منذ انطلاق الحراك الشعبي في الجزائر وما أفرزه من واقع جديد أدخل الشعب كرقم (في)معادلة التأثير لرسم معالم المشهد السياسي لا تزال الساحة الوطنية تحت وطأة تجاذب مستمر بين إرادتين على الأقل وفق الصورة الظاهرة: إرادة نحو تغيير حقيقي وعميق في منظومة الحكم وقواعد العملية السياسية وإرادة في الاكتفاء بإصلاحات شكلية وتسويق خطابات دعائية ما تلبث أن تسقطها الأفعال الوفية للممارسات القديمة، ورغم التفهم الذي أبدته نسبة من الجزائريين في محطة الاستحقاق الرئاسي الأخير لسد الفراغ الدستوري في أعلى منصب في الدولة إلا أن محطة التعديل الدستوري هي الامتحان الحقيقي للسلطة الجديدة لإثبات صدق النوايا في إحداث التغيير. دستور السلطة أم دستور الشعب؟ كما وجب الإشارة أنه لم يسبق في تاريخ التعديلات الدستورية أن جاءت عقب حركة شعبية واسعة بهذا الحجم والزخم التفاعلي وبمطالب سياسية مسنودة بالتفاف مجتمعي شبيهة بهذه المرحلة التي نعيشها اليوم، إذ لا يزال الحراك الشعبي المبارك حيا في تفاعله مع مجريات الساحة الوطنية منتظرا تجسيد تطلعاته في رؤية تغيير حقيقي يرمم الثقة بين الشعب ومؤسسات الدولة ويرسي لدعائم الديمقراطية والحرية والعدالة، مما يجعل من هذه المحطة فرصة حقيقية ومتميزة ليس أمام السلطة فقط وإنما أمام الجميع من الطبقة السياسية والنخب الوطنية والفئات الشعبية بمختلف انتماءاتها واهتماماتها، لإعادة صياغة العقد الاجتماعي الوطني المتمثل في الوثيقة الدستورية الجامعة لكل الجزائريين بخلفية ودوافع إصلاحية نابعة (من عمق التحديات الراهنة وبما ) يخدم المصلحة الوطنية (العليا)، وثيقة مرجعية مشتركة تعكس أصالة المجتمع الجزائري وهويته وعمقه التاريخي وتطلعه نحو التقدم والازدهار والانفتاح على العالم، وتؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ الدولة الحديثة رهانها الأول إعادة الثقة بين المواطن ومؤسسات دولته، وتحت رقابة الشعب وتكريس الديمقراطية وحماية الحرية وتحقيق العدل، وهي فرصة أيضا للعدول عن منهج التعديلات السابقة التي كانت تنسج على مقاس ومزاج السلطة لحل أزماتها المرحلية بخلفية الحفاظ على مصالح الأشخاص ومراكز نفوذ المجموعات المهيمنة على السلطة والثروة، ووضع المتاريس القانونية أمام الإرادة الشعبية وتعطيل المؤسسات التي يمارس من خلالها الشعب سيادته الحرة، وفرض اتجاه واحد في التعديل نحو تحصين السلطة التنفيذية وإعطائها مزيدا من الأدوات للتحكم في كافة مناحي الحياة السياسية وتسيير الشأن العام في مقابل وتضييق متزايد على الحريات وتسييج ممنهج لمساحات تأثير السلطة التشريعية والقضائية، والاكتفاء بواجهة وديكور سياسي ومؤسساتي مزيف عاجز عن الاضطلاع بأدواره الدستورية التي كفلتها النصوص وأقبرتها السلوكات التسلطية للجهاز التنفيذي والممارسات الفردية لرأس هذا الجهاز. التعديل الدستوري.. امتحان النوايا إذا كان أصل الأزمات والإشكالات السياسية معروفا ويكمن في عدم الالتزام بالدستور والقانون بشكل عام وليس العجز والفراغ في مضامين النصوص بحد ذاتها، فإن هذا لا يمنع من استثمار هذه اللحظة التاريخية والاستدراك بالدفع نحو صياغة الوثيقة الدستورية للبلد بما يعبر عن تطلعات الشعب في بناء نظام سياسي جديد – والنظام الدستوري جزء منه – يعكس التوجه الشعبي لإحداث تغيير حقيقي يؤسس لنظام حكم يقوم على الشرعية الشعبية والتعددية السياسية ويحمي الحريات والحقوق ويصون الهوية والثوابت الوطنية، وهذه هي الإرادة المعبر عنها في المسيرات السلمية المليونية للجزائريين الذين رفعوا شعارات واضحة ومطالب جلية لا تقبل التأويل ولا تستحق أن يكون التعامل معها بنية الالتفاف عليها أو اختزالها في إصلاحات شكلية تعيد إنتاج نفس المنظومات السابقة في التفكير وفي الأشخاص وفي نمطية التعامل مع الشعب بمنطق الوصاية. وجاءت فرصة التعديل الدستوري التي هي بمثابة ترمومتر قياس نوايا السلطة الحالية وحقيقة توجهاتها ومدى مطابقة خطاباتها مع ممارساتها خاصة ما تعلق بالوفاء بوعودها بمباشرة إصلاحات عميقة تستجيب لمطالب الشعب . فرصة الاستدراك وتحكيم لغة التوافق وبإنتهاء فترة استقبال المقترحات، فإنّ التساؤل يثار حول مدى قدرة واستعداد اللجنة ومن ورائها فريق السلطة الذهاب بعيدا في التعاطي الايجابي مع مضامين المقترحات العميقة والتعديلات الجوهرية التي لم تبخل عليها كثير الفعاليات الوطنية من أحزاب وهيئات المجتمع المدني ورجال قانون وممارسين سابقين في المجالس المنتخبة ومسؤوليات في الدولة، وهل ستقرأ مساهماتهم قراءة سليمة كتعبير عن الوعي الجمعي بحتمية التوجه نحو مرحلة جديدة بتوافق وطني يرسم بمشاركة الجميع معالم مستقبل الجزائر وبناء دولة قوية في وحدتها وانسجامها وفي تطلعاتها لأداء أدوار إقليمية متقدمة كدولة محورية في محيطها الجغرافي المتحرك؟ ( ومن المنتظر أن يكون ) التعامل (إيجابيا) مع مضامين هذه المقترحات الثرية بأسلوب التعالي والإقصاء في مرحلة إعداد الوثيقة النهائية لمشروع قانون التعديل (بدل) التمسك بالتعديلات التي تضمنتها مسودة اللجنة التي كرست لهيمنة السلطة التنفيذية برأسيها الرئاسي والحكومي على تفاصيل العملية السياسية وإفراغ الإرادة الشعبية من أي تأثير في القرار وفي التسيير عبر محاصرة المؤسسة التشريعية وتجريدها من كثير صلاحياتها وحقوقها في المنظومات الديمقراطية الحقيقية واستمرار الوصاية على السلطة القضائية بما تضمنته التدخلات غير المبررة في اختصاصاتها بفعل ما تم منحه من صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية وهو ما يفقد أي معنى لأدوار هاتين السلطتين في الرقابة على السلطة التنفيذية والأداء الحكومي وتسيير المال العام والشأن العام واحترام القانون. وجدير بالذكر في هذا السياق أنه وفي خضم النقاش الدائر ومجمل المقترحات التي أعلنت من مختلف الشركاء في الساحة الوطنية الذين تحرروا من ممارسات التطبيل والتزكية المطلقة لوجهة النظر الرسمية، أن موضوعات الهوية والثوابت الوطنية وطبيعة النظام الجمهوري لم تكن محل إثارة أو مساس بل العكس من ذلك تم تدعيمها وتعزيزها بآليات تحصين جديدة من خلال اتساع مجال احترامها وترقيتها في مختلف المنظومات على عاتق مؤسسات الدولة والمجتمع،كما كان سقف التعديلات عاليا في مختلف أبواب وفصول الدستور بلا استثناء بمستوى من الوعي والمسؤولية والعمق والصدق في معالجة أسباب الأزمات السياسية التي شهدها تاريخ البلد وحسم مسألة الشرعية بتمكين الإرادة الشعبية أساسا في التداول السلمي للوصول أو البقاء في الحكم، وضمان استمرارية الدولة ومؤسساتها وحماية حقيقية للحريات والحقوق من أي انتهاك والفصل بين السلطات بما يحقق التوازن والتكامل بينها وتثبيت قواعد دائمة للممارسة السياسية وفق معايير المنافسة الديمقراطية الشفافة والنزيهة. محاذير مرحلة ما قبل الاستفتاء ومتطلبات التأسيس لما بعده إن الواقع الذي أحدثه إعلان المسودة والخطاب المبرر لمحتواها المحدود بأنها مجرد أرضية لبداية النقاش وبأنها قابلة للتعديل والإضافة والحذف، يجعل من الضرورة بمكان مراعاة المصلحة الوطنية وحساسية المرحلة وهشاشة الوضع الداخلي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتنامي التحديات الإقليمية، ويفرض على القائمين على أعلى هرم السلطة إبداء الكثير من العقلانية وأن يتم التفاعل بالإيجابية المطلوبة مع المطالب الشعبية المشروعة في التغيير الحقيقي، وأن يتم فتح نقاش وطني مسؤول قبل إصدار الوثيقة النهائية لمشروع التعديل الدستوري التي سترفع لاحقا للبرلمان كإجراء تقليدي شكلي – بحكم الطعن في شرعيته كإحدى مخلفات النظام البائد –والتي تستوجب تهيئة بيئة من الثقة وقدرا من الإجماع السياسي تضمن لها قبولا شعبيا وتؤهلها لنيل الحد المطلوب من التزكية، ولتكون محطة الاستفتاء فرصة لبناء قاعدة سياسية متعددة المشارب وحاضنة مجتمعية لقيادة مسار التغيير واستكمال الإصلاحات المتعددة وإعادة بناء المؤسسات الدستورية بنسق توافقي وطني يحصن الجبهة الداخلية من أية تصدعات ويؤسس لهدنة اجتماعية وإصلاحات اقتصادية لتحريك دواليب التنمية والتكفل باحتياجات الساكنة ومتطلبات العيش الآمن والحياة الكريمة للمواطن والعدالة في تقاسم الأعباء والثروة. غير ذلك، فإن المُضيّ في سياسة التفرد وتغييب مختلف مكونات الساحة وفواعل المجتمع فيما تعلق بتسيير المرحلة الراهنة وصياغة مستقبل البلد بعيدا عن تطلعات الشعب سيطيل من عمر أزماتنا المتعددة ويهدد الاستقرار الوطني ويعمق الشرخ بين الشعب والدولة ويدخل الساحة من جديد في حالة استقطاب أفقي وعمودي ويعمق من العزلة الشعبية للسلطة مما سيدفعها لاستجداء الدعم من المنظومة السابقة وأحزابها ولوبياتها الفاسدة التي تتقن لعبة الولاءات وهو ما سيعزز من مشاعر الخيبة واليأس لدى شرائح عريضة من الشعب خاصة الشباب الذي قاد بوعي ومواطنة راقية الصفوف الأولى للحراك السلمي الحضاري، هذا الحراك المتميز الذي أضاف لفخر الجزائريين وصورتهم بين الشعوب في تمسكهم بالحرية رصيدا إضافيا للملحمة التي صنعها آباؤهم وأجدادهم خلال الثورة التحريرية المباركة، ولأن فقدان الأمل يولد انتكاسة داخلية محبطة لدى المواطن ويقطع آخر أواصر الثقة بين الحاكم والمحكوم، فإن سوء إدارة ملف التعديل الدستوري، لو حدث لا قدّر الله، سيفتح المجال أمام مسارات احتقان جديدة تهدد بالعودة لمربع الأزمة واستحضار حالة الانسداد السياسي لما قبل ال 22 فبراير 2019 وعودة الاحتكام للغة الشارع وهي حالة ليس بإمكان أحد الجزم بمآلاتها ولا تكلفتها لأن أوضاع البلد لا تتحمل تأجيل حلول أزماته المتشعبة ولا إضاعة الوقت على حساب أولويات كبرى تتعلق بالاستقرار الوطني ورهانات التنمية والتصدي لمهددات جديدة تستهدف تمزيق النسيج المجتمعي الوطني مع تنامي خطابات الكراهية الغريبة على ثقافتنا وروح التعايش بين أبناء بلدنا، وفي ظل تحديات اقتصادية حقيقية أفرتها جائحة كورونا وانهيار أسواق النفط، وتكالب خارجي غير مسبوق يستهدف تلغيم الاستقرار في محيطنا الإقليمي وتهديد أمننا القومي الحيوي من قبل قوى ودول تتصارع على اختراق المنطقة وصناعة مراكز النفوذ والتأثير لخدمة مصالحها وسياساتها الخاصة وتجسيد أجنداتها المدفوعة بأطماعها في الهيمنة على مصادر الثروات والتحكم في مصائر الشعوب والدول