د بشير مصيطفى – الدوحة / قطر [email protected] عقد الثمانية الكبار اجتماعهم الدوري هذه المرة في ألمانيا نهاية الأسبوع الماضي وافترقوا على خلافات بشأن أهم القضايا التي تشغل بال الكبار: بدائل الدرع الصاروخي الأمريكي في أوربا الشرقية و استقلال اقليم كوسوفو عن صربيا. وكما توقعنا في مقال سابق لم يحسم في مستقبل جولة الدوحة للتجارة العالمية وتناسى الجميع الملف العراقي وكأن العراق شأن داخلي لأمريكا لا ينبغي طرحه على أجندة متعددة الأطراف. وقد حضر ممثلون عن النيباد لاقناع الثمانية الكبار بشراكة حقيقية مع الجنوب الحزين فنالوا من ذلك وعدا بمساعدة قدرها 110 مليار دولار نصفها لشراء الدواء ونصفها الآخر لشراء المعدات من شركات أوربية وأمريكية معروفة . فما المنتظر من مثل هذه الاجتماعات ؟ وهل تخدم فعلا هموم التنمية والمسؤولية الاقتصادية في العالم ؟ اجتماعات مؤقتة حول مصالح دائمة الاجتماعات الدورية للثماني الكبار لم تكن أبدا في اتجاه التنمية العالمية بدليل أن الدول الناشئة التي فتحت لها أسواقا كبيرة فعلت ذلك بعيدا عن قرارات الدول الصناعية الكبرى ، ومازالت الدول الفقيرة التي أفضل أن أسميها بدول الجنوب الحزين والتي ارتبطت بمساعدات البنك العالمي ومساعدات الدول الكبرى مازالت تعاني من تدني نسب النمو وانتشار ظاهرة الفقر . ويمكن لنا أن نضرب مثالا واضحا عن هذه الحقيقة ، فكوريا الجنوبية تطورت سريعا بفضل نموذج متميز لتدخل الدولة والاستثمار في الانسان من حيث المعرفة والابداع التكنولوجي وهو اتجاه معاكس تماما لتفضيلات الدول الصناعية من حيث الانفاق الحكومي وحرية الأسواق . بينما نجد دولا مثل لبنان الذي استسلم سريعا لتوجيهات البنك العالمي مثقلا بأكثر من 40 مليار دولار كمديونية خارجية دون أن يتمكن هذا البلد من تحقيق أي مستوى للتنمية . وواقع الحال أن مسعى الدول الصناعية الكبرى هو ترجمة حرفية لنظرية السفير الفرنسي الأسبق ألان بلانتي في الدبلوماسية بين الدول حيث تقفز المصلحة على حساب التوازن العالمي وتبيح الدول الكبرى استخدام كافة انواع السلاح من أجل تحقيق مصالحها . وهذا ما لاحظناه في قمة ألمانيا الأخيرة حيث طغى موضوع نشر الدرع الصاروخي على أراضي دول قريبة من مصادر الطاقة والمياه : بحر قزوين ، العراق ، تركيا، الحدود الايرانية ، بولندا حيث يمر مشروع امداد أوربا بغاز تركمنستان . أما حكاية 16 ألف عون أمن الذين جندوا لحراسة الاجتماع فيعكس حقا حجم ردود الفعل المحتملة لطبقات واسعة من المجتمعات الغربية ، تلك الطبقات التي أصبحت تشك في نوايا الكبار بل تتهمها بتكريس أوضاع التخلف والفوضى في تلك الدول التي نسميها بالدول المستعمرة. ولا أدل على هذا من الوضع الذي آل اليه العراق جراء التدخل الخارجي من كبار العالم ، فأمريكا تعتبر الملف العراقي ملفا أمريكا يخص الشأن الداخلي للولايات المتحدةالأمريكية كما كانت تعتبر فرنسا الملف الجزائري ابان الاحتلال ملفا فرنسيا لا يمكن التدخل فيه الا عبر مجلس الأمن . والغريب في ذلك أن يتقدم الزعيم الروسي بوتين باقتراح تحويل الدرع الصاروخي المزمع نشره في بولونيا الى كل من تركيا والعراق وهما دولتان مسلمتان قريبتان من ايران وهي الأخرى دولة مسلمة الشيء الذي يكرس نظرة الغرب المسيحي الى العالم الاسلامي والعربي كساحة للتجارب . لقد كان من الأولى أن يناقش اجتماع الثماني أجندة انسحاب القوات الأمريكية وحلفائها من العراق ووضع خطة دبلوماسية لانهاء الصراع في منطقة الشرق الأوسط وايران على اعتبار أن الثمانية الكبار هم اللاعبون الرئيسيون في المنطقة في الوقت الراهن . لهذا استبعد العملاق الصيني لماذا يقف الثماني الكبار على مسافة من العملاق الصيني ؟ سؤال طرحناه سابقا ومازالت الاجابة عنه تنكشف مع الأيام ، فلا يمكن للدول الصناعية الثمانية ان تسمح بانضمام الصين الى محفل الكبار على خلفية مذهبية واضحة ، فالصين تمثل الطريق الاقتصادي الثالث الذي يهدد الشركات الرأسمالية الكبرى التي لا تتصور نفسها تعمل خارج النظام الرأسمالي بحريته المعروفة ونظامه في هندسة التجارة بين الدول ، كما أن الصين تملك مخططا للتوسع التجاري جنوبا في افريقيا والمنطقة العربية وانضمامها لمجموعة الكبار يعني حقها في صياغة القرارات التي ستحكم العالم الاقتصادي لسنوات قادمة وخاصة تلك القرارات التي من شأنها أن ترسم مستقبل افريقيا والعالم العربي وبعض دول امريكا اللاتينية . انه الخوف من تحول مصادر القرار من المركز الرأسمالي في الغرب الى مناطق أخرى محتملة مثل آسيا الوسطى وشرق آسيا خاصة وأن المفهوم الصيني للتنمية في العالم أي مفهوم التنمية المتوازنة مازال يستقطب يوميا اهتمام الدول في الجنوب الحزين ويحظى بتقدير جمعيات مناهضة العولمة في الغرب العدو الأبرز لمسعى الثمانية الكبار . ومن جهة أخرى لا ينبغي لنا نسيان التاريخ ، فقبول روسيا ضمن صفوف الكبار كان على خلفية تأمين امدادات الطاقة من الغاز الى الاتحاد الأوربي والتنازل عن الاتحاد السوفيتي كقطب سياسي استراتيجي في التوازن الدولي ، في حين ترفض الصين رفع سقف تنازلاتها فوق الاعتبارات التجارية التي تمليها قواعد الانضمام للمنظمة العالمية للتجارة كمحاربة الاغراق مثلا وهو السقف الذي لم يعد يرض الثماني الكبار بأي حال من الأحوال ، وترفض أيضا أن ترفع من سعر صرف اليوان مقابل الدولار الأمريكي. والمتتبع لمسار عمل الثمانية الكبار ولسياساتهم تجاه العالم النامي يشعربتحكم القوة والمال في مصير شعوب بأكملها ، وقد نبهنا مرارا الى خطورة الوضع في دول الجنوب كساحات لتجارب البنك العالمي في التنمية وكأسواق للسلاح ولمنتجات الدواء التي تروج لها شركات رأسمالية معروفة . والظلم الذي مازال مسلطا على الشعوب النامية لا يعني فقط استغلال ثروات الدول الفقيرة منذ بداية القرن الماضي في صورة مواد زراعية ومنجمية وفي تجارة الرقيق بل تعدى ذلك اليوم الى ربط اقتصاديات هذه الدول بالمركز الرأسمالي عن طريق ما يعرف بمساعدات التنمية . وقد أسفرالاجتماع الأخير المنعقد بألمانيا على وعد بمد الدول الفقيرة بمبلغ 110 مليار دولار تكريسا لهذه النظرة الضيقة لشروط التنمية الحقيقية . يبدو لي أن قمة الظلم أنك تغلق أسواقك أمام منتجات الجنوب الزراعية وتعمل على خفض قيمة الدولار العملة الدولية الوحيدة في مبادلات المحروقات والذهب بدل أن تمد هذه الدول بالاستثمارات اللازمة لبناء قواعد اقتصادية متينة ومستديمة . فاجمالي المبالغ التي قررها اجتماع ألمانيا هذه السنة هو 60 زائد 50 مليار دولار، الأول لمحاربة الأمراض والثاني للتنمية في افريقيا أي ما مجموعه 110 مليار دولار، وهي مبالغ تمثل نوعا من الدعم غير المباشر لشركات الدواء والمعدات الزراعية الأمريكية والأوربية . انها نوع من خطوط القرض التي استعملها نادي باريس في التسعينات لتمكين الدول الفقيرة من شراء البضائع الأوربية المعرضة للكساد . والدليل على ذلك أن مخصصات مكافحة الأمراض من نوع الايدز والملاريا لايمكنها القضاء على المرض بقدر ما تمكن من تخفيف الألم ومكافحة أعراضه عن طريق الأدوية التي تصدرها الدول الصناعية بأثمان باهظة تؤمن أرباحا طائلة للشركات الرأسمالية المتخصصة في تكنولوجيا الدواء . ويبدو لي أن ممثلي النيباد في قمة الثماني فشلوا في تمرير رسالة للأفارقة كان مطلوبا تمريرها : توطين التكنولوجيا ، دعم البحث العلمي في الجامعات الأفريقية ، الشراكة الحقيقية في البنى التحتية وبناء محطات الكهرباء ، دعم المزارعين واطلاق المؤسسات ، محاربة البطالة وفساد الحكم وسوء ادارة الاقتصاد ، بدل المساعدات التي غالبا ما تذهب لجيوب العائلات الحاكمة . بكل تأكيد ، الارتباط بقرارات الدول الكبرى لم يعد يسمح بأي تقدم على سلم التنمية الاقتصادية لدى دول الجنوب والتاريخ يؤكد هذا ، فجميع الدول التي حققت نموا متواصلا في أمريكا اللاتينية ووسط آسيا هي دول تحمل رؤى تنموية معاكسة للنظام الرأسمالي وناقدة لسياسة البنك العالمي وغير متفقة تماما مع مسعى الدول الصناعية الكبرى .وفي هذا الصدد أنقل للقارئ الكريم ما ذهب اليه أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا جفري ساش من أن تحرر الصين من املاءات البنك العالمي كان واحدا من أهم العوامل التي أوصلت هذا البلد الى تحقيق نسب نمو تراوح 13 بالمائة سنويا ، شهادة أخرى عن فشل الغرب الرأسمالي في معالجة قضايا التنمية والمسؤولية الاقتصادية في العالم وشهادة ننقلها أيضا بمناسبة الزيارة التي يقوم بها حاليا وفد عن البنك العالمي الى دمشق من أجل تقديم خبرة هذه المؤسسة الى الحكومة السورية وهي تباشر اصلاحاتها الاقتصادية في اتجاه مزيد من العولمة .