قبل أيام ورد النص التالي في موقع وزارة التعليم العالي: “تحسُّبًا لفتح ملف تعزيز استعمال اللغة الإنجليزية في الوسط الجامعي والبحثي، للدراسة والنقاش، تمّ إعداد منصّة رقمية ستُوضَعُ تحت تصرّف الأسرة الجامعية خصوصًا، والمواطنين عمومًا من أجل الإدلاء بآرائهم مباشرةً. للتنبيه، ستُتاحُ عملية سبر الآراء بدءًا من تاريخ 05 جويلية إلى 5 أوت 2019 عبر الموقع الإلكتروني للوزارة ومواقع مؤسسات التعليم العالي كلّها وصفحاتها على شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك عبر الرابط الآتي…”. بين “التعزيز” و”الاستبدال”! أثارت هذه المبادرة جدلا واسعا تجلت فيه كل الإيديولوجيات المعروفة في أوساط مثقفينا؛ فبينما هلّلت فئة المناصرين وضخّمت الحدث، راحت الفئة المناوئة تدق طبول الحرب وتتباكى عن “استبدال اللغة الفرنسية باللغة الإنكليزية”. ويلاحظ القارئ والمستمع أن هؤلاء في إثاراتهم عوّضوا لفظ “تعزيز” (renforcement) بلفظ “استبدال” (substitution) لمزيدٍ من التهويل. وما زاد الطين بلة في هذا الصخب الإعلامي مراسلة وزير التعليم العالي لمؤسسات قطاعه الداعية إلى تَرْوِيس الوثائق والمراسلات باللغتين العربية والإنكليزية. وقد ذهب المعارضون في مقالاتٍ صحفية وطاولات مستديرة – غالبا ما ينشّطها ويشارك فيها أفرادٌ لا علاقة لهم بما يجري في مجال البحث العلمي وفي التدريس بالجامعات الأجنبية- إلى إصدار أحكام غوغائية، مثل تساؤل بعضهم: كيف سنترجم ونجدد الآن ملايين المؤلفات والأطروحات بالإنكليزية؟ وحذروا من القطيعة التي قد تحدث بيننا وبين جاليتنا في فرنسا إذا ما اتجهنا إلى الانكليزية! ودافع آخرون عن طلبتنا الذين يسجلون سنويا في الجامعات الفرنسية متسائلين: من أين سنأتي لهم ببلدٍ أنكلفوني يعوّض فرنسا؟ بل قال أحدهم إنه لا برهان على أن الإنكليزية هي فعلا اللغة العلمية الأولى في العالم. وحتى الأديب أمين الزاوي كتب تحت عنوان “الحرب بين الفرنسية والإنكليزية في أرض أبوليوس على خلفية إسلامية!” أن “حربا لغوية جديدة قد أعلِنت اليوم”! والواقع، أن أولويات وزارة التعليم العالي في الوقت الحالي ليست صياغة الترويسات والنظر في الملفات المعقدة كملف التعامل مع اللغات. أما اللغة الإنكليزية في مجال البحث العلمي فهي حاضرة في جامعاتنا منذ عديد السنوات لأن معظم ما يصدر من بحوث في الحقل العلمي يُنشر في مجلات لا تقبل إلا اللغة الإنكليزية. ولذا، فمن يحضّر رسالة دكتوراه مضطر إلى نشر أبحاثه بالإنكليزية. وعلى سبيل المثال، فرسائل الدكتوراه الأربع في الرياضيات التي نوقشت بالمدرسة العليا للأساتذة بالقبة خلال الشهور الماضية حُرِّرت ثلاثٌ منها بالإنكليزية بمبادرةٍ شخصية من أصحابها. ومع كل ذلك، فلا مانع أن تحثّ وزارة التعليم العالي على “تعزيز” اللغة الإنكليزية في الجامعة شأنها شأن ما يحدث في أوروبا. في الجامعة الفرنسية حتى نتبيّن الأوهام اللغوية التي يريد أن يقنعنا بها المدّعون، أمثال الأديب أمين الزاوي، ندعو القارئ إلى إلقاء نظرة عما تكتبه وكالة “Campus France” (“الحرم الجامعي الفرنسي”). وهذه الوكالة هي الهيئة الحكومية الفرنسية التي تأسست عام 2010 بهدف مرافقة وجلب الطلاب الأجانب -لاسيما المتفوِّقين منهم- والسهر على دعم تعلم اللغة الفرنسية للمقبلين إلى فرنسا من هؤلاء الطلاب. من المهم في هذا المقام أن نذكّر بأن الدول المتقدمة أدركت منذ أمدٍ بعيد بأن التقدّم المنشود مصدره التقدُّم العلمي، وأن التقدّم العلمي لا يتأتّى إلا بوجود نخبةٍ علمية تعمل وتبدع وتبتكر داخل البلاد. وبما أن كمّ النخب العلمية الموجودة داخل تلك البلدان غير كاف فقد لجأت إلى جلبها من الخارج، وبوجهٍ خاص من مواهب شباب العالم الثالث. والوكالة الفرنسية المذكورة تعمل على هذا الصعيد، وتوجه خطابها مباشرة إلى الطلبة الأجانب الراغبين في الدراسة بفرنسا. وفي هذا السياق، تقول الوكالة في مطلع موقعها: “صار التكوين باللغة الإنكليزية ينتشر يوما بعد يوم في فرنسا… ومنذ عام 2015، صار من حق التعليم العالي التدريسُ باللغة الإنكليزية”. وقد أنشأت الوكالة قائمة تحدد التكوينات التي يجري تدريسُها كليًا أو جزئيًا باللغة الإنكليزية. ويضيف التقديم الصادر هذا العام في موقع الوكالة: “لقد زادت التكوينات (باللغة الإنكليزية) بنسبة تفوق 50% على ما كانت عليه عام 2014: عددها اليوم 1328 تكوينا”! ونقرأ في صفحة أخرى للوكالة أن عدد هذه التكوينات باللغة الإنكليزية كان 1204 تكوينات عام 2017. وتوضح الوكالة للطالب الأجنبي أن الجامعات العمومية في فرنسا انتهجت تدريجيا في باب التدريس باللغة الإنكليزية الطريق الذي سلكته المدارسُ الكبرى والمؤسسات التعليمية الخاصة في فرنسا قبل عام 2015. ثم تلاحظ الوكالة ما يلي: “إن فرصة الدراسة باللغة الإنكليزية تعتبر حافزا قويا لجذب الطلاب الأجانب. إنها أحد الأسباب التي تفسِّر تزايد نسبة الطلاب الأجانب الذين يختارون الدراسة بفرنسا، وتفسِّر حفاظ فرنسا على المرتبة الرابعة في قائمة البلدان التي يقصدها الطلبة الأجانب بعد الولاياتالمتحدة وبريطانيا وأستراليا”. وحسب إحصائيات الوكالة الفرنسية فإن عدد الطلاب الأجانب في فرنسا بلغ 343 ألف طالب خلال العام الدراسي 2017-2018. ونقرأ في نفس الموقع -في موضوع الإشهار لجلب الطلبة الأجانب- أن ميزانية تمويل البحث والتنمية في فرنسا بلغت 50 مليار يورو، وأن هناك 74 ألف طالب دكتوراه في مؤسساتها الجامعية. وأما نسبة طلبة الدكتوراه الأجانب فيُقدَّر ب42% (أي ما يقارب نصف مجمل طلبة الدكتوراه بفرنسا)! واللافت في هذه الصفحة الإشهارية المحرَّرة بالفرنسية والإنكليزية والإسبانية أن ثمة ملاحظة تشير إلى أنه يمكن “تحضير الدكتوراه بالفرنسية أو بالإنكليزية” موجودة في النص الفرنسي دون غيره. وللمقارنة نشير إلى أن جامعة باب الزوار رفضت قبل سنوات رسالة ماجستير لا لسببٍ سوى لأنها حُرِّرت بالإنكليزية، ولم يُسمح لصاحبها بمناقشتها حتى قام بترجمتها إلى الفرنسية! وفي أوروبا… وفي مكان آخر، تحت عنوان “القدوم إلى فرنسا” (“Venir en France”) نطالع في موقع الوكالة إحصائيات تفيد أن عدد التكوينات (ليسانس/ماستر) لعام 2017 بلغ في فرنسا 1516 تكوين، منها 1204 باللغة الإنكليزية، (88 ليسانس و926 ماستر، والباقي بمثابة دورات خاصة قصيرة المدى). وبعد ذلك تحدد الوكالة الاختصاصات التسعة التي يغطيها التكوين باللغة الإنكليزية، وهي الآتية، كما وردت في الموقع: الأعمال والإدارة/ السياحة والفندقة/ العلوم والبيئة والعلوم الصحية/ الزراعة والصناعات الزراعية/ الرياضيات/ الهندسة والتكنولوجيا/ الحقوق والاقتصاد/ العلوم الإنسانية واللغات والأدب/ العمارة والفنون. والجدير بالذكر أن التوجُّه نحو استعمال الإنكليزية في الدراسات العليا في أوروبا قد شمل جميع بلدانها. وهكذا، نجد عدد التكوينات باللغة الإنكليزية في ألمانيا والدنمارك وإسبانيا وفنلندا وهولندا والسويد وفرنسا قد تجاوز 6 آلاف تكوين! فهل يحق لنا -نحن في الجزائر- بعد ما يجري في الجامعة الفرنسية بصفة خاصة، والأوروبية بصفة عامة، من تغلغلٍ للغة الإنكليزية في الدراسات العليا، أن نقيم الدنيا ولا نقعدها بمجرد أن يدعو أحدُنا إلى “تعزيز” استعمال هذه اللغة في التعليم العالي”؟ نعتقد أن هذه الدعوة تعتبر (بلغة السياسيين) “لا حدث”!