هي جميلة من جميلات الجزائر، اللواتي تنحني أمامهن التضحية، وتتضرع تحت أقدامهن الحرية، ولدن حرائر فكسرن الغلال والقيود، ولم يرضين غير النصر عشيقا... الشروق العربي، تلخص تاريخ النضال النسوي في سيرة "جميلة بوباشة"، الأسيرة المظلومة، التي قصمت ظهر فرنسا أمام العالم. ولدت جميلة بوباشة في 9 فيفري 1938، بسانت أوجين ببولوغين، والدها عبد العزيز بوباشة، ووالدتها زبيدة عمروش.. انخرطت في صفوف النضال مبكرا، في الخامسة عشرة من عمرها، وهذا في الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، الذي أسسه فرحات عباس في عام 1946 ثم في جبهة التجرير سنة 1955، وحملت أثناء النضال اسم خليدة. تم توقيف جميلة في 10 فيفري 1960، رفقة والدها وأخيها وأختها نفيسة وزوجها عبدليح أحمد، واتهمتها السلطة الاستعمارية بمحاولة تفجير قنبلة في حانة ليفاكولتي، في 27 سبتمبر 1959 في العاصمة... زجّ بها في السجن سرا، مدة شهر، تعرضت خلاله لشتى أنواع التعذيب، من حرق وكهرباء وغمر في الماء لمرات عدة... تمكن أخو جميلة من عرض قضيتها على المحامية جيزيل حليمي، التي قررت التكفل بها في مارس 1960، والتقتا في سجن باربروس بعد شهرين، كان اللقاء وجدانيا، حكت فيه المناضلة يوميات التعذيب، التي تكبدتها كل يوم من أيام السجن الحالكة، خاصة ما كان يقوم به جلادوها من تعذيبها بغرس عنق زجاجة في بطنها لساعات، حتى تفقد وعيها مدة يوم أو يومين. مقال هز عرش فرنسا لتدويل قصتها، استعانت المحامية جيزيل حليمي بالكاتبة الفرنسية المعروفة سيمون دي بوفوار، وكانت الخطة فضح المستعمر الفرنسي وأساليبه اللا إنسانية في التعذيب.. وكتبت سيمون عمودا تاريخيا تحت عنوان "من أجل جميلة بوباشة" في جريدة "لوموند" في 2 جوان 1960... وتسبب هذا المقال في موجة عارمة من الاحتجاجات، ما أجبر وزير الداخلية آنذاك، "ميشال ديبري"، على منع بيع نسخ الجريدة في الجزائر... حاول المستعمر طمس الحقائق، إلا أن جذوة الحقيقة أتت على الأخضر واليابس، وهاهي إذن قصة جميلة بوباشة تتحول من ملف إجرام إلى قضية رأي عام عالمي... بعد أيام من صدور المقال، تأسست لجنة للدفاع عن جميلة، ضمت أسماء معروفة، على رأسها دي بوفوار وجون بول سارتر ولويس أراجون وإلسا تريولي.. بعد هذا التسونامي الإعلامي، نقلت قضية بوباشة إلى مجلس قضاء "كان" الفرنسية، وتم نقل جميلة في طائرة حربية إلى فرنسا، لمنع اغتيالها من طرف الضباط الذين عذبوها في السجن.. ومثلت بوباشة أمام المحكمة في جوان 1961، شامخة في أنفة وكبرياء، لا يكسره تحامل بلد بأكمله على امرأة وحيدة في زنزانة الظلم... كانت محاكمة تاريخية، إذ تصدت بوباشة المناضلة في وجه كل الاتهامات، وفضحت أساليب فرنسا الوضيعة لنيل اعترافات السجناء، تحت طائلتي التعذيب والتهديد.. رغم كل هذا، حكم عليها بالإعدام في 28 جوان من نفس السنة... جزائرية بأنامل بيكاسو لم يحبط هذا الحكم معنويات المحامية جيزيل، وقررت نشر مرافعتها لصالح بوباشة، بمساعدة سيمون دي بوفوار، في دار نشر غاليمار، لكن هذه المرة، كانت هناك مفاجأة غير متوقعة، فعلى غلاف هذا الكتاب، الذي حمل اسم المناضلة الفذة، ظهر رسم بورتريه لجميلة من إبداع الرسام العالمي، بابلو بيكاسو، تبلغ قيمته اليوم 400 مليون دولار... ما زاد في شهرة الكتاب وسرعة انتشاره. كان وقع الكتاب رنانا وصاخبا، إلى درجة أن سفارات فرنسا ارتعدت فرائصها لمظاهرات مناهضة لسياستها، في كل من طوكيو وواشطن والعديد من عواصم العالم. بعد اتفاقيات إيفيان، استعادت جميلة بوباشة حريتها، ومكثت بعض الوقت في بيت المحامية جيزيل حليمي، إلا أن جبهة التحرير سارعت في إعادتها إلى الجزائر، حتى لا تذهب ضحية طموح أو أجندة أي كان... وسكت البارود عن الكلام المباح، فغدا فجرا، سنروي لك قصة جديدة، من قصص جميلات الجزائر.