واسيني الأعرج عاد إلى الجزائر رئيسا للجنة تحكيم مهرجان المسرح المحترف بعد التتويج الكبير الذي أحرزه عن رواية الأمير عبد القادر التي منحته جائزة الشيخ زايد للكتاب. "الشروق" التقته في هذا الحوار الذي تحدث فيه عن رواية الأمير ومشروع عمله الجديد "سراب الشرق"، وعن أسئلة أخرى حول تجربته الأدبية وإشكالات الثقافة في الجزائر والقطيعة بين الأجيال، أجاب عنها واسيني في هذا الحوار. أحرزت رواية الأمير واحدة من أكبر الجوائز وهي جائزة الشيخ زايد للكتاب، هل يعني هذا أن واسيني قد تصالح اخيرا مع أنظمة البيترودولار؟ جائزة الشيخ زايد التي عادت لكتاب الأمير هي ليست تكريما لشخصي بقدر ما هي تكريم لكل الأدب الجزائري والأدب المغاربي بصفة عامة، لأنه قلّ ما يحظى الأدب المغاربي باهتمام المشارقة، وهي فخر لي كجزائري وأشعر أنها حمّلتني مسؤوليات تجاه أعمال قادمة ومشاريع أخرى هي في الأفق. أما بشأن ما قيل عن البيترودولار، فإني أشفق على من قاله لأنه الوحيد الذي يغرد خارج السرب ولا أشعر بالرغبة في الرد عليه، كما أنني لم أكن يوما ضد دول الخليج ولي فيها أصدقاء كثيرون، كل ما هنالك أن لدي موقفا كمثقف وكاتب يرى أنه من الواجب أن تذهب خيرات الشعوب العربية في إرساء الحداثة والديمقراطية والرفاهية للشعوب، وهذا أمر تشترك فيه كل الدول العربية بما فيها الجزائر، التي اعتبر مثلا أن فضيحة الخليفة فيها جزء من فساد البيترودولار، وهذا نضال آخر تقوده الشعوب ولست انا. من جانب آخر، اعتبر أن أي إنسان يجب أن يكون مجنونا حتى يشكك في نزاهة وكفاءة أعضاء الجائزة أمثال جابر عصفور وعبد الله الغذامي وصلاح فضل وغيرهم. فتحت عبر الرواية ملف ماسونية الأمير، ألم تكن خائفا من ردود الافعال تجاه شخصية تحظى بتبجيل يصل إلى حد التقديس؟ فعلا، راودني مثل هذا الخوف لكني كنت مستعدا له بالأدلة والوثائق التاريخية التي اشتغلت عليها لمدة 4 سنوات، اطلعت خلالها على العديد من الدراسات والابحاث والمذكرات الشخصية لصنّاع الحدث في ذلك الوقت واكتشفت الحوار الحضاري الرائع جدا بين الأمير والمونسنيور دوبيش، وازدادت عظمة الأمير عندي لكن لم أعثر على أي وثيقة وشاهد تاريخي يؤكد ماسونية الأمير رغم ما يشاع أنه انتمى الى المحفل في هيكل الاسكندرية بعدما أخلف موعده مع محفل باريس، ولكن الأمير مرّ من الاسكندرية وهو عائد من الحج ولم يمض أية وثيقة تثبت أنه انتمى فعلا الى الماسونية، وصراحة كنت انتظر أن تحدث الرواية نقاشا معينا في الجزائر خاصة حول قضية عين ماضي ومواقف الأمير فيها، وهنا أفتح قوسا لأطلب من الجمعيات التاريخية وفي مقدمتها مؤسسة الأمير عبد القادر. أن تنوّرنا في هذا الجانب لأنني لست مؤرخا ولكني روائي بالدرجة الأولى. الرواية كانت أيضا مشروع فيلم سينمائي، إلى أين وصلت الفكرة؟ لا أدري بالتحديد لأني لم أعد معنيا بهذا الجانب، أنا قدمت حقوق الرواية لتنتج فيلما عالميا، وقد حضرت الاجتماع الاول مع رئيس الحكومة بحضور أعضاء ومنتجين فرنسيين قدموا 60 في المائة من ميزانية الفيلم، ومستعدين لتقديم الأربعين الباقية بشرط توفير مخرج وممثل عالمي، وقد تم اقتراح ريدلي سكوت وغوسطا غفراز، لكن سمعت أن هناك مشروعا آخر أتمنى فقط أن يكون العمل المنجز بمقاييس عالمية وليس مجرد فيلم تاريخي لأن الأمير إرث عالمي ومن شأنه أن يرفع من صورة البلد خارجيا، وقد جاءتني اقتراحات من سوريا لتحويل الرواية إلى مسلسل، لكني تريّثت حتى أرى الالتزام الأول إلى أين سيفضي. ألا تظن أن المشروع سُحب منك لمواقف سياسية بسبب جنسية واتجاه غفراز تحديدا، كونه مخرجا يهودي الأصل؟ ربما، لا أعلم النوايا والاسباب حقيقة ولكن إذا كان الأمر كذلك، على الجزائريين أن يحلّوا هذه المشكلة مع أنفسهم ويكونوا براغماتيين لأن لنجاح فيلم من وزن الأمير لا بد من تسويق مخرجين وممثلين عالميين معروفين، وفي هذا الصدد لا أحد يشك في قدرة غفراز الذي يعرف الجزائر جيدا وهو قريب جدا من قضاياها، وريدلي سكوت الذي قدم صلاح الدين الأيوبي كان أول عمل أمريكي يتحدث عن القضايا العربية بموضوعية كبيرة. قلت إنك رفضت ترجمة رواية الأمير الى العبرية، ألا تظن بهذا انك فوّت فرصة ثمينة على الأمير حتى ينفذ الى عمق ثقافة آخرى تناصبنا العداء؟ شكرا لك لأنك منحتيني فرصة تصحيح هذا الأمر، أنا لم اقل ابدا أنني ضد ترجمة الرواية الى العبرية وإلا كنت منعت ترجمة "سيدة المقام" قبلها، أنا لا أصفي حساباتي مع اللغة أنا لست ضد العبرية كلغة، لكن ضد الصهيونية وما ترتكبه في فلسطين والأراضي العربية وقلت إن الوقت ربما لم يحن لترجمة العمل في ظل الأوضاع السائدة في المحيط العربي، وقد تأول موافقتي للترجمة في هذا الظرف تحديدا، عدا ذلك لا أحمل حقدا لأية لغة كانت وإلا كنت صفيت حساباتي مع الفرنسية لأن والدي استشهد في ثورة التحرير. برواية الأمير تكون قد دخلت مرحلة كتابة الرواية التاريخية، هل تريد إعادة زمن جورجي زيدان؟ لا أنظر للرواية التاريخية من زاوية جورجي زيدان، لأنه يعتمد على نسج الاحداث التاريخية في قالب رومانسي لتقديم الحوادث التاريخية. أما أنا فلا اعتبر نفسي مؤرخا، أنا أديب في الدرجة الاولى اسعى لإعادة بناء الاحداث والشخصيات التاريخية على ضوء الحاضر لاستخلاص المواقف والاشتغال روائيا على البياضات التي لا يقولها التاريخ، فرواية الأمير مثلا اعتبرها كتاب حوار الحضارات من خلال العلاقة بين دوبيش والأمير عبد القادر نحن اليوم بحاجة اليه في ضوء العلاقات المتشنجة بين العالم العربي وأمريكا مثلا. ربما غياب هذه النظرة التاريخية هي ما جعلك تعتبر صعود المد الأصولي في العالم العربي نتاج سقوط المشروع النهضوي العربي؟ المشاريع الحداثية في العالم العربي لا تعتمد على بناء الانسان أو الاستثمار في العقول واللحظات التاريخية ولكنها تريد اعادة بعث الماضي كما هو في الحاضر بدون حساب الفاصل الزمني في هذه اللحظة التاريخية وهذا خطأ كبير لأن الزمن الذي ينظر له اليوم بمثالية هو أمر نسبي يجب وضعه في سياقه التاريخي بكل زخمه، وخارج هذا لا يمكن للمشاريع النهضوية أن تبنى فقط بأشخاص معزولين عن الرغبة في مراجعة واستيعاب اللحظة التاريخية والأهم من ذلك وعيها. العزلة التي عوّضت "البني كلبون" بحراس النوايا في روايتك "سيدة المقام " التي أشارت إلى بوادر العنف في الجزائر قبل حدوثها، هل كانت نبوؤة أدبية؟ لم تكن نبوؤة لكن صرخة رواية من خلال معايشة بعض البوادر التي لمستها في نهاية الثمانينيات وكنت أقول دائما أنني اخاف على هذا البلد وقد تحقق ذلك الخوف والرعب الروائي وعشناه في الواقع وانتحار البطل في نهاية الرواية لم يكن غير انتحاري الداخلي. دعنا نعود إلى رواية "طوق اليسامين" التي قدمت في المشرق العربي على أنها سيرة ذاتية، هل كانت فعلا كذلك؟ في الرواية بعض الاشياء مني وبعض تجاربي في المشرق ولكنها لم تكن سيرة ذاتية بحذافرها. الرواية التي نشرت أول مرة تحت اسم "وقع الاحذية الخشنة" في المشرق لم تكن في نيتي نشرها ابدا لكنها صدرت وأحدثت احتجاجا لدى العديد من الأصدقاء الذين احتجوا على فضح بعض من طيش الطفولة، ورفضت اعادة نشرها الى غاية اعادة كتابتها بشكل آخر، فجاءت في كتاب "طوق اليسامين" وأعتبر أن "وقع الاحذية الخشنة" هي رواية فاشلة في مشواري رغم أنها استقبلت بحفاوة عند صدورها. في رواية "ما تبقى من سيرة لخضر حمروش" يلجأ البطل الى الاحتماء بالتراث الشعبي كثيرا بعد هروبه من السجن بعد مشكلة سياسية، هل هذا تعبير عن خيبة الخيارات الاديولوجية لواسيني شخصيا؟ الرواية مرّ عليها زمن طويل وقد تكون ربما نوعا من الخيبة ولكن الاحتماء بالتراث الشعبي شيء ضروري لصناعة العوالم الروائية، وقد كتبت هذا النص في لحظة تحول شهدتها الجزائر ومرّ عليها الآن زمن طويل ومن الصعب جدا تذكرها أو العودة حتى إلى تفاصيلها، ومسألة الخيبة هنا نسبية لأن مسار حياة الإنسان يخضع دائما للمراجعة. وماذا عن كتابك حول الفساد في المؤسسات الثقافية في الجزائر الذي لم ير النور إلى اليوم؟ كان مشروعا مطروحا منذ فترة لكن وزعت أجزاءً منه في صحيفة الوطن، مشروع الكتاب جاء انطلاقا من ملاحظة ظاهرة مرضية في الجزائر وهي فساد وغباء المؤسسات الثقافية التي تحاول ان تستغبي المثقف الذي بمجرد أن يدخل في سياق المؤسسات حتي يتحول من معارض الى مدافع شرس عن خيارات المؤسسة التي لا تدافع هي عن نفسها بقدر ما يدافع عنها المثقف، وجدت مثلا في لبنان أناسا وجماعات "تبزنس" في النشر على ظهر الدولة وباسم الدولة، هناك حالة مرضية فعلا تستدعى الدراسة والانتباه وهي في غاية التعقيد. أنت بصدد الاشتغال على مشروع روائي كبير "سراب الشرق" في إطار جائزة قطر للرواية العالمية، كيف دخلت المغامرة؟ عندما اتصل بي القائمون على المشروع وطرحوا علي الفكرة وهي الاشتغال على الحقبة العربية من اتفاق سايكس بيكو الى اليوم، وجدت ان الامر صعب، يعني الاشتغال على قرن من الزمن وكنت قد خرجت لتوي من تجربة كتاب الأمير وحاولت الاعتذار ولكن بمجرد اطلاعي على بعض المصادر التاريخية اكتشفت أن من حمل علم الوحدة العربية هو ابن أخ الأمير عبد القادر الأمير سعيد، وقادتني المغامرة من جديد لاكتشاف الأمير عربيا فوافقت على المشروع الذي أنا بصدد وضع لمساته الاخيرة، في إطار عقد تشرف عليه اليونسكو وتموّله دولة قطر. وهل تعود مجددا للاشتغال على الأمير عبد القادر؟ نعم سأشتغل لاحقا على الأمير والتصوف واعتبرها أهم مرحلة في حياة الأمير التي تكشف جوانب من شخصية الأمير الإنسان وليس المحارب بل الأديب الصوفي والباحث ايضا، فقليلون مثلا يعرفون أن الأمير هو من نشر كتاب الفتوحات المكية لابن عربي وأشياء أخرى، بعيدا عن صورة الأمير المحارب. أنت تنتمي إلى جيل أحدث في وقت ما القطيعة الادبية مع من سبقه، لكن بعد جيلكم لم تحدث قطيعة مماثلة، لماذا في رأيك؟ عند أجيال اليوم يسود مرض غياب القيم، فالقيمة عند هؤلاء هي في أنفسهم التي تشع على الآخرين ويرغبون في قتل الأب في الرواية بالخطاب، والخطاب لا يقتل ابدا بل الذي يقتل الأدب إن شئنا هي الاعمال الاديبة، فكاتب ياسين تجاوز ديب بنجمة، لكنه ظل يحتفظ باحترامه لديب، وبوجدرة أطلق النار على نجمة بالتطليق أما اليوم فالاجيال الجديدة مخطئة إن ظنت انه يمكن بناء جيل جديد بدون إرث روائي سابق، لكن هذا لا ينفي أن في هذا الجيل اسماء متميزة امثال عمارة لخوص الذي أجد أنه روائي قادم بهدوء لكن بتميّز، هناك تجربة فضيلة الفاروق مثلا والزمن وحده كفيل بفرض الأسماء، فجيلنا مثلا لم تبق منه إلا أسماء معدودة رغم اننا كنا بالعشرات، لكن كانت لنا رهانات، مثلا كنا نعتبر أن وطّار قيمة أدبية جزائرية وهو أب الرواية الجزائرية ونحتفظ باحترامنا له ونستضيفه في الجامعات ونعتبره حالة إبداعية نادرة انجبتها الثقافة المعربة بعيدا عن خطاب الفقهاء الذي توصم به الثقافة المعربة في الجزائر. رغم أنك هاجمت وطّار وخضت معه حروبا إعلامية؟ الاختلاف مشروع، اختلافنا صحيح لكن لم أقلل يوما من قيمة وطّار الادبية كأب مؤسس للرواية الجزائرية، وبقيت أحترمه وأحترم مكانته واعترف أن الحروب الادبية في الجزائر قليلا ما أثمرت، فهي معارك عابرة ينتجها الفراغ الثقافي ولا تفيد كثيرا، لكن على الاقل في جيلنا كانت تسود قيم معينة بغض النظر عن صلاحها من عدمه، لكننا كنا نحاول التأسيس لتجاوز بعضنا بالكتابات وليس كما تفعل بعض اسماء جيل اليوم التي تسب اسماء السبعينيات وتقتات على كتبها ونصوصها وحتى فقرات من كتبها. ختاما، هل من مشاريع أخرى في الأفق؟ بصراحة، أنا خرجت من تجربة متعبة وسأهتم بوالدتي قليلا، في الأربع سنوات القادمة لن أكتب شيئا في الرواية، وهذا التزام مع نفسي. حوار زهية منصر: [email protected]