث أغرقت أوربا و أمريكا بالبعثات العلمية في كل الجامعات المتفوقة. كما اتبع العراق في عهد صدام حسين نفس الخطة لبناء القاعدة التكنولوجية و النووية منذ السبعينات. و قد ساعد في ذلك المحيط المتكامل الذي كان يوفره للنخبة العلمية التي كان يرعاها بنفسه، ابتداء بتوفير وسائل العيش المريح إلى الاعتناء بإلإنتاج العلمي و النشر ثم التطبيق الصناعي. و لعل تجربة الباكستان في تركيب مفاعلها النووي نموذج حي آخر للجوسسة العلمية ساعد في نجاحه وجود الروح الوطنية العالية لعلماء أفذاذ مثل عبد القادر خان، ثم المناخ التسابقي الحربي السائد مع الهند. كما تمثل التجارة في الأسرار العلمية شقا آخر من هذا النموذج. ففي الكثير من الأحيان تسوق نتائج البحوث و الأسرار العلمية و الاكتشافات و تدر الأموال لأصحابها عند عرضها على الشركات التي تحولها إلى مادة للتطبيق ثم للتسويق. و يعكس هذا المبدأ آليات السوق في الفكر الغربي، فكل شيء قابل للبيع و الشراء لمن يدفع أكثر، لا يحد في ذلك إلا قوانين التجريم و الخيانة. و تكون ملفات الحرب الباردة و الاختراق المتبادل بين الدول الكبرى مادة غنية في هذا الموضوع. كما يكون انهيار الدول فرصة تجارية رابحة في استقطاب علمائها و نخبها و امتصاصهم في دول أخرى كما جرى لدول الاتحاد السوفييتي و كذلك العراق حاليا، و من قبله و بمستوى أقل للجزائر خلال فترة الأزمة الدموية التي مرت بها، حيث تفرقت نخب هذه الدول في العالم بحثا عن لقمة عيش و عن مكان آمن تفرغ فيه طاقتها العلمية و مواهبها. و ما ينطبق على تجارة لاعبي كرة القدم، كذلك قد يجري أحيانا في عالم المختبرات و التجارة بالمادة الرمادية لأمخاخ الباحثين الأفذاذ. و لعله من الأبواب الغامضة التي يحدث فيها التفاعل المباشر و العكسي في نفس الوقت هو ربط الجامعات و المختبرات العلمية المحلية بتلك التي في البلدان المتقدمة في إطار ما يسمى بالتبادل العلمي و الثقافي. ففي الوقت الذي تسمح فيه هذه الاتفاقيات للنخب المحلية بالسفر للاطلاع على المختبرات المتطورة و إجراء البحوث المشتركة تكون كذلك وسيلة سهلة للاستقطاب الغربي للعقول الناشئة و الأجيال الصاعدة ثم الاطلاع على مستويات البحوث العلمية المحلية و مستجداتها و الاهتمامات عن قرب. إن الاختراق العلمي مع ما له من ضرورة، له كذلك مخاطر لا يمكن تقديرها. فتكون ابتداء على المستوى الفردي، حيث كثيرا ما تجهض بإغراء أو اختطاف العلماء و النخبة المكلفة بالمهمة. و لعل ما حدث للعالم المصري يحي المشد و علماء عراقيين آخرين في فرنسا في السبعينات، و محاولات اختطاف البروفسور عبد القادر الباكستاني، مثال على ذلك، و هو ما يتطلب وضع سياسة أمنية و حماية تلك البيضة الهشة المتمثلة في النخبة المتشكلة. كما يمكن أن يكون الثمن أكثر من ذلك حيث يصبح البلد الذي يرمي إلى الاختراق العلمي مستهدفا في قيادته أو اقتصاده أو أمنه. و لعل المشهد العراقي الحالي يعكس إلى حد بعيد هذه الحالة. و قد تكون إيران مثالا حيا آخر في ما يمكن توقعه من تنفيذ سياسة الاختراق العلمي من مواجهة مباشرة للاحتكار التكنولوجي الغربي. و لا يعني ذلك الحكم بالفشل على كل سياسة علمية في هذا الشأن بقدر ما يجب استخلاص الدروس منها. فمن واجب الدولة النامية التي تعمل في اتجاه التمكن ألا تنجر إلى المواجهة المسبقة التي كثيرا ما يكون هدفها قتل الجنين العلمي قبل ولادته و أن تمنع أو تؤخر المواجهة بقدر ما تستطيع من دبلوماسية. إن تقاعس الدول المتخلفة عن تفعيل هذه السياسة لا يمنعها من السقوط في عملية الاختراق المضادة رغم غرقها في بحار التخلف. فمن غير المستبعد أن تكون للبلدان المتقدمة سياسة في ضرب أية جهود للمسؤولين الوطنيين و الأكاديميين في البلدان المتخلفة من إجراء أي تحسين أو إحراز تقدم علمي قد يبني قاعدة علمية في المستقبل. بل أنه من المؤكد وجود استراتيجيات لاستقطاب النخبة و المفكرين في تلك البلدان عن طريق سياسة الهجرة الانتقائية التي تستغل الأوضاع الاجتماعية المتردية في تلك البلدان لشفط كل النخب المتكونة و الحصول عليها بأرخص ثمن. فعملية الانتقاء الآلية التي تقوم به دول مثل الولاياتالمتحدة و كندا و نيوزيلاندا و ما تنوي أن تفعله فرنسا في مواجهة الهجرة الجماعية من الجنوب ما هي إلا الرأس الظاهر من كتلة الثلج المغمورة لهذه السياسة. و رغم ما يحدث من نزيف في الأدمغة نتيجة هذه السياسات الغربية المُحكمة و القاهرة فإن الكثير من النخب المغتربة من يعيش مع تقدم العمر أزمة الضمير و الهوية مع نفسه، حيث يبدي الكثير منهم استعداده التام و الأكيد للتعاون مع أبناء بلاده من المكان الذي يوجد فيه كحل وسط بين دوافع الضمير و الوطنية و إغراءات الغربة و جاذبية مختبراتها. إنه رغم ما يبدو من سقوط بلداننا في حلقة مفرغة و مغلقة من التخلف فإن فرص البناء المعرفي لأي مجتمع لا تنقطع و ذلك بفعل خاصية التراكم المعرفي و سنن التداول الحضاري التي تتحكم في تطور البشرية. و لذلك فإن الاختراق العلمي لا يزال من فروض العين على الإطارات العلمية كما هو واجب الدولة، حيث أنه امتداد لاستقلالها السياسي و الاقتصادي الذي تكاد تفقده دولنا في زمن العولمة و في ظل هيمنة مشاريع ما بعد الاستعمار. إن العجز عن وضع سياسة الاختراق العلمي في بلداننا لا يفسر إلا بخوف زعمائنا من ردود الفعل السياسية الغربية من جهة و غياب هممهم من جهة، ثم بالتكاسل الاجتماعي بسبب انكسار الإرادة الجماعية بفعل التربية الاستهلاكية التي نشأت عليها مجتمعاتنا في اقتناء الأشياء الجاهزة التي تغني عن أي اجتهاد علمي. و قد يكون ذلك هدف الغرب في سياساته الخارجية فينا لما يسمى بمشروع ما بعد الاستعمار الذي كرس له إدوارد سعيد حياته لفضحه. لقد أصبحت جامعات بلداننا مجرد تكديس للكتل البشرية الشابة يقاس النجاح فيها بطريقة ديماغوجية تتكرر مسرحيتها المملة التي تتمثل كل سنة في التهليل لعدد المتخرجين أو التفاخر بعدد الجامعات الجديدة التي أصبحت في كل دشرة ، بدل الأخذ بمعايير الجامعات العالمية في تعداد مدى المساهمات في حقول البحوث و التركيز على نوعية التعليم و غيرها من المؤشرات. إن هذا الوضع لا يعني سقوط الواجب العيني عن كل أكاديمي و علمي في مجاله ليحدث الاختراق العلمي على مستواه الفردي ثم يعمل جاهدا على إيصاله إلى المستوى الجماعي، حيث يمكن بالتجمع التدريجي للنخبة من تشكل النواة التي تحمل رسالة المعرفة والاختراق المنشود. و لعل هذا هو البديل الوحيد المتوفر حاليا في غياب السياسات الوطنية و الأوعية الرسمية لاحتضان تلك الجهود، و موت همم السياسيين و قادة بلداننا.