1 حسابي لم ينته مع الكنيسة الغربية: ” قفز الرّجل الخارق وسط الجموع، ثمّ ركّز نظره فيها، وصاح: أتدرون أين هو الاله؟ سأخبركم! لقد قتلناه نحن! أي نعم نحن! أنتم وأنا! نحن جميعنا قتلناه! بهذه العبارات يبدأ نيتشه صياغة نصّه المشهور في كتابه “العلم المرح” وبطله هو “الرّجل الخارق” ذلك العرّاف المعتوه الّذي لم تفهمه الجموع التي كان يصرخ فيها بكلام غير معقول. لقد أراد نيتشه من خلال هذا النّص أن يتسرّب الى القراء في ثوب “الرّجل الخارق” ليخبرهم أنّ الأفق قد تجلّى أمامه، وأنّ البشر لا زالوا يتخبّطون في الظّلام، لهذا كان على “الرّجل الخارق” أن يشعل لهم المصباح في هاجرة النّهار. وأنّ المعتوه كان عرّافا و نبيًّا و مستنيرا. ولأنّهم لم يفهموه نادى فيهم : ” لقد جئت باكرًا، لقد جئت قبل زماني، فأعظم الأحداث لازالت في طريقها إليكم، إنّها لم تخترق آذان البشر بعد!” لكن أليس علينا أن نتساءل حتى نفهم هذه الهرطقة من فيلسوفٍ كان يكتب أفكاره بين نوبة جنون وأخرى ثمّ انتهى به المطاف الى أن قضى مجنونًا. كيف لإنسان فانِ أن يقتل إلهًا خالدًا أليس هذا ضربًا من العته الفكري والخَرَف العقلي؟ ألا تبدو أفكارنيتشه متضاربة مع العقل ولن يستطيع أحد أن يبرهن عليها حتّى لو ألمّ بكلّ دلائل المنطق. وحتّى نفهم علينا أن ندرك أنّ الصّراع لم يكن بين نيتشه الانسان الفاني وبين الإله الخالد، وانّما كان بين نيتشه والكنيسة،وبين نيتشه ومنظومة الأخلاق التي غرسها الكهنوت في نفوس النّاس، والتي تدعو الى الاستكانة والخنوع والخضوع والعزوف عن الحياة. لقد رفض نيتشه فكرة الكنيسة التي تنادي بالتعالي الرّوحي على الحياة واحتقار الجسد، لأنها تعبّر عن الضّعف، ودعا الى تقديس القوة وحبّ الحياة والى الجشع والحسد والأنانيّة ولأجل هذا أيضًا انتقد الفيلسوف شوبنهاور الذي دعا الى العزوف عن الحياة لتجنب آلامها. ورفض الدّاروينية لأنّ الانسان بالنّسبة اليه يولد من رحم الارادة وليس مجرّد طفرة تطوّرية وراثية ذات طابع عشوائي. وأنّ أفضل شيئٍ في الحضارة هو ما انعكس في العيّنات الفذّة من الفنّانين والفلاسفة في البرزخ العازل بين هؤلاء الأفذاذ والانسان العامّي وهو أوسع مدى من تلك المسافة الفاصلة بين الانسان والشمبانزي. كما رأى نيتشه أيضًا أنّ “الكنيسة لم تَدَع شيئًا إلاَّ لمسته بفسادها، كل قيمة حوَّلتها إلى لا قيمة، وكل حقيقة إلى كذب، وكل أمر مُشرّف إلى حِطَّة للرّوح. أفيتجاسر أحد مع ذلك فيكلّمه عن بركتها الإنسانية. لقد عاشت على حالة الحاجة والبؤس. التطفل هو الممارسة العملية الوحيدة للكنيسة! الكنيسة بأفكارها ذات اليرقان وفقر الدم والقداسة، التي تنهب حتى الأخير كل دم، كل أمل، وكل محبة في الحياة. تُضاد الصّحة والجمال والإتقان، والإقدام،والهمّة، وكرم النفس، إنّها تضاد الحياة ذاتها”. هذا الاتهام الأبدي ضد المسيحية يريد نيتشه أن يكتبه فوق كلّ الجدران، حيث توجد جدران، فهو وحده من يملك حروفًا مرئيّة حتى للعُميان”. تحيّز نيتشه في فلسفته القيمية الى إعلان جان جاك روسو” ولد الانسان حرّا وهو مقيّد بالسّلاسل في كلّ مكان” فدعا الى الثّورة على القيم السّائدة ورأى فيها مجرّد اختراعات لمؤسّسات دينيّة، هي مصدر تعاسة الانسان، وعائق لتحرّره. فحتّى يتحرّر عليه أن يبحث عن قيم جديدة وأن يمسك بمصيره بعيدا عن قيم الخنوع والخضوع. غيرأنّه في نفس الوقت تمادى في غيّه فدعاه الى التّمرد على كلّ قيم الفضيلة والرّحمة والاحسان التي جاءته من عالم آخر غيرعالمه المشهود. دعاه الى التّمرد على قيم الدّين التي تميز بين القبيح والحسن. وتوازن بين النّافع والضّار. وتذكّره بمنشئه الأوّل ومرجعه الأبديّ. فأنكر كلّ شيءٍ وتمرّد على كلّ قيمة ومبدأ. إنّ نشأة الالحاد والنظرة المادية المرتبطة به والدّعوة الى التّمرد على المنظومة الأخلاقية الدينيّة التي تبنّاها نيتشه لم تنشأ من فراغ، بل كانت احدى النّتائج الجانبية للفوران الفكري في القرن ال19 وعلينا أن نفهمها في سياقها التاريخي. فقد وجد نيتشه أنّ أوروبا قد أقصت الدّين عن حياتها ولم يبق منه سوى روحانية هزيلة تتنكرللجسد وحقه، وتحتقر مباهج الحياة وطيباتها، فرفض بدوره الإيمان بالدّين كلية وأجهزعليه. إنّه لا عجب إذا وجدنا أنّ محمد اقبال أكبر فيلسوفٍ وشاعر مسلم أكثر من ذكر نيتشه في كتابه “تجديد الفكر الدّيني” وقال عنه أنّه: ” عبقري عظيم لم يتمكن من إخراج كل طاقاته، ونبيّ من أنبياء العصر خانه حواريوه”. والحقيقة أن اقبال ذكره ولم يفد منه في شيئ وانما اتّفقت رؤاهما في النّظرة الى الانسان وافترقت في النّظرة الى الدّين عندما قال اقبال ب”الانسان الكامل” ونيتشه بالرّجل الخارق. كما تشابهت رؤاهما أيضًا إلى ما آل اليه الدّين على يد حفنة من الرّجال انتهى الى ازدراء الانسان وتحقيره، فمثلما عانى الغرب من أخلاق الذلّ والهوان، عانى الشّرق ايضا من نفس المشكل على يد الدّراويش وأصحاب التديّن المغشوش حتّى تأوّه اقبال في ذلك شعرًا: فإلى متى صمتي وحولي أمّة ….. يلهو بها السّلطان والدّرويش هذا بسبحته وذاك بسيفه ….. وكلاهما ممّا نكِدُّ يعيش لقد صبّ نيتشه غضبَه على الكهنوت وكراهيته لأخلاق الخنوع والضعف التي يغرسها باعتباره فاعلاً اجتماعيًّا في صفوف المجتمع. و رفض فكرة الإله المصلوب العاجز عن حماية نفسه، قائلا: “إن أمة هذه آلهتها لن تنهض أبدًا”. وفي سياق هذا الغضب جاءت نظرته الايجابية للثّقافة الاسلامية التي عملت الكنيسة الغربية على محاربتها وتشويهها وحرمان المجتمعات الأوربية منها، ولكنّها نظرة صيغت في عبارات وشذرات مُقتضبة. 2 نيتشة وخاطرة عن الاسلام إنّه بعكس غوته الذي أبدى اعجابه بالشرق واغترف من أشعار حافظ الشيرازي وجلال الدين الروّمي و تحلّى بالقرآن الكريم في الكثير من كتاباته، فإنّ نيتشه لم يُفرغ حيّزًا كبيرًا للاسلام وللثقافة الاسلامية، اللّهمّ إلاّ شذرات لا تُبين موقفه من الاسلام كدين، بقدر ما تُبيّن اعجابه بالثقافة الاسلامية العربية وخاصّة في الجهة المغاربية منها وذلك كلّه في معرض تهجّمه على اللاّهوت المسيحي وجعله من الثّقافة والفنّ معيارا يحدد به قيمة الانسان. فلم يكن نيتشه من الباحثين في الاسلام ولا ثبت أنّه اطّلع على كتابات المستشرقين عنه، اللّهمّ إلاّ القليل من كتب الرّحالة الألمان الّذين زاروا المشرق. فقد تركت الكثير من القيم الاسلاميّة أثرها على أولئك الرّحالة أو مفكّري عصر التّنوير. مثل شعور التّرابط الاجتماعي بين المسلمين، والزّي الاسلامي الموحّد في الحجّ، وتنظيم الحياة وفق قواعد القرآن،وغياب الفراغ الرّوحي، وانتفاء العدميّة والشّك الدّيني لدى المسلم، والموازنة بين مطالب الجسد وأشواق الرّوح فلا تغليب للجسد على الرّوح ولا للرّوح على الجسد وانّما توازن دقيق يجعل معنويّات الانسان هي التي تتولّى قيادته وتمسك بزمام أمره. ربّما تكون هذه الأخيرة هي الصّورة التي لفتت انتباه نيتشه وهو يغفو ويستفيق من نوبات الجنون، مثلما لفتت انتباه غيره من مفكّري الغرب الى الاسلام كثقافة وليس كدين. إنّ كلّ الّذي عثرنا عليه قصيدة بعنوان “بنات الصّحراء” لا يتغزّل فيها بإمرأة وإنّما يتغنّى فيها بجمال حياة الصّحراء وحنينه الى موطن الشّعر الأوّل، تقول القصيدة: “هنا أجلس، أستنشق الهواء الأفضل، هواء من الفردوس حقا، هواء خفيفا لامعا موشحا بالذهب، كما يكون أطيب الهواء الذي ينزل من القمر، هل جاء صدفة أم جاء متلاعبا، كما يخبرنا الشعراء القدماء؟ لكنني، المرتاب، أسيء الارتياب فيه، فأنا أجيء من أوروبا المستعدة أبدا للارتياب أكثرَ من زوجة عجوز ليصلحها الله، آمين استنشق هذا الهواء الأحلى يتسع منخراي كالأقداح، بدون مستقبل ولا ماض، هاهنا أجلس، يا أعز الآنسات، وأحدق في شجرة النخيل هذه… ولصورة الصّحراء ارتباط وثيق بالبيئة والحضارة العربيّة في الخَّيال الغربي حيث الجمال والشّعر والهدوء والصّفاء، لهذا فقد كتب نيشه الى أخته رسالة جاء فيها ” إنّه يطمح أن يذهب الى تونس ليعيش بين أولئك المؤمنين الأتقياء “. أمّا الثّانية وهي الأهم فقد فجاءت في معرض حديثه عن ارادة القوّة حيث يذكر أنّ العرب شعب عريق يأبى الخضوع والخنوع ذو ثقافة عالية كان من المفروض على أوربا أن تستلهم منها لا أن تحاربها: “إن حضارة إسبانيا العربية القريبة منا حقاً، المتحدثة إلى حواسنا وأذواقنا أكثر من روما واليونان، قد كانت عرضة لدوس الأقدام (وأؤثر ألا أنظر فى أى أقدام!) – لماذا؟ لأن تلك الحضارة استمدت نورها من غرائز أرستقراطية، وغرائز فحولية، ولأنها تقول نعم للحياة، إضافة إلى طرائق الرقة العذبة للحياة العربية، لقد حارب الصليبيون من بعد عالماً كان الأحرى بهم أن ينحنوا أمامه فى التراب، عالم حضارة إذا قارنا بها حتى قرننا التاسع عشر فإن هذا الأخير قد يظهر فقيراً ومتخلفاً! لقد كانوا يحلمون بالغنائم، ما فى ذلك من شك، فالشرق كان ثرياً!، لننظر إذن إلى الأشياء كما هي! الحروب الصليبية؟ إنها قرصنة من العيار الثقيل، لا غير”. هذا الاعجاب هوإعجاب بتلك الثّروة المادية والفنّية التي خلّفها الاسلام في شبه الجزيرة الايبيريّة، وإعجاب بدعوة الاسلام للانسان بأن يعيش حياته ويأخذ حظّه منها و ألاّ يتعالى على مباهج الحياة وطيّباتها، بعكس الدعوة الكنسيّة الى التّعالي على الحياة والتّنكّر للجسد واحتقاره من أجل الخلاص الرّوحي. 3 رصاصة العذاب جاء في كتاب “إرادة القوّة” لنيتشه: ” ما أتعلق به هو تاريخ القرنين القادمين، أصف ما سيأتي والّذي ليس بامكاننا تغييره هو ظهور العدميّة… لبعض الوقت كانت ثقافتنا الأوربيّة تتجه نحو الكارثة”. ثمّ زاد و تنبّأ في آخركتاب له “هذا هوالانسان” فقال: ” أعرف قدري، ذات يومٍ سيقترن اسمي بذكرى شيئٍ هائل رهيب، بأزمة لم يعرف لها على وجه الأرض مثيل، أعمق رجّة في الوعي، أعظم صدامٍ للعقل ضدّ كلّ ما يُصدّق ويُقدّس، تراه أنت مثلاً عليّا وأراه أنا بشريّا، بشريًّا جدًّا”. وفي هاتين الفقرتين أوضح نيتشه رؤيته لمستقبل فكرة السمو البشري أو الانسان المتعالي ومنتجاتها المدمّرة للحياة البشرية، ومستقبل أوربّا وباقي البشريّة التي ستتخلّى عن القيم الدينيّة وتبحث لها عن قيم بديلة غير دينيّة. إنّ موت الإله سيوصلنا الى معنى جديد للحياة أو مثلما قال سارتر: ” الحياة تبدأ على الجانب الآخر من اليأس”. إنّ موت الإله سيوصلنا الى مجازفة حضارية فعندما نئد المبدأ الأخلاقي والقيم الايمانية ونأخذ فقط بالقيم المادّية النّفعية فإننا سنبني انسانا أعرج بركيزة واحدة بدل ركيزتين. انّنا بذلك نُعجّل فناءه ونسرّع هلاكه. إنّه يُحسن بنا كشرقيين ألاّ نناقش مثل هذه الأفكار انطلاقنا من منظورنا الثّقافي الاسلامي ونترك لمن ولد على أرض أوربّا مشبّعا بثقافتها أن يشرح لنا الوضع الكارثي الّذي وصل اليه المجتمع الّذي اعتنق العدميّة والالحاد وتساوت عنده الرّذيلة والفضيلة، ولن نجد في ذلك خير من المرحوم مراد هوفمان الذي جاء في كتابه ” خواء الذّات والأدمغة المستعمرة ” النّقاط التّالية: 1 إنّه بموت الاله انهزمت العقلانية وحلّ المنطق التسلّطي الاضطهادي في شكل ايديولوجيّة محلّ الدّين. 2 وأنّ اللّذة أولويّة المتعة صارت أسلوبًا للحياة وأنّ الغرب قد استغرق فيها بلا رابط. 3 إنّ معظم النّاس في الغرب يؤمنون أنّ كلّ الأديان هي عبارة عن روايات عظيمة وأنّ الدّين يتجه الى الاندثار والاختفاء تدريجيّا لذا تجدهم يصابون بالذعر عندما يصل الى علمهم ما يتعلّق بالحيوية المتجددة للاسلام. 4 إنّ المشكلة في المجتمع الغربي تكمن في أنّ نجاحه الاقتصادي يدفع الى تدمير القيم الجوهرية التي قام عليها فهذه القيم الرئيسية تتعرّض لعدم الاحترام والسخرية منها، ودائما ما يتعامل الشّباب المعاصر مع كل قواعد التعامل النّزيه على أنها محرمات(طابوهات) يجب تدميرها لكي يتسنى تحرير وتخليص الانسان من حكم السّلطة…. 5 كما أدّت “ثورة القيم” الى تحويل التدريس في المدارس الى عملية تعذيب. فالأطفال غالبًا جاهلون بالقيم يُظهرون أنانية، و قِحة، وعدوانية وشراسة، وفقدانا للحوافز الدّافعة والتشبع الاعلامي مع حيز ضيّق من الانتباه. الخلاصة: “إنّ الغرب في ورطة عميقة”. ونختم بكلمة للدّكتور عبد الرّحمان بدوي: “إنّ المدنيّة ستستمر في سيرها حتى تصل في النصف الثاني من القرن ال19 إلى حالة من الشّك والانحلال، فيها يطرح الناس ما كان لهم بالأمس من مُثل عليا: دينية وسياسية وفنية وأخلاقية، وتصبح كل القيم المقدَّسة حتى ذلك الحين أوهامًا وأباطيل، ولا يجدون بعد معنًا للحياة، وغاية من الوجود، ويشعرون بأنهم قد خُدعوا في كل القيم التي اتخذوها حتى الآن، وينقلب هذا الشعورإلى يأس في كل شيء، وإنكارلكل شيء،فالإنكار المطلق هو الطّابع السائد لهذه الحالة، ولذلك سُميت “الرّوح الإنكارية “. هذه الروح هي التي وصفها نيتشه وصفًا دقيقًا، وبعد أن تمّ له هذا حمل عليها حملة شعواء.