إلى غاية أوّل البارحة قبل بثّ نشرة التلفزيون العمومي في حدود الساعة الثامنة ليلاً، كان الشارع الجزائري يتطلع إلى تنفيذ “خارطة طريق” برزت بقوّة مطلع الأسبوع الجاري، والتي تجمع، بحسب خبراء مختصّين، بين المنطلقات الدستورية والمنطق السياسي، على أمل الخروج من المأزق المؤسساتي الذي وضع فيه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة السلطة والشعب على حدّ سواء، عندما قدّم استقالته يوم 2 أفريل الجاري دون ترتيب لإجراءات المرحلة الانتقالية، وفق ما يستجيب لمطالب الجزائريين، حيث تقوم الرؤية على تقديم الطيب بلعيز استقالته من رئاسة المجلس الدستوري أوّلاً، ليتولّى رئيس الدولة عبد القادر بن صالح تسمية خليفة توافقيّ له في المنصب يرضى به الشعب، ثمّ ينسحب بن صالح من المشهد ليصعد رئيس المجلس الدستوري الجديد إلى قصر المراديّة بصفة رئيس دولة لاستكمال الإجراءات المطلوبة. حدث ما كان مرجوّا في مرحلة أولى، حسب مراقبين، وهي تقديم بلعيز لاستقالته، الثلاثاء، لكنّ البشرى بتحقّق السيناريو المأمول لم تدم سوى ساعات معدودة، لتسقط نهائيّا من حسابات الجميع، بعد إعلان رئيس الدولة عن تعيين القاضي السابق كمال فنّيش في المنصب، بصفته عضوا منتخبا عن مجلس الدولة في الهيئة الدستورية. ولأنّ الوافد الجديد على المجلس ليس “شخصيّة وطنية” معروفة ولا يندرج تمامًا ضمن الأسماء التي كانت متداولة لإحداث التوافق بين مكوّنات الحراك الشعبي، كما أن طريقة وسرعة استخلافه في الموقع تؤكد أن صعوده جاء من طرف واحد، ولم يكن أبدا في سياق الخطّة التي توقّعها الشعب، ما يعني أنّ هذه المقاربة المقترحة لحلحلة الوضع المؤسساتي والدستوري والسياسي العالق قد طُويت بصفة نهائيّة، رغمّ أن شرعيّة الإجراء لم تلق نقدًا واضحًا من الدستوريين، بل اعتبروها حلّا سياسيّا للتكيف مع الدستور، لتتوجّه الأنظار الآن إلى مُخرجات “الآفاق الممكنة والمفتوحة” التي تعهّد بها قائد الأركان الفريق قايد صالح في خطابه أول أمس من الناحية العسكرية بورقلة، بعد ما نصح في وقت سابق بالتخلّي عن المطالب التعجيزية. بعد رحيل بلعيز ومجيء فنّيش.. أين الحلّ؟ لا توجد برأي أوساط متابعة، أيّ معلومات موثوقة أو رسمية حتى الآن بخصوص المنافذ البديلة لتلبية مطلب الشعب بترحيل “الباءات الثلاث”، لا بشأن الصيغة المرتقبة لاستكمال المرحلة الانتقالية ولا بخصوص الشخصيات المرشّحة لإدارتها، فهي مربط الفرس في كل الترتيبات القادمة. لذلك يعتقد مراقبون أنّ فرضيّة اللجوء إلى مجلس انتقالي مصغّر وتوافقي من 3 إلى 5 أشخاص على الأكثر، يحقّقون التوازن الجغرافي، لتعويض المؤسسات والأسماء الانتقالية، برئاسة شخصيّة وطنيّة رمزيّة ومرجعية لدى الجزائريين، بعد مشاورات مع أطياف المعارضة والحراك هي الأكثر واقعيّة الآن، لأنّ تجاوز مطلب الشعب، في تقديرهم، أصبح أمرًا في غاية الحساسيّة بعد بروز مؤشرات استحالة الذهاب إلى صناديق الاقتراع في موعدها المحدد سلفا بتاريخ 4 جويلية القادم، إثر تصميم القضاة عن مقاطعة الإشراف على انتخابات يرفضها الشعب، وعلى خُطاهم، بدأ رؤساء المجالس البلديّة يعلنون تباعًا تبرؤهم حتى من مراجعة القوائم الانتخابية، ما يؤكد أنّ باقي الإداريين والموظفين، ومن يراهنون عليهم لتشكيل “اللجنة المستقلّة” سينأون بأنفسهم عن الانخراط في المسار الانتخابي في ضوء المعطيات الراهنة. هذه التخريجة الجديدة إن صحّت، حسب ملاحظين، فهي تقتضي انسحاب عبد القادر بن صالح من المشهد أوّلاً، بتقديم الاستقالة لإحداث حالة الشغور في رئاسة الدولة، ثمّ فسح المجال أمام تجسيد السيناريو المذكور، ولهذا يعتقد متابعون أّنّ استخلاف بلعيز بكمال فنّيش ربّما يندرج ضمن هذا التفكير، لأجل تهيئة الأجواء في استكمال الترتيبات المطلوبة ومرافقة المرحلة والهيئة الانتقاليتين، على اعتبار أنّ رئيس المجلس الدستوري المستقيل مرفوض شعبيّا، فلا يمكن أن يتولّى مثل هذه المهمّة. أمّا عن الأسماء التي يمكن اقتراحها لتشكيلة “المجلس الرئاسي الانتقالي” للإشراف على تنفيذ الاستحقاق الوطني المرتقب إلى غاية إعادة الشرعيّة الشعبية إلى مؤسسة الرئاسة، فهناك أسماء بارزة يطرحها، أو بالأحرى يتمناها، الناشطون في الميدان، كما توجد أخرى هي محلّ تخمين في الدوائر السياسيّة، بناءً على الأصداء التي تصلها من مراكز صنع القرار. ودون الخوض في هويّة هؤلاء المُحتملين أو “المتخيّلين”، لأنّ أكثرهم شائع على مواقع التواصل الاجتماعي، وحتّى بعض الساسة المقرّبين من مراكز قوى محدّدة لا يتوانوْن عن ترويج أسمائهم، ما يعني أن بعضهم على الأقل محلّ تفكير فعلي للاستعانة بخدماتهم في المرحلة المقبل في حال ما تقرّر الأخذ بآلية المجلس الانتقالي. هل تكون الضمانات الفعليّة بديلاً عن سقوط بن صالح؟ غير أنّ الطرح السابق ليس الوحيد على طاولة التفكير الرسمي بحسب عارفين بشؤون الحكم، فهم يقدّمون سيناريو آخر يمكن أن يكون محلّ نقاش في الدوائر العليا للسلطة هذه الأيّام، ويقوم على المرور إلى الخطوة الثانية بعد ابتعاد الطيب بلعيز، وهي استقالة نور الدين بدوي من الوزارة الأولى، وتعويضه بشخصيّة مقبولة مع تعديلات طفيفة تمسّ الوزارات ذات الصلة الماديّة بالانتخابات، لأنّ التنظيم الفعلي سيوكل إلى لجنة مستقلّة، لكن مقابل بقاء عبد القادر بن صالح في موقعه الحالي. ورغم أنّ هذا السيناريو يصعب تماما إقناع الحراك الشعبي بجدواه أو الاطمئنان إلى نتائجه، ما يفرض استبعاده، لكن مراقبين يرجّحون لجوء السلطة الفعليّة إليه من باب حرصها على احترام الدستور ولو في شكلياته الأساسيّة، أمام تربّصات خارجيّة تترصّد عن كثب ما يحدث في الجزائر، بالنظر إلى أنّ رئاسة الدولة أهم مركز دستوري في هرم السلطة، وليس من السهل المساس بها، إلا في حال الانسداد الكامل مع استحالة إيجاد أي مخرج ممكن، وقتها يكون الكيّ هو آخر العلاج. ويضيف هؤلاء المتابعون أنّ السلطة المتحّكمة الآن في زمام الأمور ستكون مجبرة في هذه الحالة على تقديم ضمانات قانونيّة وقضائية وإداريّة لا يرقى إليها الشك في تأمين نزاهة الفعل الانتخابي، والبداية تتجسّد في رئاسة وتركيبة “اللجنة المستقلة” ومهامها وسلطاتها وحدود عملها، فضلاً عن أهميّة خليفة “بدوي” ومرافقيه الأساسيّين في الحكومة. العودة إلى مخرج رئيس جديد في مجلس الأمة مستحيلة! أمّا ثالث سيناريو يروّج له البعض عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فهو تعيين عبد القادر بن صالح لشخصيات توافقية في مجلس الأمة ضمن حصّة الثلث الرئاسي التي تحصي 10 مقاعد شاغرة، ثمّ انتخاب إحداها رئيسًا لمجلس الأمة، ومن ثم استقالة بن صالح قبل استخلافه برئيس الغرفة العليا للبرلمان الجديد، أيّ وفق السيناريو الأوّل الذي كان مطلوبًا في نهاية فترة بوتفليقة. ورغم تسويق وجوه بارزة لهذه الفكرة، فإنّ إجماعًا مطلقًا بين الدستوريين على أنّ هذا الإجراء مخالف لكلّ القواعد الدستوريّة، لأن الرجل، حسب تفسيرهم لأحكام الدستور، لا يزال رئيسًا للهيئة البرلمانيّة، بحكم أنّ مهّمته في الرئاسة مؤقتة فقط، وسيعود إلى المنصب مثلما حدث مع المرحوم رابح بيطاط مطلع 1979، وحتّى لو استقال المعني من المنصبين، فإنّ الفرصة، برأيهم، ضاعت مع صعود بن صالح ولا يمكن تطبيق المادة 102 بأثر رجعي الآن، لتبقى مجرّد نقاش افتراضي لا أثر له في آفاق المرحلة. ختام السيناريوهات الذي يبدو مستحيلاً واقعيّا إلا إذا حدثت طوارئ فوق الحسبان، فهي حسب متابعين الاكتفاء بتغيير بلعيز مع استمرار بدوي وبن صالح في مواقعهما لفرض المسار الانتخابي، وهذه فرضيّة لا تخطر في الوقت الحالي على بال أحد. ومع كل الاستشرافات التي يحاول الدستوريّون والسياسيون والمراقبون توقّعها أو عرضها للرأي العام، فإنها تبقى جميعها مجرّد تكهّنات في عرف التقلبات السياسية الكبرى التي تتغيّر إحداثياتها بين عشيّة وضحاها أو أقل من ذلك بكثير.