يروي رئيس الحكومة الأسبق، بلعيد عبد السلام، في مذكراته، الصادرة مؤخرا عن منشورات "الخطاب"، بعنوان "وقائع وتأملات حول مواضيع، حول ماض ليس ببعيد"، ذكرياته وشهاداته حول الثورة والأحداث التي عايشها منذ انخراطه في حزب الشعب الجزائري في 1944، وإدانته من طرف المحكمة العسكرية لقسنطينة في ماي 1945، وكان آنذاك في السابعة عشرة سنة فقط من عمره. الكتاب يسلط الضوء على الحراك السياسي والنضالي قبيل اندلاع الثورة التحريرية، من حركة انتصار الحريات الديمقراطية، حزب الشعب وجمعية العلماء المسلمين وكذا النضال داخل دهاليز حزب الشعب الجزائري وأحداث 8 ماي 1945، وإنشاء المنظمة السرية. كما يتطرق إلى أهمّ المحطات المفصلية في تاريخ الجزائر المستقلة، مثل السياسة الصناعية التي انتهجها الرئيس هواري بومدين، وكذا العلاقة مع الدول الاشتراكية، وانقلاب الطاهر الزبيري على بومدين، كما توقف رئيس الحكومة في سنة 1992 عند أحداث أكتوبر 1988، وعلاقته مع رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد بوضياف، وكذا تعيينه على رأس الجهاز التنفيذي في أصعب مرحلة عرفتها الجزائر في العشرية السوداء، وبهذا تعدّ مذكرات بلعيد عبد السلام وثيقة تاريخية لأهم المراحل المفصلية في تاريخ الجزائر المستقلة. يتحدث بلعيد عبد السلام عن بداية انخراطه في حزب الشعب، عن طريق أعمر بوجريدة، وعن الخطإ الذي ارتكبه وأدى إلى اعتقاله في 18 ماي 1945، بعد أن وجه رسالة إلى مسؤوليه بخصوص اجتماع لخلية ثانوية سطيف، أفضى إلى توقيفه، حيث تعرض للتعذيب، وأدانته المحكمة العسكرية بأربع سنوات سجنا. ويذكر عضو اللجنة المركزية لحزب الشعب بعد المؤتمر الثاني الذي انعقد في حدود مارس 1953، أنه سمّي بلعيد لأنه ولد أيّاما قبل عيد الأضحى، ويروي بلعيد عادة العائلات المنحدرة من القبائل الكبرى "أبودرارن، إغيل نسعادة"، التي تسمي أبناءها بأسماء المناسبات المقترنة بمولدهم، حيث طلب في سنوات الثمانينيات من وزير الشؤون الدينية بوعلام باقي البحث عن يوم عيد الأضحى في سنة 1928، فأخبره بعد بحث بأنه هلّ في شهر ماي، وقد تم تقييد ميلاده في شهر جويلية. كما يتحدث بلعيد عبد السلام عن مؤتمر حزب الشعب في فيفري 1947 والقرارات التي اتخذها، أبرزها إنشاء المنظمة السرية. ويوضح صاحب الكتاب آثار أحداث 8 ماي 1945 الحاسمة على مستقبل الثورة، لأنها مثلت نهاية صورة الفرنسي الذي لا يقهر، فقد شاهد الجزائريون المشاركون في الحرب العالمية، كيف ركّع الألمان الجيش الفرنسي وهزمه، وأدرك حينها الفلاح أو "الأنديجان" الجزائري أنه بإمكانه أن يصفع "الكولون"، وأن يثور ضدهم. كما شكل انهزام فرنسا في حرب الهند الصينية وبداية ظهور المدّ التحرّري خاصة في العالم العربي، ومساندة العالم فكرة تقرير مصير الشعوب.. في هذه الظروف تقرّر إنشاء المنظمة السرية من قبل حزب الشعب. توقف بلعيد عبد السلام في مذكراته عند "صراع الولايات" وأثره على توجّه الدولة وصراعات السلطة لاحقا، قائلا إنّ "النظام كان ضحية فخ هو نفسه أسهم في خلقه بعد الأزمة التي حدثت على مستوى القيادة العليا للثورة بين هيئة الأركان والحكومة المؤقتة، ومحاولة كل طرف حشد الدعم لصالحه، الصراع الذي انتهي بانتصار جماعة تلمسان، أدى إلى معاقبة وتهميش الولايات المنهزمة من قبل المنتصرين، الذين كانوا يعتقدون أن السلطة المركزية ستغضّ الطرف عن تجاوزاتهم، بما فيها تلك التي مست بهيبة الدولة". السلطة التي تم إقرارها بعد نهاية الحرب والصراع على السلطة لم تتأخر لتتحول إلى مواجهة بين الولايات، في بعض الأحيان كادت أن تكون دامية، وتجنّب المواجهات، يقول بلعيد عبد السلام، يعود بالأساس إلى تعقل وحكمة الشعب الجزائري الذي حلم بنهاية الاستعمار والاستقلال وتحمل بشجاعة وبطولة سبع سنوات ثقيلة من الحرب. حيث خرج في صائفة 1962 في الطرقات يقول: "سبع سنوات بركات"، وكذلك تدخل الجيش الوطني الشعبي، بما فيه الجيش المكون من طرف الوحدات القادمة من الحدود، التي نجحت بفضل بومدين في فرض النظام والانضباط.
لهذه الأسباب انقلب بومدين على بن بلّة وباريس تفاجأت وذكر بلعيد عبد السلام أنّ بن بلة يتحمل مسؤولية انقسام الحكومة المؤقتة، بعد رفض بوضياف مجاراة بومدين وجماعته في مغامرتهم التي أوصلت بن بلة إلى السلطة، لكن الأخير أراد لاحقا الاستفراد بالحكم، ورفض "مقاسمة السلطة مع أي كان، وانقلب حتّى على رفقاء دربه، وعمل على إقصاء القيادات الثورية والتاريخية من مؤتمر جبهة التحرير في أفريل 1964، وأحاط نفسه بالانتهازيين". بن بلة عمل على التخلص من رفقائه، بمن فيهم العقيد هواري بومدين، حيث نصّب الطاهر زبيري قائدا للأركان، في وقت كان وزير دفاعه "بومدين" غائبا في روسيا، وهي محاولة لتكسير شوكة الجيش، وإنشاء مليشيات أمنية تابعة إليه، لكن حسب بلعيد عبد السلام لم تكن فقط هذه هي الأسباب التي قادت بومدين إلى الانقلاب على بن بلة، إذ إنّ وزير الدفاع انقلب على رئيسه بسبب ما كان يراه تجاوزا لا يليق بالبلد الذي فجر ثورة أول نوفمبر، وهو فتح بن بلة الباب أمام تدخل الدول الأجنبية في الشؤون الداخلية للجزائر المستقلة حديثا، هذا ما ذكره بومدين في قمّة الخرطوم عام 1967، بومدين عارض ميل بن بلة إلى جمال عبد الناصر، كما عارض أيضا ميله الكبير إلى الحزب الشيوعي الجزائري، الأمر الذي عجّل بالانقلاب عليه. بلعيد عبد السلام يرى في بن بلة مناضلاً متأثرا بالأفكار الوطنية الشعبية الجزائرية، ويذكر أن الكل له الحق في انتقاد حركة 19 جوان 1965، واعتبارها انقلابًا، إلا بن بلة نفسه، لأنه قال لمحند ولحاج في الرباط قبل ثلاث سنوات من ذلك: "لديّ أربعون ألف رجل مسلح خلفي"، لكنّ أربعين ألف رجل قادمين من الحدود بقوا أوفياء لبومدين في النهاية. في سياق شهادته، يذكر صاحب الكتاب أن خبر الانقلاب فاجأ باريس في أوجّ المفاوضات الجزائرية الفرنسية لمراجعة بعض بنود "إيفيان" في ما يتعلق بالشقّ البترولي، وقال إنه علم من محيط بن بلة، أنه كان ينتظر تعيينه في أول حكومة شكلت في ديسمبر 1964، لكنه اصطدم ب"فيتو" بومدين، لكن غداة انقلاب 19 جوان تم تعيينه كوزير للصناعة والطاقة، وفي أول حكومة شكلها بعد الانقلاب، رغم أن الطاهر الزبيري قال عنه أمام بومدين، عندما ورد اسمه في قائمة الوزراء، إنه فارّ من الجنديّة، لكن بومدين أجاب الزبيري: "هناك أشياء أعرفها أكثر من أي كان"، واستدعى بومدين بلعيد عبد السلام إلى مقر وزارة الدفاع، وتحدث معه عن بن بلة، وقال له إنه "ما زال يذكر العمليات العسكرية في القبائل ضد أتباع آيت أحمد، وناحية بسكرة ضد أتباع شعباني، وأحداث الولاية الرابعة لا تزال ماثلة في ذاكرته، وطلب منه انتظار 24 ساعة، إلى حين الإعلان الرسمي عن الحكومة، والعودة إلى باريس كوزير للصناعة على رأس اللجنة الجزائرية لمواصلة المفاوضات مع فرنسا في شأن الاتفاقيات الخاصة، باستعمال المرسى الكبير والقواعد الصحراوية التي أقرتها اتفاقية "إيفيان"، التي كان بومدين معارضا لها. ويذكر بلعيد عبد السلام أن الرئيس بن بلة أخبره بعد خروجه من السجن بأنه فوجئ بقرار ديغول بإجراء تجارب نووية بالصحراء الجزائرية، وكان سيقدم على تأميم أراضي "الكولون" كردّ على هذه التجارب.
"اللغة الفرنسية" عرقلت الشراكة الصناعيّة مع الأجانب! ويدافع بلعيد عبد السلام في مذكراته عن سياسة التصنيع لبومدين، وقال إن الصحافة الفرنسية التي انتقدت السياسة التصنيعية التي انتهجها بومدين، وعزت انفجار أكتوبر إلى فشل تلك السياسة الصناعية التي وضعت الصناعات الثقيلة على رأس الأولويات، وهي التي استهلكت الكثير من الموارد ولم تخلق في المقابل مناصب شغل، مع انتقاد استنساخ النموذج السوفياتي، يقول عبد السلام بلعيد، إن تلك التحليلات الخاطئة كانت نابعة أساسا من رغبة فرنسا في إبقاء الجزائر في دائرة نفوذها، وجعلها سوقا أبديّا لها، ولاستنزاف المواد الأولية. كما ذكر أن الأوساط الفرنسية قابلت باستياء قرار الجزائر بإطلاق الصناعات البتروكماوية. بلعيد عبد السلام، الملقب بأبي الصناعة الجزائرية، كشف في كتابه أن الجزائر كان عليها أن تخوض "حربا" لتحرير القطاع من التبعية إلى فرنسا، وتغير نظام المعايير في ميدان المناقصات، وفق المعايير العالمية، حيث بقيت الجزائر إلى وقت قريب بعد الاستقلال تعمل وفق معايير "أفنور" بخصوص المناقصات، التي كان نادرا ما يستجيب لها الشركاء خارج فرنسا، وظلت عائقا في وجه تنويع الشراكة مع أطراف خارج فرنسا، إضافة إلى إجبار المتعاملين على تقديم عروضهم باللغة الفرنسية، وكذا التأثير الذي كان يمارسه الفرنسيون على المسؤولين والإطارات الجزائرية لإبعاد منافسيهم عن السوق الجزائرية. وقال بلعيد عبد السلام إنه طلب من المؤسسات ضرورة تغيير نظامها ومطابقة المعايير العالمية المعمول بها حتى في بلدان الاتحاد الأوربي، وهذا قبل خلق ديوان خاص ووضع مصلحة خاصة بمتابعة المشكل، وإيجاد نظام خاص بنا لاستقلالية الصناعة الجزائرية، والتخلص من ثقل القيود الفرنسية التي أبقت الجزائر طبقا لاتفاق 1949 ضمن دائرة النفوذ الفرنسي، عن طريق عقود الامتياز التي كان على الجزائر خوض حرب لإبطالها، وتحرير القطاع من التوابع الذين تركتهم فرنسا لتسيير شؤونها هنا، وعادة ما استطاعوا خلق ثروات طائلة من استغلال هذه العقود. كما عزا المتحدث جزءا من فشل مشروع الثورة الزراعية إلى كون المعارضين له، قد عملوا على تحويل الأراضي لصالح أشخاص في حزب جبهة التحرير الوطني.
الزبيري مكّن لأعوان الإدارة الفرنسية وساعدهم في الترقية! كما خصص بلعيد عبد السلام جزءا مهمّا من مذكراته للحديث عن محاولة الانقلاب على بومدين، التي قادها قائد الأركان الطاهر الزبيري في سنة 1967، التي كانت غنيّة بالأحداث محليا ودوليا، منها حرب الأيام الستة في الشرق الأوسط، وتنظيم أول انتخابات محلية في الجزائر منذ الاستقلال، وبداية بروز الصراعات حول السلطة. يذكر صاحب الكتاب أن الأسباب الحقيقية وراء محاولة انقلاب الزبيري غير معروفة بدقة، خارج اتهام بومدين بمحاولة الانفراد بالحكم هو وجماعته، وترك المناصب الثانوية والبسيطة للآخرين. وفي سياق شهادته عن هذه المرحلة، يكشف بلعيد عبد السلام أن الطاهر الزبيري طلب من بومدين تحييده عن وزارة الطاقة والصناعة والتنازل لواحد من اثنين: سواء لعروسي خليفة أو بلقاسم نابي، الذي أسند إليه الرئيس الشاذلي بن جديد لاحقا قطاع الطاقة. المعنيان، كانا تحت حماية الطاهر الزبيري، وقّدم الأخير على أساس أنه ضحية إقصاء جهوي، لكنه في الحقيقة موظف لدى الإدارة الفرنسية قبل التحاقه بالولاية الأولى، والاثنان لم ينجحا في حياتهما أبدا، ولم تكن لديهم أبدا مشاعر الوطنية أو النضال من أجل الوطن. ويواصل بلعيد عبد سلام شهادته قائلا: "لعروسي خليفة الذي التحق بالجبهة من المغرب في 1957، ولم يتحمل أي مسؤولية في الجبهة إلى غاية الاستقلال، وفضل مواصلة خدمته لشركة متعددة الجنسيات، ظل يخدم بها إلى ما بعد 1962 حسب بعض الروايات". ويقول بلعيد عبد السلام إن بعض الأصدقاء طلبوا منه زيارة الزبيري، لكنه رفض رغم الاحترام الذي يكنّه له كمناضل وطني، وكمسؤول وزعيم له مساره في الثورة والنضال الوطني، لأنه مسؤول أمام بومدين مباشرة، استنادا إلى الصلاحيات التي خولها له مجلس الثورة في قيادة البلاد. الزبيري، الذي اتهم بومدين بتقريب ضباط فرنسا ومنحهم الثقة الزائدة، هو نفسه اعتمد على وجوه من الإدارة الفرنسية، وساعدهم على الترقية في مناصب المسؤولية، مثل بلقاسم نابي الذي كان يقيم بالمغرب، وتخلى عن كامل التزاماته تجاه الجبهة، بل رفض أن يدفع اشتراكا بسيطا ورمزيّا لثورتنا التحريرية، وحتى عندما صار لاحقا عضوا في المحافظة السياسية للجبهة، بقي في خدمة أسياده القدماء، حيث كان يعمل في شركة بترولية مختلطة جزائرية فرنسية، كان يدافع فيها عن المصالح الفرنسية أكثر من دفاعه عن مصالح الجزائر، هذا ما دفعني- يقول بلعيد عبد السلام- إلى "تحييده من قطاع المحروقات، واشتكاني إلى الزبيري لاحقا، لأنّ هذا الأخير وجدني يومًا في إقامة بومدين وسألني: "إذا لم أكن عنيدا تجاه الفرنسيين في قضية الأسعار في مسألة المفاوضات التي أجريناها في قضية بيع الغاز الجزائري إلى فرنسا؟ حدث هذا في 1967 قبل وقت قصير من أحداث نهاية تلك السنة".