بعد شهرين من الحراك الشّعبي المبهر، أفرزت السّاحة الوطنيّة أربعة توجّهات كبرى، لكل توجّه منها “مشروع مجتمع” يريد تمريره تحت زخم حراك لم يقدّم للرّأي العام جردًا بأسماء من يجب أن يرحلوا، فدعوة الجميع إلى الرّحيل تجعل كل واحد يرى نفسه غير معنيّ بها، طالما أن الانضمام إلى الحراك ميسور، فكل من يرفع يافطة ضد “العصابة” وينادي برحيل رموز النّظام، يصبح عضوا في الحراك الذي يركّز اليوم مطلبَه على رحيل أربعة باءات دون أن يقدّم باءاته منعا لحصول فراغ. إنّ حركة احتجاج بهذا الحجم الضّخم المهيب، وهبّة شعبيّة بهذه السّلميّة والتنظيم والحضاريّة.. ينبغي أن لا تنحصر مطالبُها في رحيل أربعة أشخاص مهما كانت رمزيتهم وتعويضهم بأربعة آخرين، دون أن يترتّب عن ذهابهم تغييرُ منظومة الحكم. لأنّ “تشخيص” المطالب ينحرف بالحراك عن غاياته ويُدخله في لعبة: من يعوّض من؟ ومن ينوب عمّن؟ والمعركة أكبر من باءات الواجهة. إنّ معركة طويلة ضد منظومة فساد انتشر وامتدّت جذوره عبر القارّات الخمس، ومثال عبوره للقارّات فضيحة قناطير الكوكايين المحمولة داخل حاويات لحوم البقر، وهي الفضيحة التي فتحت ملفّ فساد “الحوت الكبير”، وفرضت إسقاط الخامسة تحت ضغط الشّارع، وتصدّت لخريطة الطريق البديلة، وأفشلت مشروع التّمديد ومشروع الاستخلاف، وانتصرت الإرادة المشتركة بين الشّعب والمؤسّسة العسكريّة بالاستناد إلى الدّستور لزحزحة رأس الحكم، وتعقّب بعض الرّؤوس الناتئة.. لكنّ شجرة الفساد لا تتغيّر ثمرتها باجتثاث رأسها وتشذيب بعض باءاتها.. طالما الغموض مازال يلفّ ثلاث مسائل: 1 ما الذي يدور في رأس المؤسّسة العسكريّة، وإصرارها على الاستمساك بالحل الدّستوري وتعقّب بارونات الفساد ومن يقف وراءهم من الفلول؟ 2 ما هي الآليات التي سيتمّ بها تجسيد الإرادة الشّعبيّة للخروج من ثنائيّة سيادة الشّعب والحل الدّستوري؟ 3 هل يتوقّف سقف الحراك عند رحيل الباءات الأربعة؟ أم يدفع باتّجاه وقف العمل بالدّستور وفرض مرحلة انتقالية لا تعترف بالاستحقاق المقرّر يوم 04 يوليو من هذا العام؟ الحصيلة المحقّقة حتّى الآن بعد رحيل رئيس المجلس الدستوري تشجّع على الاستمرار في الضّغط السّلمي لفرض “خريطة طريق” تنزع فتائل التّفجير أوّلا، وتردم الفجوة بين المؤسسة العسكريّة والحراك من توجّس “عسْكرة الحياة السياسيّة”، وتُسقط وهْم كلّ شيء أو لا شيء، فركامات الفساد لا يمكن تنظيفها إلاّ “برسْكلة نوعيّة” عادلة ومنصفة، لاستخلاص الشّرفاء من الكفاءات التي تعين الحراك على وضع خطط المستقبل، فالنّفايات الحديدية والبلاستيكية وبقايا الزّجاج والورق.. تُعاد رسكلتها ويُستفاد من بقاياها، فما بالك بالموارد البشريّة؟ فشعار “يروحو قاع” يعني أنّ كل ما هو قائمٌ ينبغي إسقاطه إلاّ المؤسّسة العسكريّة. والحال قبل 22 فبراير أنّ العدالة كانت فاسدة، والولاّة كانوا مزوِّرين، والصّحافة كانت مطبِّلة، والرّأي العام كان مستقيلا، والاتّحادات والمنظّمات والنقابات والجمعيات والنّخب والمجتمع المدني كانوا مستفيدين، إلاّ قليلا منهم.. واليوم التحق الجميعُ بالحراك وصار ينادي برحيل النظام، فمن هو هذا النّظام الذي ينادي الجميع برحيله؟ هل هو بن صالح، وبلعيز، وبدوي، وبوشارب؟ وماذا عن البرلمان بغرفتيْه؟ أليس هو الآخر معنيّا بالرّحيل؟ والنّقابات العماليّة والاتحادات المهنيّة.. وكل من دعا إلى العهدة الخامسة، وجميع من استعرضوا على الشّعب عضلاتهم الحزبيّة في القاعة البيضاويّة؟ أليسوا معنيّين بالرّحيل؟ والذين وقّعوا ستّة ملايين استمارة لترشّح فخامته أليسوا معنيين بالرّحيل؟ أو بالاعتذار على الأقل؟ أم أنّ كلّ من يقلب معطفه ويلتحق بالحراك يصبح مواطنا صالحا لا صلة له بالأمس ولا علاقة له بالعصابة؟ ومن هي هذه العصابة؟ كم عدد أفرادها؟ ما هي التّهم الموجّهة إليها؟ من كان يحميها ويحرسها ويقمع من ينتقدها؟ أين “غار علي بابا” الذي كانت تُخزّن فيه مسروقاتها ومنهوباتها وما يتم تحويله من المال العام إلى هذا الغار السرّي؟ ألا يقع على الحراك واجبُ الضّغط على العدالة لتفتح ملفّات الفساد الثّقيلة، وليس البحث عن جواز سفر مزوّر!؟ الحراك ساعد المؤسسة العسكريّة على إسقاط رأس القوى غير الدّستوريّة، وإغلاق أبواب فرار المشبوهين، ومنع التدخّل الخارجي، وحرّر المؤسّسة العسكريّة من حرج المرافقة باعتمادها الحلّ الدّستوري وبقائها على الحياد ضمن المادة 28 من الدّستور بانتظار أن يفرز الحراكُ قياداتٍ ميدانيّة تُنهي الجدل حول مسألة التّمثيل، وتقطع الشكّ باليقين بفرض أنجع المشاريع المطروحة للخروج من مرحلة هدم القديم إلى مرحلة بناء الجديد، بترجيح كفّة أحد المشاريع الأربعة المطروحة: 1 مشروع “الدّولة النّوفمبريّة” الذي تقترحه النّخب الوطنيّة والإسلاميّة، ويساندهم الحراكُ في المبدأ العامّ، ويختلف معهم في آليات التنفيذ. ويُحتمل أن تتبنّاه المؤسسة العسكريّة، إذا استجاب الحراك لندائها الأخير. 2 مشروع الجمعيّة التّأسيسيّة الذي يتبناه تيار مؤتمر الصّومام، وكل من يلفّ حول عنقه خرقة حمراء أو زرقاء أو برتقاليّة.. 3 مشروع “المجلس الرّئاسي” الذي تنادي به المعارضة، وتتقاطع في كلياته ومقاصده مع المشروع النّوفمبري. 4 مشروع “القوّى المتخندقة” التي لا يخدمها الاستقرار، ولا تملك قاعدة شعبيّة تؤهّلها لخوض غمار الانتخابات، ولا تستطيع الكشف عن مشروعها التّغريبي.. ولكنها مازالت متحكّمة في مفاصل الدّولة: المال، والإدارة، والإعلام. على مشارف الجمعة التاسعة صار الرّأي العام منقسما إلى ثلاثة أقسام: أغلبيّة ساحقة ترفض الواقع برمّته وتطالب الجميع بالرّحيل، دون أن تقدّم بديلاً يطمئن إليه الناس. وأقليّة محاصَرة داخل بناءات الدّولة، ومتترّسة بالحلّ الدّستوري المنقوص، تراهن على ارتخاء يد الحراك واختلاف أطيافه حول التّمثيل والرّؤى والوضع الاقتصادي والجبهة الاجتماعيّة التي سوف يفضح شهرُ الصّوم هشاشتها. ونُخَبٌ تناقش الوضع وتقترح الحلول وتضع المعالم وتنتظر الأقدار لتصنع قائدا (أو قيادة جماعيّة) تفتح طريق الحوار وتستشرف المستقبل وتستجيب لطموح شعب أثبت نضجَه وسلميتَه وتحضّره وقدرتَه على وضع الأصبع على مكمن الدّاء. ولكنّه لم يرشّح من يصف له الدّواء. وصف الدّواء يفرض أن نعلن بصراحة ووضوح: أنّ الحراك أبطل الخامسة والتّمديد والإرجاء وخارطة بوتفليقة، وحرّر المؤسّسة العسكريّة من ضغط القوّى غير الدّستوريّة، والبقيّة أكملها الجيش، فالجيش هو الذي أزاح الرّئيس، وهو الذي رعى الحلّ الدّستوري، وهو الذي استدعى المادّتيْن السّابعة والثامنة، وهو الذي استخدم رسميا مصطلح “العصابة”، وهو الذي أغلق المنافذ الحدوديّة في وجه الفارّين من العدالة، وهو الذي دعا إلى فتح ملفّات الفساد الثّقيلة (خليفة، سونطراك، الطريق السيار..). وهو الذي قرّر مرافقة الحراك في جميع مطالبه، وفق مقاربة دستوريّة تستمدّ قوتها من سيادة الشّعب وتمارس سلطتها على الجميع، في مسار زمنيّ قصير، لم يبقَ منه سوى ثمانين يوما. لكنْ بين محطّة قطار الحراك ورصيف الباءات الأربعة محطّاتٍ إجباريّة تملك المؤسّسة العسكريّة وحدها حقّ توقيف القطار في أيّ لحظة لتغيير وجهته وإنزال أفراد القوى غير الدّستوريّة، وما أكثر “الحرّاقة” في قطار الجزائر الجديدة.