يواصل العقيد محمد الطاهر في نثر كنانة شهادته، حول التبعات والانعكاسات التي خلفتها مرحلة الانقلابات بأولها انقلاب بومدين على بن بلة، أو كما وصفه بين "التلميذ والأستاذ"، وثانيها الانقلاب المضاد لطاهر زبيري على هواري بومدين "حليف الأمس عدو اليوم"، ليعرج بعدها على النهايات الغامضة والمأساوية لمرحلة الستينيات التي طالت ثلاثة أسماء من العيار الثقيل في إطار السباق نحو السلطة والانفراد بالحكم، أولها إعدام العقيد محمد شعباني في وهران سنة 1964 وتصفية كلا من محمد خيضر في مدريد والسعيد عبيد في البليدة سنة 1967، خاتما حديثه حول المراحل الثلاث التي مرت بها المخابرات الجزائرية، أولها مراحل مرحلة المؤسس عبد الحفيظ بوصوف(المخابرات الثورية)وثانيها مرحلة الرئيس أحمد بن بلة (المخابرات السياسية)وثالثها مرحلة وزير الدفاع هواري بومدين(المخابرات العسكرية). بعد عودتك من مصر كيف واصلتم نشاطكم ضد الانقلابيين؟ قبل الإجابة عن سؤالكم أود تصويب نقطتين إن تكرمتم بذلك، أولها بخصوص عمار بن عودة، عندما تم القبض عليه ونقلاً عن الهادي ماضوي واحمد علاق، فبن عودة أفشى بالخلايا السرية في عنابة بعد انهياره من شدة التعذيب، وثانيها ما تعلق بالقائد الوردي قتّال، أود التوضيح أني لم أصدر في حقه تهمة القتل أو الحكم عليه بأنه وراء تصفية عمر جبار، لكن أشرت إلى ما قيل وقتها حول ملابسات تصفية جبار عمر. هل يمكن أن نعود إلى صلب السؤال؟ طيب.. إلى غاية هذه السطور لا زلت على قناعة راسخة، أني ضد أي انقلاب وضد كل من يصل إلى السلطة عبر القوة أو البقاء فيها بالقوة، فبعد الانقلاب اتصل بي مناضل من المعارضة ينشط مع حسين زهوان، من اجل العمل ضد الانقلابين، فكان ردي أنه لا يمكني تغيير النظام عبر المناشير. هل هو انقلاب أم تصحيح ثوري؟ لم يكن تصحيحا ثوريا مطلقا، بل هو انقلاب صريح، فهل يعقل التلميذ يصحح المسار الثوري لأستاذه أين وقعت هذه؟ من الذي اكتشف الآخر في باحة الأزهر، ومن أوفده عبر الباخرة نحو الجزائر للمشاركة في الثورة؟ ما هي الشرارة التي أشعلت فتيل الانقلاب بين الأستاذ وتلميذه كما وصفت؟ أقول إن القطرة التي أفاضت الانقلاب هو إبعاد بن بلة لبوتفليقة من الوزارة، وقد تبين مع الأيام بأن بومدين كان جد ضعيف أمام بوتفليقة، والدليل كيف أنه في ظل وجود هامات وقامات بحجم عبد الحميد مهري ودماغ العتروس ومحمد يزيد وغيرهم، يصبح بوتفليقة وزير خارجية لا يملك حتى الثانوية العامة، وهو في عمر 27 سنة، هنا يبقى السؤال مطروحا؟ ما سر نفور بومدين من المجاهدين وإقباله المفرط على ضباط فرنسا؟ أسرّ لي صديق لبومدين كان قد درس معه، حيث فاتحه ذات مرة بقوله " ثمة كفاءات من المجاهدين من جيش التحرير لما لا تستعين بهم في تأطير الجيش الوطني"، رد عليه بومدين "هؤلاء الذي تسميهم مجاهدين يصبحون يزايدون عليا، فيما هؤلاء يقصد ضباط فرنسا مطيعون وينفذون ما آمرهم به". هل حقق الانقلاب مراده "التصحيح الثوري"؟ كلا، وسأضرب مثالا على ذلك، عبد الرحمان الشريف، مستشار الرئيس أحمد بن بلة بقي تحت الإقامة الجبرية، هذا الرجل عندما كان في الرئاسة كل شغله هو تعريب الإدارة الجزائرية لمحاربة ما تبقى من بقايا الإدارة الاستعمارية، فمثلا البريد والمخابرات تم إرسال إطارات منهم تتكون في مصر، من أجل خلق إدارة جزائرية تعبر عن روح الاستقلال الحقيقي، من خلال تكوين المجاهدين وأشبال الثورة،لكن بعد الانقلاب تم نسف المشروع برمته. لماذا فشلت حسبكم زيارة المشير، عبد الحكيم عامر، موفد جمال عبد الناصر، إلى بومدين للإفراج عن أحمد بن بلة؟ زيارة المشير عبد الحكيم عامر إلى الجزائر الهدف الحقيقي منها، هو محاولة المصريين اختطاف احمد بن بلة، والدليل يوم قدومه تحركت بالموازاة غواصة مصرية نحو المياه الجزائرية. كيف عايشت قضية اعدام شعباني وتصفية خيضر وانتحار سعيد عبيد، كونك من المقربين من الرئيس أحمد بن بلة؟ هل أسر لك بشيء حول هذه القضايا الثلاث؟ لي رأي في هذه القضية أقوله بصراحة، بومدين هو المسؤول المباشر على إعدام محمد شعباني، لأن بومدين أي شخص يقف في طريقه نحو السلطة لابد أن يتخلص منه، وفي هذا المقام أتساءل: من قتل خيضر في مدريد؟ لا تقول لي بن بلة رجاء. ما هي حجتكم في ذلك؟ فمثلا آيت احمد عندما اعتقل عشية تمرده المسلح، وحكم عليه بالإعدام عفي عنه، كونه رمز لمنطقة القبائل، وقد تشتعل هذه المنطقة برمتها لو اعدم، ثم إن بومدين ليس له مشكلة مع آيت أحمد، كون هذا الأخير سياسي وليس عسكري فلا يشكل على موقعه خطرا، لكن بالمقابل عنده مشكل مع شعباني، كونه قائد ولاية ولا يقبل بومدين معارضة داخل الجيش، وكان أصل الخلاف حول ما عرف بتوحيد قيادة الجيش، ورأيي المتواضع حتى هروب آيت احمد من السجن كان بتواطؤ من السلطة وبمساهمة منها للتخلص من مشكلته، حتى لا يتحول إلى عبء سياسي أو تاريخي. لكن أين هي المسؤولية السياسية والأخلاقية لرئيس الجمهورية أحمد بن بلة؟ بداية الرئيس أحمد بن بلة لم تكن له أدنى سلطة على الجيش، فقبضة الجيش كانت تحت يد بومدين ولا ينازعه منازع في ذلك، بالمقابل كان من المفروض على الرئيس أحمد بن بلة، أن يصرح ويقول أنا بريء من دم شعباني كبراءة الذئب من دم يوسف، حتى يخلي مسؤوليته السياسية والأخلاقية. هل من معطيات جديدة حول الخلاف بين بومدين وخيضر؟ بالنسبة لي ثمة تعليمتان فجرت الحساسية بينهما (قصة ضرب خيضر لبومدين في القاهرة) فالتعليمة الأولى التي أصدرها خيضر كانت تتمحور حول صفات المناضل والمنخرط، ومن خلالها أعاد بعث أدبيات والمنطلقات الفكرية لحزب الشعب، ومفادها أن المناضل هو من كان في حركة سياسية قبل الثورة واستمر داخل الثورة، والمنخرط هو من لم يكن في حركة سياسية قبل الثورة ولكن التحق بالثورة، أما التعليمة الثانية عندما وجه خيضر رسالة لبومدين عبر تعليمة نظامية، يدعوه فيها بأن يوقف بعض تجاوزات عناصر الجيش في الشارع التي طالت المواطنين. كيف رأيت موقف خيضر من بومدين؟ خيضر سياسي ضليع ورفيع، وقناعتي من لم يتربّى في الكشافة الإسلامية وحزب الشعب والمدرسة الباديسية وطنيته مهلهلة، وفي هذا المقام شهادة للتاريخ أن أحمد بن بلة أخبرني شخصيا بقوله " الأسبان عرضوا عليا تصفية محمد خيضر لكني رفضت بل عنّفتهم وقلت لهم لو تمسوه بسوء سأمس لكم ما أكثر من خيضر عندكم". هل من معلومات لديك شخصيا حول تصفية خيضر؟ في إحدى المرات كنت في مركز فيلا سيزيني ( مركز مخابرات) كان هناك شاب صف ضابط، أبلغني أن ملف خيضر عنده ومما جاء حسب الزميل، أن قرار التصفية صادر كتابيا من عند بومدين، يكلف فيه قاصدي مرباح رسميا بتصفية خيضر. من كان المنفذ؟ ليست لديّ معلومات، لكن ما أشيع وقتها أن المنفذ هو سجين كان ينزل بسجن الحراش هو من قام بتنفيذ العملية. ما هي الإرهاصات الأولى التي وصلتك حول قائد الأركان الطاهر زبيري الذي كان يتحرك باتجاه الانقلاب؟ قبل أن التحق بالمخابرات وفي إحدى زيارتي لفرحات زرهوني (مسؤول الأمن الداخلي) اقترح عليّ الالتحاق بالمخابرات وتعييني للعمل في قيادة الأركان مع طاهر زبيري، لتتبع نشاطه وتحركاته باتجاه الانقلاب، رفضت عرضه، لأن قناعتي لا تسمح بهكذا عمل، لأن الطاهر زبيري أفضل منهم وطنيا. هل يفهم أنك كنت من أنصار زبيري في الانقلاب على بومدين؟ ذات مرة اتصل بي عمر شريف، شقيق مهدي الشريف (محامي على قيد الحياة) كان وقتها إطارا في وزارة الداخلية من باتنة، عن طريق مجاهد المدعو لخضر شريف، وقد حدثني عن تحضير عمل للإطاحة بنظام بومدين، سألته ما المطلوب مني؟ فأجابني نريد معرفة ما الذي يعرفه نظام بومدين على تحركاتنا. ما علاقة ذلك بالانقلاب وكيف كان ردكم؟ لا ننسى أن المتصل عمر الشريف، هو شقيق مهدي شريف، الذي كان الأمين العام لهيئة الأركان العامة، التي كان على رأسها الطاهر زبيري، هذا الأخير كان يعد العدة للانقلاب، وكان جادا في مسعاه، فأخبرته بأني مستعد لمساعدتكم، بشرط أن أكون شخصيا مسؤولا على الإذاعة والتلفزيون، ويمكنني كذلك جلب عناصري لتكون معكم، وبإمكاني اعتقال كل المسؤولين آنذاك،لأن المجموعة من الشباب التي أجلبها قادرة على هذه المهمة. ما هو مقابل هذه الشروط التي طلبتها؟ المقابل طبعا هو تحرير الرئيس أحمد بن بلة من السجن، والقيام بتسجيل خطاب له يوجه للأمة يبث عبر التلفزيون، حتى يطمئن الشعب على سلامته. كيف كان رده على شروطك؟ جاء رده جافا بقوله " كل هذا خططنا له"، بمعنى لا نريد أن تشارك معنا ولكن نريد فقط من عندك معلومات حول جماعة بومدين عن نشاطنا، أبلغته وقتها بأن "الجماعة" يعرفون كل شيء عنكم وأنهم يشتغلون على استدراجكم حتى يُطبقون عليكم، وافترقنا على أساس أنه لا يعرفني ولا أعرفه. لماذا فشل انقلاب قائد الأركان الطاهر زبيري؟ الطاهر زبيري كان قليل الحيلة يفتقد لبعد النظر، ولذلك فشل انقلابه أمام رجل بحجم دهاء بومدين، الذي اعتبره معاوية القرن العشرين، فمحدودية الطاهر زبيري وجماعته كانت وراء فشله. كيف عايشتم تبعات وانعكاسات ما بعد فشل الانقلاب؟ بعد فشل الانقلاب اتصل بي فرحات زرهوني الذي قابلته حيث خاطبني "لازم نجيبو طاهر زبيري حي أو ميت"، أجبته: الأوراسيون يقتلوه ولا يسلمونه لك"، وقتها شرع الجيش والمصالح الأمنية بعمليات التمشيط والتفتيش في منطقة الأوراس حتى غدت وكأنها في حالة حرب من اعتقالات ومداهمات، وتعنيف وتعذيب وغيرها من الأمور، في هذه الظروف طلب مني حمودة عاشوري، نائب قائد المحافظة السياسية في الجيش، بضرورة الدخول للمخابرات لتجنيب أبناء المنطقة تبعات وانعكاسات الانقلاب الفاشل لطاهر زبيري. من أهم انعكاسات فشل انقلاب الطاهر زبيري ما راج حول النهاية الغامضة لسعيد عبيد؟ للأمانة أحمد بن بلة يثني كثيرا على سعيد عبيد، ويؤكد أنه بفعل العقيدة الصلبة والإيمان الرباني الراسخ في قلب ونفس وشخصية سعيد عبيد الضابط الألمعي، لا يمكنه أبدا ومطلقا أن ينتحر، بل يؤكد انه تمت تصفيته. هل أخبركم بن بلة مثلا بمن كان وراء التصفية ومن منفذها؟ كلا..لكن أشيعها وقتها أن بومدين كان وراء ذلك، وحسب المتداول وقتها كذلك أن كلا من زرقيني وهوفمان، هما من قام بالتصفية، كونهما أدوات لدى بومدين، حيث اسند لهم هذه المهمة القذرة، ويكفي أنهما من ضباط فرنسا. نعود إلى مساركم… متى التحقت بجهاز المخابرات وكيف وجدته؟ التحقت بجهاز المخابرات العسكرية سنة 1968، فوجدت على رأسه قاصدي مرباح، وثلاث نواب له، هم يزيد زرهوني مكلف بالعلاقات الخارجية وفرحات زرهوني مكلف بالأمن الداخلي وعلي تونسي، مكلفا بالأمن العسكري، كما وجدت الأجهزة الأمنية ذات توجه فرنكفوفيلي، وتهتم بكل ما هو من الغرب وليس لها أي اهتمام عربي أو إفريقي، ولا يهمهم الامتداد الجزائري بالعالم العربي والإسلامي. هل من توضيح حول هذه التوجهات؟ المخابرات مرت بثلاث مراحل، مرحلة المؤسس عبد الحفيظ بوصوف (المخابرات الثورية)، ثم مرحلة الرئيس أحمد بن بلة (المخابرات السياسية)، ثم مرحلة وزير الدفاع هواري بومدين (المخابرات العسكرية) هذا الأخير اعتمد على نواة كلهم من مواليد الخارج، فقاصدي مرباح وعلي تونسي المكنى بالغوثي وفرحات زرهوني، من مواليد المغرب ويزيد زرهوني من مواليد تونس. كيف باشرت عملك الاستخباراتي؟ باشرت عملي عندما تعاملت مع رسالة الضابط سليمان شاوش عسكري ليبي، تم طرده من صفوف الجيش بسبب كثرة نشاطه، هذا الأخير جلب لنا رسالة الضباط الوحدويين الأحرار الذي كان يقودهم معمر القذافي سنة 1968، يطلبون فيها منا دعما لوجستيا، أوله تمكينهم من مدافع رشاشة وثانيها في حالة الفشل في مسعاهم (الإطاحة بالملك السنوسي) يلجئون إلى الجزائر،الرسالة سلمتها لفرحات زرهوني، الذي يفترض أنه بلغها للرئاسة.