باستعادة مطار طرابلس وضواحيها كاملةً والسيطرة على ترهونة وبني وليد وقبلها قاعدة الوطية وصرمان وصبراتة وغريان… يكون مشروع حفتر في دخول العاصمة طرابلس وإسقاط حكومة السرّاج المعترَف بها دولياً والتربّع على عرش ليبيا بالقوّة، قد دُحر، وسقط معه مشروع الثورات المضادّة التي تقودها عددٌ من الدول العربية والغربية منذ سنوات لإعادة المنطقة إلى حكم الديكتاتوريات العسكرية مجددا. بدل أن تسعى هذه الدول، وفي مقدِّمتها الإمارات ومصر وفرنسا، إلى مساعدة الليبيين على رأب الصدع وإنجاح تجربتهم الديمقراطية الفتيّة وبناء مؤسَّسات دولةٍ عصرية، فقد سعت في السنوات الأخيرة للأسف في خراب ليبيا وتكريس الحرب الأهلية فيها، ومدّت المشير حفتر بأطنان من السلاح والذخائر وملايير الدولارات للانقلاب على الحكومة الشرعية التي حظيت باعتراف الأممالمتحدة، والعودة إلى حكم ليبيا بالحديد والنار مجددا، وكاد مشروع الانقلاب والثورة المضادّة أن ينجح منذ أشهر قليلة، وكانت طرابلس قاب قوسين أو أدنى من السقوط، لكنّ التدخّل التركي المباشر أنقذها وغيّر موازين القوى لصالح حكومة "الوفاق" في ظرف شهرين ونصف شهر، وأجهض مشروع حفتر ومن ورائه أحلام الدول العربية والغربية التي ساندته بقوّة لتحقيق مشروعها في أن يحكم ليبيا عسكريٌّ إقصائيٌّ قادر على تنفيذ أجندة هذه الدول في استئصال الإخوان المسلمين تماماً من الخارطة السياسية لليبيا وتكرار تجربة الجنرال السيسي بمصر، قبل الانتقال إلى تونس والبحث عمَّن يُنهي تجربتها الديمقراطية الرائدة في المنطقة ويعيد إحكام القبضة الحديدية عليها، على طريقة الراحل زين العابدين بن علي. مشروع هذه الدول في إسقاط الحكومة الشرعية انهار إذن على أسوار طرابلس وبقيّة مدن الغرب الليبي التي تهاوت سريعا الواحدة تلو الأخرى، لكن ينبغي التحذير من أنّ بقاء الشرق الليبي وجنوبه في أيدي ميليشيات حفتر قد يقود إلى تقسيم البلد، وقد رأينا كيف أنّ الإمارات لم تتورّع عن دعم المجلس الانتقالي باليمن بغرض بعث مشروع التقسيم مجددا وفصل الجنوب عن الشمال، بعد أن فشل تدخُّلُها منذ خمس سنوات في إعادة الرئيس هادي إلى الحكم بصنعاء، وقد تعيد الكرّة في ليبيا للانتقام من حكومة السرّاج وإضعافه بعد أن تأكّدت من خسارة الحرب التي أنفقت عليها أموالا طائلة. الحربُ لم تنته إذن في ليبيا، والحديث عن حسمها لصالح حكومة السرّاج لا يزال مبكّرا ما دام الشرقُ الليبي وجنوبه معا لا يزالان تحت قبضة المشير حفتر. صحيح أنها استعادت الغرب، وباتت معنوياتُ جنودها في السحاب، وأضحت الظروف مهيّأة للزحف على مناطق جديدة وانتزاعها من حفتر، وفي مقدّمتها سرت والجفرة والهلال النفطي… لكن في ظلّ تواصل الدعم الفرنسي والإماراتي والمصري له، ستكون استعادة الأراضي الليبية كاملة مَهمّةً شاقّة وقد تستمرُّ إزاءها الحربُ الأهلية أشهرا أو حتى سنوات أخرى، إلا إذا انفضَّت القبائل الليبية عن حفتر وانهارت ميلشياتُه وتخلّى عنه داعموه وهرب إلى الخارج ليقضي السنوات المتبقّية من عمره هناك، أو نجحت الأممُالمتحدة في فرض العودة إلى المفاوضات على الطرفين، وتخلّى المشير -الذي لم يربح حربا في حياته- عن غطرسته وأحلامه بحكم ليبيا بالقوّة وتحلّى بالواقعية والمرونة وقبِل بحلٍّ سياسيّ يقوم على الاعتراف بشرعية حكومة السرّاج، وتوحيد البلاد تحت قيادتها.