كم هو مدم للقلب، ومدمع للعين، ومؤلم للعقل، أن ترى سنبلة في عزّ اخضرارها وفي قوة نمائها تصاب بالذبول فتجفّ وتنحني لتصبح نبتة يابسة تذروها الرياح، وكم يعزّ على النّفس، أن يحوّل نهر رقراق عن مجراه وهو في غمرة هديره ليجهض مشروع خصوبة أرضه، وعذوبة شربه فتصاب روافده باليبس وشرايين ينابيعه بالكلس. * ذلك هو لقاؤنا بالموت، حين يفاجئنا، دون انتظار، فيقلب أملنا إلى يأس، ومرحنا إلى بأس ويحدث في النفس غصّة، ويحيل حيلتنا كلّها إلى مجرّد قصّة. * وإنّها معقولية اللاّمعقول في عالم الموت المليء بالأسرار والألغاز، فنتقبله على ما فيه من مرارة ونرضى بنتائجه على مايحدثه لدينا من خسارة. * وتلك هي حالنا، مع زميلنا الفقيد حمّودة سعيدي، ذلك المشروع الفلسفي الواعد، الذي لم يكتمل، فقد اختطفه الموت من بين أيدينا، وهو يتّقد حماسا فكريا، ويتلألأ عطاء فلسفيا وما كنا نحسب له حساب الموت، بالرغم من بعض أعراض المرض السّكري الذي كان يبثّنا، من حين لآخر، شكواه وكان آخر لقاء لي به، في ساحة جامعة بوزريعة، حين لقيته مع مجموعة من الزملاء، فاستقبلني كعادته ضاحك الوجه، طلق المحيّا، بآيات التبجيل والتقدير، وما كنت أدري أن ذلك هو اللقاء الأخير بيننا. * سألني ما مصير أعمال اليومين الدراسيين الذين نظمتهما جامعة قسنطينة في يونيو من عام 2006 تكريما لي؟ أجبته بأن القضية ميزانية، وأن المخبر الذي أشرف على تنظيم اليومين الدراسيين بقيادة الأستاذ الدكتور عبد الكريم أبو الصفصاف يشكو انعدام الميزانية المخصصة لذلك، وحالما يجد المال الكافي سيقوم بطبع الأعمال. عندها ردّ فقيدنا حمّودة سعيدي بانفعال مشحون بعاطفة وقّادة نحن على استعداد لطبع هذه الأعمال من مالنا الخاص فنحن طلاّبك، وزملاؤك سنفتتح اكتتابا لذلك، ويعلم الله كم تأثرت لهذا النوع من الخلق الذي يطبعه الوفاء لمن علّموه حرفا. * * قال لي: "إنّ هذا أقل ما يمكن أن نقدّمه لأساتذتنا الذين علّمونا". * وغاب عني حمّودة سعيدي ولم أدر أنه مريض، إلا عندما التقيت بالزميل العزيز الأستاد محمّد الحسن الزغيدي في الإذاعة، حينها أخبرني بأن الزّميل حمّودة سعيدي على سرير المستشفى بالبليدة فوعدته بأن أقوم بزيارته، ومن الغد ذهبت إلى رئيس قسم الفلسفة الدكتور عبد العزيز بن يوسف الذي كان مصحوبا بالدكتور مناد، وطلبت منهما أن نكوّن وفدا يتوجه لزيارة سعيدي، وكنت منذ أيام قبلها حدّثتهم عن تنظيم زيارة لأستاذنا الدكتور عبد الله شريط، متّعه الله بالصحة وكذلك لزيارة الدكتور الربيع ميمون كنوع من إحداث تقليد جامعي، يجب أن يسود في جامعاتنا وتواعدنا على ذلك، وطمأنني الأخ عبد العزيز، بأن الدكتور حمّودة سعيدي قد غادر المستشفى، وهو في بيته وتلك علامة صحّة، وبالرغم من ذلك اتفقنا على تنظيم الزيارة لبيته، ويومان فقط بعد ذلك فاجأني الزميل العزيز الدكتور الأخضر شريط بنعي الدكتور حمّودة سعيدي، وأنه تم دفنه في ذلك اليوم دون أن أعلم. * لقد نزل عليّ خبر موته كالصاعقة، ولولا إيماني بالقضاء والقدر لغمرني قنوط، ولأصابني سقوط، فمصيبة الموت، حينما تختطف عزيزا كحمّودة سعيدي، وهو في ريعان عطائه وجزر شقائه تزرع معاني كثيرة في قلب من عرفوه، وأحبّوه، وفقدوه. * عرفت حمودة سعيدي، طالبا، في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، فكان مع مجموعة من زملائه يزيّنون قسم الفلسفة، ويمثلون البراعم الفكرية للتفلسف في الجزائر. وقد كان قسم الفلسفة، آنذاك، يعجّ بكفاءات فلسفية متميّزة، وهي التي يعود إليه الفضل في وضع التفلسف في بلادنا على سكة منهجية صحيحة، وقد نجحت في التعريف بالفكر الفلسفي الجزائري عبر العالم. وقد برز اسم حمودة سعيدي في أوائل الثمانينات، فكان أحد أربعة طلاب نجحوا في أول مسابقة للماجستير، ينظمها معهد العلوم الاجتماعية بالخروبة الذي كان يضم قسة الفلسفة وقسم التاريخ، وقسم علم الاجتماع، وقلم علم النفس. * كنت يومها مشرفا على الدراسات العليا، واسندت إليّ مهمة تنظيم مسابقة ماجستير الفلسفة، فخضعت المسابقة للمعايير الجامعية المطلوبة، من وضع الأسئلة، والمراقبة، والتصحيح.. إلخ فأفرزت المسابقة فوز أربعة طلاب، من عشرات المشاركين، وكان الأربعة هم: حمودة سعيدي، ومحمد بن بريكة، وعبد الباقي هزرشي، وبوعلام الله، وكلهم أصبح لهم شأن في الدراسات الجامعية الفلسفية غير أن نجاح هؤلاء الأربعة فقط من بين العشرات من المشاركين، لم يمر بسلام، إذ كانت تمثل بدعا في الامتحان الجامعي، لذلك بدأت الضغوط علي لإضافة بعض الطلاب إلى عدد الناجحين، وكان آخرها استدعائي من طرف رئيس الجامعة آنذاك الدكتور رشيد توري، رحمة الله عليه، الذي بدأني مازحا: إلى أين تريدون أن تصلوا بالفسلفة؟ لقد احتلّ أساتذة الفلسفة، شاشة التلفزيون وميكرفون الإذاعة وأعمدة الصحف"، وأخذ يعدد لي الأسماء "عبد المجيد مزيان، وعبد الله شريط، والشيخ ألوعمران ص6، وعمّار طالبي، وعلي زكي، وأنت فماذا تركتم لباقي الأقسام؟" قلت له بأن باب الإذاعة والتلفزيون واسع وكبير ومفتوح أمام الجميع وماذا نفعل إذا نجحت الفلسفة في فتح الأبواب في بلادنا، ونجحت في العالم في فتح الأنظمة؟ إن الفلسفة لم تمنع أية كفائة، من تسلّق أبواب الإعلام بجدارة، ولا في كسب معالم الشهرة باستحقاق؟ وكان واضحا، أن هذه الدعابة من رئيس الجامعة، لم تكن إلا مقدمة للوصول إلى الهدف المقصود، وهو مسابقة ماجستير الفلسفة. * قال المرحوم رشيد توري، أنّه لا يعقل أن ينجح أربعة فقط في مسابقة من بين العشرات، وقلت ما حيلتي إذا كانت المعايير العلمية المطبقة لم تفرز إلا هؤلاء الأربعة؟ فأضاف على كلّ يجب إنقاذ آخرين، لأن هذه النتيجة تحرجني كمسؤول أول في الجامعة. قلت له إن شهادة اللسانس يقصد بها العيش لذلك قد يخالط امتحانها نوع من العاطفية الإنسانية أم امتحان الماجستير فالمقصود منه اختبار القدرة العلمية للمترشح على مزاولة البحث العلمي، ذي النفس الطويل وأضفت قائلا: "على كل حال زمامك حلّ من اثنين، إما إعادة المسابقة، وتكليف من يقوم بإعدادها، وفي هذه الحالة عليك أن تتحمل مسؤولية ما يتبع عن ذلك من ردود أفعال وإما أن تبقى على النتيجة، وهي نتيجة اشترك في صنعها كل أساتذة القسم". وهكذا بقيت نفس النتيجة، وصدقت الأيام صحّة التقدير فالأربعة المتفوّقون هم من خيرة ما أنجب القسم ومنهم فقيدنا حمودة سعيدي. * لقد نجح هذا الباحث المتميّز في اقتحام مجالين، ما أحوج الجزائر إليهما وهما الفكر الفلسفي الإسلامي، كما وضع معالمه مالك بن نبي، فكان أحد المتخصصين فيه، والمجال الثاني هو الإبستيمولوجيا أو نظرية المعرفة، التي هي اليوم دعامة الإيديولوجيات، وصانعة التفكير العقلي ونجح حمّودة في هذا المجال أيضا. * واليوم إذ تجهص الموت مشروعا فلسفيا، في طريق الاكتمال، فإنّه يصيب التفكير العقلي في بلادنا الذي يحبو ويكبو، بنوع من الإعاقة، يضاعف من تأزم الفلسفي في جزائرنا، وتلقي بالصدمة والدهشة، ولو إلى حين، في عقول زملاء وطلاّب الفقيد حمودة سعيدي. * ولعلّ خير ما يقدّمه الجميع، من معاني الوفاء لفقيدهم، هو الوفاء لروحه الفكرية، فيخلد اسمه في مدرج أو مركز علمي، كما يقوم الباحثون على جمع إنتاجه، وتقديم مقالات أو بحوث أو دراسات عنه. * نحن نعلم، أن الكلمات لن تفي حق عزيزنا من الوفاء، وهو الذي ضحى بعنفون شبابه في سبيل العمل الجامعي، وستبقى اللوعة في أحشائنا، والحسرة في عقولنا لفقده ونقول له: "نم هانئا في عنبر الرّواد الخالدين المفكرين من فلاسفتنا، عبد المجيد مزيان، وكربيع النيهاني، وعلي علواش، وعطا الله زرارقة، وغيرهم، ممّن جف سحر الحياة في قلوبهم وعقولهم، وحسبنا أن نقول، بأننا على العهد وإنّا لفراقهم، لمحزونون، ولكن لا راد لقضاء الله، فالموت باب وكلّ الناس داخلوه".